تقديم شخصية المحامي أو الممرّض أو عامل السكك الحديدية في مسلسلات درامية، وأخرى ساخرة، أثارت في المغرب استهجان مزاولي تلك المهن الذين عدّوها اعتداءً على صورتهم. هؤلاء رأوا في تلك المسلسلات استفزازاً وتهجّماً عليهم، من خلال تعميم صورة خاطئة عنهم، ما يعقّد علاقتهم بالمجتمع. في المقابل انبرت منظمات ونقابات للممثلين للدفاع عن تلك المسلسلات التي تلقى رواجاً كبيراً في رمضان، وعن "الحق في الإبداع". فهل يعاني المغاربة عقماً في خيالهم؟
المحامي "مقدّس"
في بداية شهر رمضان، شرعت القنوات المغربية في بث مسلسلات تعالج قضايا مختلفة من خلال حلقات متنوعة تقدّم قصصاً اجتماعية. بعضها سرعان ما حصل على شعبية واسعة تؤكدها نسب المشاهدة التي تنشرها القنوات يومياً لتأكيد صدارتها. إلا أن نجاح البعض منها لدى الجمهور لم يشفع لها عند مزاولي تلك المهن الذين رأوا أن صورتهم شُوّهت، وأن مهنهم أصبحت أضحوكةّ ومثار انتقاد مجاني.
إعلان مسلسل "بنات العسّاس"
مسلسلات "بنات العسّاس" (بنات الحارس) أو "كلّنا مغاربة"، وأيضا "قهوة نص نص"، جعلت كثيرين ينظرون إلى النصف الفارغ من الكأس، كـ"الجمعية الوطنية للمحامين الشباب في المغرب" التي تقدمت بشكوى إلى "الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري" (الهاكا)، وهي المؤسسة العمومية التي تُعدّ "شرطي الإعلام" الذي يتابع بدقة محتوى القنوات الوطنية، ويعاقبها في حال تجاوزت القانون أو انتهكت أخلاقيات الإعلام والصحافة وفق نصوص قانونية محددة. الهيئة تلقت أيضاً شكوى أخرى من "الجامعة الوطنية لمستقبل السككيّين"، وهي منظمة تابعة لنقابة "الاتحاد الوطني للشغل"، عبّرت فيها عن استيائها من إحدى حلقات مسلسل "كلنا مغاربة"، الذي يعرض شخصية موظف في السكك الحديدية.
تقديم شخصية المحامي أو الممرّض أو عامل السكك الحديدية في مسلسلات درامية، وأخرى ساخرة، أثارت في المغرب استهجان مزاولي تلك المهن الذين عدّوها اعتداءً على صورتهم. فما السبب؟
محامٍ آخر، لم يتوقف عند هذا الحدّ، بل رفع دعوى قضائية عاجلة أمام محكمة في العاصمة المغربية الرباط، يطالب فيها بإيقاف بث المسلسل الكوميدي "قهوة نص نص". وبرّر المحامي في نص شكواه التي قدّمها إلى المحكمة بأن المسلسل "يروم بشكل واضح المساس بالمكانة الاعتبارية للمحامي، والانتقاص من دوره في أداء مهام الدفاع في إطار قانون مهنة المحاماة"، ليخلص إلى أن هذا الانتقاص "يشكّك في نبل رسالة المحامي، وفي منظومة العدالة برمّتها، ويترك انطباعاً لدى المواطن بعدم جدّيته في ولوج محراب العدالة ومسؤوليته".
ظاهرة موسمية
بالنسبة إلى الناقد المغربي سليمان الحقيوي، فإن هذه الظاهرة ليست جديدة وتتكرر سنوياً، وتضمر في العمق "تجاهلاً كبيراً لكيفية بناء العمل الفني والأدبي. فالشخصية الأدبية تظلّ شخصية حبيسة الأوراق، تنتمي إلى العالم المتخيّل، ووجودها رهين دفتي الكتاب. أما الشخصية في الأعمال المتخيّلة مهما كانت واقعية، فلا تنتمي إلى الواقع، بل تظل حبيسة بداية الجنريك ونهايته".
ويضيف الحقيوي في حديثه لرصيف22 أنه: "ليس هناك واقع مستعاد بحذافيره، وليس هناك تشويه لصورة فئة أو شخصية في المجتمع، إلاّ بمقدار التوجّس الذي يقود قارئاً أو مشاهداً ما إلى إسقاط تجربته الحياتية الخاصة التي قد تكون أو لا تكون من صميم تفكير العمل. إنها إسقاطات ‘القارئ الفعلي وليس القارئ النموذجي’ وفق تعبير أمبرتو إيكو. فليس مطلوباً من العمل الفني أن ينضبط مسبقاً، بانتظار أحد، بل من حقّه أن يشير إلى اختلالات الواقع، وأن يحسن معالجتها فنياً".
ما الذي يدفع إلى هذه الحساسية المفرطة تجاه أعمال تخييلية، رغم أنها تستوحي نماذج من المجتمع، وهو أمر أصبح يتكرر تقريباً كل عام من قِبل طبقات فنية مختلفة؟ مغاربة يحتجون على أعمال رمضان
موقف الناقد السينمائي يتقاطع مع موقف "النقابة المغربية لمهنيّي الفنون الدرامية"، التي نشرت بياناً يندّد "بالمواقف المحرّضة على تقليص مجال حرية الإبداع في الدراما التلفزيونية". وأكدت النقابة على "أن الحق في انتقاد مضامين وأشكال الأعمال الفنية من الجمهور العريض والنقّاد ومختلف الشرائح الاجتماعية، مكفول ومشروع". إلا أنها نبّهت إلى "المحاولات غير المفهومة للتحريض على حرية الإبداع بمبررات واهية ذات معايير بعيدة كل البعد عن مفاهيم ومعايير النقد الفني، متناسية أن رهان الحق في التعبير مكفول بالدستور".
لكن، ما الذي يدفع إلى هذه الحساسية المفرطة تجاه أعمال تخييلية، رغم أنها تستوحي نماذج من المجتمع، وهو أمر أصبح يتكرر تقريباً كل عام من قِبل طبقات فنية مختلفة؟ البعض يرى أن السبب يكمن في تقديمها صورةً مشوّهة عن بعض الفئات كالشعراء والكتاب والمثقفين وغيرهم.
وتقول الممثلة المغربية والمخرجة المسرحية فاطمة الزهراء لهويتر، إن الأمر أصبح "تقليداً رمضانياً". ففي كل عام تتكرر في الأحاديث كلمة "حامض" عن الإنتاجات التي تشير في القاموس الشعبي إلى ندرة جودة الإنتاجات الرمضانية. وتضيف: "لقد اتخذ الناس عادة الانتقاد السيء أحياناً حتى قبل أن يشاهدوا الأعمال الفنية. بطبيعة الحال يجب الانتقاد لتتطور الأشياء، ولدى البعض الحق في ذلك، بسبب المستوى الضعيف لبعض المسلسلات الكوميدية التي تجعلنا نضحك ثلاث مرات فقط بعد ثلاثين حلقة".
لو كنّا معتادين على الذهاب إلى المسرح وصالات السينما والموسيقى واستهلاك الجمال منذ صغرنا، ولو كانت هذه الأمور حقاً وليست امتيازاً، لكان مجتمعنا يضمّ مواطنين يعرفون معنى الإبداع
وأضافت المخرجة المسرحية: "للأسف هذه الانتقادات تخرج أحياناً عن نطاق الأدب. في أحد الأيام تظاهر المواطنون الكوريّون لأن التلفزيون لا يحترم ذكاءهم واستجاب لهم. لكن هذا مرتبط بالتربية الكوريّة، التي تقدم محتوى متنوعاً للمشاهد منذ نعومة الأظفار، ما يمكّن المواطن من تكوين رأي يدافع عنه بعقلانية".
ويرى البعض أن هذه الظاهرة أصبحت أكثر انتشاراً في صفوف الطبقة المتوسطة كما لو أنها تريد أن تحفظ لنفسها مكانة اعتبارية داخل المجتمع، كي تقتصر الإنتاجات الكوميدية على رسم صورة "كاريكاتورية" لشخصية البدويّ أو سكان الأحياء الشعبية الذين لطالما شكّلوا مادة دسمة لـ"فكاهة" رمضان.
ويقول الحقيوي في هذا الاتجاه: "المؤسف حقاً، أن مثل هذه الاعتراضات تُثار من لدن فئات تشكّل الطبقة الوسطى، التي كان أحد أهم التزاماتها في الماضي تغيير المجتمع للأفضل، عبر الانخراط في العمل الثقافي والفني والرفع من منسوب الوعي فيه. الطبقة نفسها التي انخرطت بشراهة كبيرة في تجربة الأندية السينمائية في الماضي. تجربة تجني السينما المغربية ثمارها اليوم. إنها اليوم الفئة التي صارت تعترض على قيم جوهرية في التعبير الفني وهي قيم الحرية".
مسألة تربية
تغيب التربية على الصورة عن المناهج التعليمية في المغرب، وغالبية الصالات السينمائية أُغلقت في السنوات الأخيرة، كما أن جلّ الأعمال التي يشاهدها المغاربة قادمة من دول أخرى. أما الإنتاجات المحلية فتظلّ أسيرة توزيع ضيّق داخل البلاد أو ضمن مهرجانات أجنبية. وتبقى اللحظة النادرة التي يكون فيها دفق من "الصور المتخيلة" المغربية، مرتبطة برمضان عبر اللجوء إلى "الكوميديا" في غالبية الإنتاجات.
بالنسبة إلى لهويتر تُعدّ هذه من أهم الدوافع التي تؤدي إلى الاحتجاج الذي تُلاقى به الأعمال الرمضانية. وقالت: "إننا نعاني من غياب الثقافة الفنية. لو كنّا معتادين على الذهاب إلى المسرح وصالات السينما والموسيقى واستهلاك الجمال منذ صغرنا، ولو كانت هذه الأمور حقاً وليست امتيازاً، لكان مجتمعنا يضمّ مواطنين يعرفون معنى الإبداع، والفرق بين الخيال والواقع، ويملكون أساليب ذكية لانتقاد هذه الإنتاجات".
وتبدو هذه الإنتاجات، إلا فيما ندر، محاولة لملء فراغات الجهل عبر كتابة السيناريو، واستسهالاً للإخراج الفني، وتقليداً لا يواكب تغيّرات المجتمع ومتطلباته. ولربما يشكّل هذا جزءاً من الأسباب التي تدفع بعض المغاربة إلى الامتناع عن مشاهدة الأعمال الرمضانية، والهجرة إلى المسلسلات الشرقية، أو انتقاد الإنتاجات المحلية ورفضها. هذا إلى جانب الصور النمطية التي تروّجها. وإن كان الإبداع حقاً لصنّاع المسلسلات، فاحترام ذكاء المشاهد حق واجب أيضاً كما يقول كثيرون.
تدافع لهويتر عن حرية الإبداع، لكنها تحذّر أيضاً من انتشار الصور النمطية التي تقدّمها الأعمال الرمضانية عن شخصيات من المجتمع، قائلةً: "على هذه الأعمال أن تأخذ الوقت الكافي وأن لا تُنتَج بشكل متسرّع. عندما نملك شخصية كُتبت وبُنيت بشكل جيد، ويؤدّيها الممثلون ببراعة، لا أرى أي سبب في أن لا تعجبنا، ولدينا مثال واضح على هذا، ألا وهو الممثل والمخرج حسن الفد".
ويُعدّ الفد من أبرز الممثلين المغاربة وأكثرهم شعبية في أوساط الجمهور، لأنه يستوحي شخصيات من المجتمع ويقدّمها بنكهة تُمتّع الصغار والكبار، إلى حد أن بعض شخصياته دخلت القاموس العام، مثل شخصية "كبور" العجوز الماكر الذي يبرز مفارقات المجتمع من دون تهجّم على أحد.
لكن غياب هذه الموهبة عند كثيرين، تقول لهويتر، تفرض "أن يعترف البعض أنهم ليسوا موهوبين، وأن يختاروا: إما التوقف عن إنتاج المسلسلات الكوميدية، أو الاستمرار في إنتاجها بذكاء أكبر". وتضيف: "لم لا نتوقف عن إنتاج هذه المسلسلات الموجّهة لجمهور رمضان، ومعها الكاميرا الخفية المثيرة للجدل بدورها، ونبدأ بالاهتمام حقاً بالمسلسلات الدرامية التي أصبح مستواها أفضل بكثير. أنا على يقين أن هذا الشقّ سيدفع إلى تحسنها كثيراً في الأعوام المقبلة".
"الحكماء" ضد الرقابة
بعد أن طال الجدل وتشعّب، خرجت "الهاكا" عن صمتها رغم أنها نادراً ما تتواصل بخصوص هذه المواضيع. ودافعت الهيئة التي يوصف أعضاؤها "بالحكماء"، عن حرية الإبداع في بيان مؤكدةً على أنه الأصل في المجتمع. وقال بيان للهيئة: "إن حرية الإبداع الفني كما هي مضمونة دستورياً، لا سيما في الأعمال المتخيّلة، جزء لا يتجزأ من حرية الاتصال السمعي البصري". وأضاف البيان: "التمثيل النقدي لمهنة معنية بعمل فني سمعي بصري لا يشكل قذفاً ولا إساءة (ما دام يحترم القانون). كما أن المطالبة بتوظيف الأعمال المتخيّلة لشخصيات/ نماذج تجسّد حصراً الاستقامة والنزاهة في تقمّصها أدواراً منتسبة لمهن معينة، فهو ليس مسّاً بحرية الإبداع فحسب، بل أيضاً تجاهل لدوره في ممارسة النقد الاجتماعي ومعالجة بعض السلوكيات والظواهر المستهجنة". كما أشار بيان الهيئة إلى أخطاء قانونية عدّة شابت الشكاوى المرفوعة إليها ومن ضمنها "المطالبة بالرقابة القبلية للأعمال الفنية".
ويرى الحقيوي أن الهيئة "حسناً فعلت عندما وضعت حداً لظاهرة اعتراض فئات مهنية على عمل فني يقدّم صورة لا يرغبون فيها. غلّب بيان "الهاكا" لغة الحرّية وقيم الفن، وهو رسالة ترفع الكثير من اللبس لدى هذه الفئات بين حدود الواقع والخيال في الأعمال الفنية".
ويخلص الناقد إلى أن "المسألة هنا غير مرتبطة بعمل فنيّ ما، أو بحالة فزع أصحاب مهنة، اليوم أو غداً، بل بما يمكن أن يصير رقابة مجتمعية ضد أيّ عمل فني أو أدبي مستقبلاً، وبمسوغات تتعدّد في كلّ مرة، إلى درجة قد يصبح معها الحق في التخييل محرّماً". محرمات قد تؤدي إلى وأد الحرية في الإبداع... ولو كان "حامضاً" بلهجة المغاربة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...