"عمري 72 سنة وزوجتي 65 سنة، وكنا من أوائل الراغبين في التلقيح ضد كوفيد-19، فسجّلنا في منظومة 'إيفاكس' منذ كانون الثاني/ يناير، لكننا لم نتلق حتى الآن الاستدعاء للتلقيح. ألغينا التسجيل الأول وأعدنا الطلب عدة مرات عسى أن يتغير الأمر، دون جدوى. اتصلنا بالرقم الأخضر المجاني الموضوع على ذمّة المواطنين للاستفسار عن اللقاحات فلم نتلقَ رداً. حينها تواصلنا مع مسؤولين في مراكز التلقيح لفهم ما يجري، فتنصّل الجميع من المسؤولية. بقينا حائرين بلا جواب ونحن نرى الكثيرين ممن هم أصغر سناً منا وقد تلقوا الجرعتين الأولى والثانية".
هكذا تحدث علي عبيد، موظف متقاعد من تونس العاصمة، عن عدم حصوله حتى الآن هو وزوجته على اللقاح المضاد لفيروس كورونا، رغم أن عمرهما ووضعهما الصحي يسمحان بذلك، شأنهما شأن كثيرين من أصحاب الأولوية وممن يعانون من أمراض مزمنة، لكن لم تتم دعوتهم بعد للتطعيم رغم تسجيلهم المبكر في المنظومة الخاصة بذلك، في حين سبقهم للأمر آخرون أصغر سناً.
يتخوف تونسيون من التلاعب بمنظمة لقاحات كورونا وإقصاء بعض المستحقين للقاح لحساب مسؤولين ومتنفذين.
وكانت تونس قد وضعت منذ بداية العام منظومة آلية تحت اسم "إيفاكس"، تستدعي من خلالها المعنيين باللقاح تباعاً وفق أولويات محددة ضمن مجموعات، الأولى تشمل مهنيي الصحة الذين يتعاملون يومياً مع مرضى كوفيد-19 والمسنين الأكبر من 75 سنة، والثانية من تتراوح أعمارهم بين 60 و75 سنة مع باقي مهنيي الصحة، والثالثة الأشخاص بين 18 و60 سنة الحاملين لأمراض مزمنة مع مهنيي المصالح الأساسية كالتعليم والنقل، والرابعة تضم الأشخاص المخالطين بصفة وثيقة للأشخاص المعرضين لخطر مع مهنيي المصالح الأخرى، ثم الخامسة وتشمل الأشخاص بين 18 و60 سنة ممن هم في صحة جيدة.
ومع تعهّد وزارة الصحة بأن تقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ "الإنصاف والمجانية"، ساد اعتقاد أن المنظومة ستكون كفيلة بتحقيق الشفافية المطلوبة وتقطع سياسة المحسوبية والمحاباة التي تسود العديد من مفاصل الحياة في البلاد. لكن سرعان ما خابت التوقعات في ظل تتالي التجاوزات.
يضيف عبيد لرصيف22: "إذا ما سلّمنا بادعاءات المسؤولين بأن الفوضى في التلقيح من فعل الصدفة أو ناتجة عن عطب في البرنامج، فلماذا لا يتم إصلاحه؟ أخبرونا بأن هناك خللاً في المنظومة سيصلح في غضون أسبوع. مر الأسبوع ولا شيء تغير سوى أننا نرى كيف يلقح الأصغر سناً وتسرق أدوارنا أمام أنظارنا".
تجاوز و"أخطاء تقنية"
في الأسابيع والأشهر التالية لإطلاق المنظومة، تصاعد الجدل بين صفوف التونسيين بسبب ما أسماه البعض "سياسة التمييز والمحاباة في تلقي اللقاح"، وتحدثوا بغضب عن توجيه الجرعات لغير مستحقيها، والقفز علانية على الأولويات تحت حجج على رأسها الأخطاء التقنية.
إذا ما سلّمنا بادعاءات المسؤولين بأن الفوضى في التلقيح من فعل الصدفة أو ناتجة عن عطب في البرنامج، فلماذا لا يتم إصلاحه؟ أخبرونا بأن هناك خللاً سيصلح في غضون أسبوع. مر الأسبوع ولا شيء تغير سوى أننا نرى كيف يلقح الأصغر سناً وتسرق أدوارنا أمام أنظارنا
ومن أهم أسباب هذا الغضب، خروج رئيس الحكومة هشام المشيشي نهاية الشهر الفائت في صورة تظهره وهو يتلقّى اللقاح. توقع الجميع أن الأمر يدخل في سياق التشجيع على التلقيح باعتباره أحد الرئاسات الثلاث، لكن التونسيين عرفوا لاحقاً أن الأمر كان أشبه بإعلان لبداية تلقيح أعضاء الحكومة والمستشارين ومدراء المنشآت العمومية والولاة والمعتمدين وعائلاتهم وأصدقائهم، وعدد كبير منهم ينتمي للمجموعة الثالثة، في حين أن نسب الأشخاص الذين تلقوا اللقاح ضمن المجموعة الأولى لم يتجاوز 64%، وضمن المجموعة الثانية لم يتعدى 47%.
تزامن ذلك مع إقرار وزير الصحة مطلع الشهر الحالي بوجود خلل فني في المنظومة الخاصة باللقاحات، أدّى لحرمان 60 ألف مواطن مسجلين ضمن المجموعتين الأولى والثانية من الجرعات المخصصة لهم، وهو أمر تحدث عنه أيضاً رئيس لجنة المالية بالبرلمان التونسي، هيكل المكي، خلال حوار إذاعي، وفي وقت لاحق برّرت الوزارة الأمر بعطب فني، وتعهدت بإصلاحه بأسرع وقت.
لكن مرور الأيام دون تحقيق ذلك دفع تونسيين للتساؤل عن سبب تزامن إسقاط هذا العدد الكبير من المواطنين من المنظومة مع الشروع بتلقيح أعضاء الحكومة والعديد من المسؤولين وذويهم، علماً أن الانتقال من فئة إلى أخرى لا يتم إلا بعد استكمال اللقاحات أو عندما توشك على النهاية، واعتُبر هذا التجاوز بأنه "مدروس ومتعمّد".
وضمن هذا السياق، تحدث الناشط السياسي عدنان منصر لرصيف22 واصفاً ما حدث بأنه "جريمة": "سقط ستون ألفاً ممن يتجاوز عمرهم الستين سنة 'سهواً' من المنظومة، وعلى الأغلب لن يتم تدارك هذا السهو، لأن قسماً هاماً من اللقاحات المسهو عنها ذهبت لأعضاء الحكومة. بالتوصيف القانوني البسيط، ما حدث ليس فقط سرقة بإشراف الحكومة، وإنما جريمة شروع في القتل ضد الستين ألفاً المذكورين على لسان وزير الصحة".
وأضاف: "الأمر أكبر من سرقة لقاحات وتوزيعها على الأتباع والأصدقاء، هو ببساطة افتكاك حظ في الحياة والنجاة من الأكثر استحقاقاً. الأمر يتعلق بحكومة فشلت في وضع خطة لمجابهة الوباء، ثم فشلت في وضع خطة شفّافة للتلقيح، ثم افتكت حق الحياة من ستين ألف تونسي هم آباؤنا وأمهاتنا وأساتذتنا وأشقاؤنا وجيراننا".
يوسف مليك، وهو خبير متقاعد من محافظة أريانة شمال شرق تونس، يقترب من إتمام عامه التاسع والسبعين ويعاني من أكثر من مرض مزمن، تقدّم للتسجيل مبكراً في منظومة التلقيح ولا يعرف متى سيحين دوره، رغم انتمائه للمجموعة الأولى.
الأمر أكبر من سرقة لقاحات. هو افتكاك حظ في الحياة والنجاة من الأكثر استحقاقاً، ويتعلق بحكومة فشلت في وضع خطة لمجابهة الوباء، ثم فشلت في وضع خطة شفّافة للتلقيح، ثم افتكت حق الحياة من ستين ألف تونسي هم آباؤنا وأمهاتنا وأساتذتنا وأشقاؤنا وجيراننا
ويقول لرصيف22: "سجلت في منظومة إيفاكس في 20 كانون الثاني/ يناير، ولم أتلق حتى الآن إشعار التلقيح، رغم أنني مسن وأعاني أمراضاً مزمنة منها السكري وضغط الدم. كنت أعتقد أن تسجيلي المبكر وعمري المتقدم ووضعي الصحي الدقيق سيشفعون لي لأكون من الأوائل الذين يتلقون التطعيم، لكن عبثاً أملت. وما يحزّ في نفسي أنني علمت بتلقيح بعض الأصدقاء من أبناء نفس الحي الذي نقطنه، ممن هم في نفس عمري وأصغر سناً وبأمراض أقل، في حين أكتفي بالمراقبة. لم أعد أفهم ما هي الطريقة المتبعة في ضبط أولويات التلقيح، وهل أنا من بين الستين ألفاً الذين سقطوا سهواً لتذهب جرعاتنا إلى مسؤولي الدولة؟".
"ننتظر دوراً لا ندري متى يأتي"
عندما طرحت الحكومة استراتيجية التلقيح المذكورة، وعدت بأن يتلقى ثلاثة ملايين تونسي، أي ربع التونسيين، اللقاح بحلول نهاية شهر حزيران/ يونيو، لكن مع بلوغ عدد من حصلوا على اللقاح حتى اليوم حوالي نصف مليون فقط، يتخوّف تونسيون كثر من أن تكون هذه الوعود رهاناً صعب المنال نظراً لمعدل التلقيح اليومي، وأن تسقط داخل دائرة الفوضى والفساد، باستمرار تلاعب الحكومة بإدارة الملف الصحي وبأولويات التلقيح، وترك آلاف المواطنين وهم ينتظرون دوراً قد لا يأتي أو يحتاج لأشهر في أحسن الظروف، خاصة وأن عدد الإصابات في تونس تجاوز 325 ألف حالة.
وعدت الحكومة بأن يتلقى ثلاثة ملايين تونسي اللقاح بحلول نهاية شهر حزيران، لكن حتى الآن تلقح فقط حوالي نصف مليون شخص.
وإضافة للخروقات المذكورة، نشرت المنظمة الرقابية "أنا يقظ" نهاية الشهر الفائت تدوينة تحدثت فيها عن تلقي النائبة أروى بن عباس، من حركة النهضة، الجرعة الأولى من اللقاح دون دعوتها عن طريق منظومة "إيفاكس"، ورغم عدم انتمائها للمجموعتين الأولى والثانية، وهو أمر نشرت حوله حركة النهضة بياناً طالبت فيه النائبة بالاعتذار عن الأمر معتبرة أنه خاطئ، وأن من الضروري احترام الاستراتيجية الوطنية للتلقيح.
وأشارت منظمة "أنا يقظ" ضمن منشورات أخرى إلى خلل في عملية التلقيح والأولويات المحدّدة ضمنها، مطالبة بالتدخل العاجل وتوضيح ما يجري للمواطنين. كما تداول تونسيون صورة تظهر ابنة صاحب إحدى شركات مواد التجميل وهي تتلقى اللقاح بتاريخ مبكر رغم سنّها الصغير، وبعد الانتقادات التي طالتها نشرت مقطع فيديو حذفته لاحقاً، وبررت فيه حصولها على اللقاح قبل أصحاب الأولوية، قائلة إنه "من حقها".
وأمام هذه الإخلالات المتتالية، قدمت مجموعة من المحامين في الرابع من الشهر الحالي شكاية ضد كل من رئيس الحكومة ووزير الصحة ومدير الحملة الوطنية التلقيح ضد فيروس كورونا، لعدم احترام الإجراءات والتراتيب والأولويات المعلن عنها.
أشارت منظمة "أنا يقظ" إلى خلل في عملية التلقيح والأولويات المحدّدة ضمنها، مطالبة بالتدخل العاجل وتوضيح ما يجري للمواطنين. كما تداول تونسيون صورة تظهر ابنة صاحب إحدى شركات مواد التجميل وهي تتلقى اللقاح بتاريخ مبكر رغم سنّها الصغير
وضمن هذا السياق قال المحامي ياسين قزارة لرصيف22: "قُدمت شكاية جزائية ضد كل من رئيس الحكومة هشام المشيشي، وزير الصحة ومدير الحملة الوطنية للتلقيح، بخصوص توزيع لقاحات فيروس كورونا وما اعترى العملية من عدم مراعاة الأولويات التي سبق وأعلنت عنها وزارة الصحة. التلقيح حق لكل التونسيين دون استثناء، ومن غير المقبول أن يستأثر بذلك أصحاب المناصب وكبار العائلات، في حين يترك بقية الآباء والأمهات وكبار السن وهم يواجهون مصيرهم دون أن ينالوا حقهم الشرعي في التلقيح والنجاة".
زهور تحدّثت هي الأخرى بحرقة لرصيف22 عن خوفها الكبير على والدتها التي لم تدعَ حتى الآن لتلقي الجرعة الأولى من التلقيح، رغم تسجيلها المبكر وسنها المتقدم.
تقول: "لا أدري ماذا يجري وكيف يتم التعاطي مع توزيع الأولويات في عملية التلقيح، فوالدتي ذات الأعوام التسعة والستين مصابة بضغط الدم، وأجرت عمليتين لاستئصال أورام سرطانية، وما زالت تنتظر دوراً لا ندري متى يأتي. أراها خائفة ويائسة من دولتنا التي قتلت فينا إيماننا بالعدالة والكرامة وتملّصت جهراً من مسؤولياتها إزاء ضمان حقنا في النجاة والحياة. تقول لي: 'يكفي يا بنتي لا ترهقي نفسك أكثر سلمت أمري لخالقي'، فأشعر بالقهر والظلم، وتنتابني الأسئلة. كيف بوسع الحكومة أن تدوس على حياة آبائنا وأمهاتنا بكل هذا البرود؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...