اختفى المشهد الشهير في الأعمال الدرامية والسينما لامرأة مستلقية على ظهرها، تصرخ وهي في حالة ولادة، بينما امرأة أخرى تتشح بالسواد، تنادي من حولها تستعجلهم بإحضار الماء الساخن، لتوليد المرأة واستخراج روح جديدة للحياة.
تقطع "الخلاص" وتعطي الطفل لأمه بعدما تمت مهمتها بنجاح. إنها "الداية" أو "القابلة" التي كانت المسؤولة عن توليد النساء طوال التاريخ، قبل أن تختفي هذه المهنة العريقة القدم لصالح انتشار عمليات "الولادة القيصرية".
اختفت مهنة "القابلة" في الواقع، وليس على شاشات السينما هذه المرة، لتعود في ثوب جديد في العالم العربي ومصر، باسم "Midwife" بعد التوعية العالمية بأهمية الولادة الطبيعية على صحة الأم والطفل، وخطورة العمليات القيصرية. وبعد أن تضاعفت نسبة هذه العمليات في مصر إلى أكثر من أربعة أضعاف الحد العالمي، أصبحت "القابلة العصرية" ضرورة ملحة يروج لها عدد من الأطباء الشباب والأمهات اللاتي يقبلن على تجربة الإنجاب.
الخالة عنايات يمكن اعتبارها آخر "داية" في الصعيد، عمرها سبعون عاماً، قضت منها الثلثين في توليد نساء قريتها بمحافظة المنيا.
"ماعادتش ستات بتولد طبيعي دلوقتي كلهم بيشُقوا".
قبل أن تعتبر مهنتها "موضة وبطلت"، لم تعد الصحة أيضاً تساعدها في ذلك الأمر الشاق، تقول: "ماعادتش ستات بتولد طبيعي دلوقتي كلهم بيشُقوا"، يطلقون على العمليات القيصرية هنا "شَق".
لا تعرف الخالة عدد النساء اللاتي ولدتهن بالضبط، لكنها تحكي: "ولّدت بلد بحالها، ساعات اتنين وتلاتة في اليوم، ماكنتش باقعد في البيت زمان، من البيت ده لده، وكنت متابعة كل واحدة في شهرها الكام، وقبل الولادة بأسبوع أروح لها كل يوم لمتابعة أسبوع الولادة، على شان أعرف هاتولد إمتى، وابقى مستعدة".
منذ أكثر من خمسة عشر عاماً لم تمارس الخالة عنايات مهنتها التي ورثتها عن أمها وخالاتها، وهي تشعر أنها أهملت كما مهنتها القديمة، لكنها تحتفظ بصندوق الأدوات الذي تسلمته من مديرية الصحة منذ أكثر من نصف قرن لممارسة مهنتها، وتحويل الحالات الصعبة للأطباء في مستشفى المدينة.
"حتى الحفيدات يلدن بالعمليات القيصرية"، تقول الخالة مقارنة تعب الولادة الطبيعية بالقيصرية "النسوان بتخاف دلوقتي مش زي زمان، عايزة تغمض عينها وتفتحها تلاقي العيل في حضنها".
"اسمها طبيعي يا ولدي، يبقى الطبيعي بتاع ربنا أحسن"، تقول عنايات.
ولّدت الخالة عنايات الكثيرات من بنات جيلها، أحياناً وهنّ يمارسن مهنهن المعتادة في المزارع، أو يربين الحيوانات في الزرائب، أو يؤدين واجباً اجتماعياً كعزاء أو عرس. أغرب الحالات التي ولّدتها الخالة عنايات واحدة في إحدى المزارع الكبيرة (الغيط)، وهي تساعد زوجها الفلاح، وأخرى ولدت في فرح، وكانت قبلها ترقص، وفجأة "جاها الطلق" أي آلام الولادة.
تقول، معبرة عن وجهة نظر بنات جيلها، اللاتي تربين في بيئة ذكورية شاقة، تلقي باللائمة دائماً على المرأة: "كانت الواحدة تعمل كل حاجة لغاية ميعاد ولادتها، تشتغل، وتربي طيور، وبهايم وتلبي احتياجات بيتها، تطلع، وتنزل في سلالم، مش زي بنات اليومين دول، من أول شهر الواحدة تنام على ضهرها، وعايزة اللي يخدمها تسع شهور، وكله رزق للدكاترة".
"أعظم تجربة في حياتي"
تظلم الخالة عنايات نساء الجيل الجديد، فهي لا تعرف أن هناك من يحملن عبء التوعية بالعودة إلى الولادة الطبيعية، ومحاربة "بيزنس الولادة"، ويحاولن إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، مثل ميادة محمود، استشارية الولادة الطبيعية ، وأول قابلة "ميد وايف" مصرية، تحمل شهادات متخصصة، من أكبر جامعات ومستشفيات العالم.
تقول ميادة لرصيف22: "كانت أعظم تجربة في حياتي، عندما جاءتني الفرصة لدراسة تخصص الميدوايف على نفقة هيئة الصحة بمدينة أبو ظبي بدولة الإمارات، وعملت في أكبر مستشفيات الشرق الأوسط التي تشجع جميعها على الولادة الطبيعية، وتهتم بمهنة القابلة، التي تطورت جداً، وأصبحت تتابع الأم من شهرها الأول حتى بعد الولادة وتتعامل مع الجانب الطبي والإنساني والنفسي للأم والعائلة".
التجربة جعلت ميادة تعرف كارثة وصول نسبة الولادة القيصرية في مصر إلى 54 في المائة، حسب تصريحات رسمية لمنظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية، وقررت توعية النساء المقبلات على الإنجاب لتبني الولادة الطبيعية، والتعريف بفوائدها على صحة الأم وجنينها. تقول: "الولادة الطبيعية الآن تحولت إلى تريند بين الأمهات الصغيرات، لأن الجيل الجديد منهن متعلم ومثقف وسمع عن مخاطر الولادة القيصرية، خصوصاً نساء العاصمة القاهرة، وتحديداً بين الطبقات الراقية، التي كانت نساؤها منذ سنوات قليلة تشتهرن باللجوء إلى العمليات القيصرية، وكانت تنتشر الولادة الطبيعية في الأحياء الشعبية والصعيد. الوضع الآن انعكس تماماً".
ولّدت الخالة عنايات الكثيرات من بنات جيلها، أحياناً وهنّ يمارسن مهنهن المعتادة في المزارع، أو يربين الحيوانات في الزرائب، أو يؤدين واجباً اجتماعياً كعزاء أو فرح، وأغرب الحالات امرأة "جاها الطلق" وهي ترقص في أحد الأعراس
وترجع ميادة أسباب لجوء النساء الصغيرات السن إلى الولادة القيصرية إلى الصورة السلبية التي تظهرها النساء المحيطات بالحوامل، وصعوبة الولادة الطبيعية، وكذلك نصائح بعض الأطباء الذين يجرون العمليات القيصرية لسهولتها وسرعتها، وإقناع الحوامل بأخذ "حقن الولادة بدون ألم"، من غير دراية بعواقب ذلك على صحة الحامل وصحة هرموناتها المسؤولة عن إفراز اللبن في ثدييها.
"كل امرأة يمكنها الولادة الطبيعية"
"في الولادة الطبيعية الهرمون الذي يساعد في طلق الولادة هو نفسه الهرمون المسؤول عن إفراز اللبن من الثدي للطفل، فيكون اللبن أكثر، خصوصاً لبن السرسوب، كما أن خروج الطفل من قناة الولادة الطبيعية يجعله يتعرض للبكتريا النافعة الموجودة بمجرى الرحم، وتكون مفيدة لجهاز مناعته، كذلك في الولادة الطبيعية نؤجل قص الحبل السري حتى يصل الطفل إلى ثدي أمه بمفرده، يكون وقتها النبض اختفى في الحبل السري، واستفاد الطفل بأكبر كمية من دم المشيمة المهم جداً للرضيع"، تقول أخصائية الولادة الطبيعية.
وتتابع حفيدة الخالة عنايات في المهنة: "الولادة مش مجرد طفل يخرج من رحم الأم، دي روح بتخرج من روح تانية، ودور مقدم الرعاية الطبية أنه يساعد الأم أن تولد الطفل بدون أضرار، لذلك لا بد أن تكون القابلة "الميدوايف" متعلمة ومدربة على أعلى مستوى، وعلى دراية كاملة بالمضاعفات التي قد تحدث".
"الوضع الآن انعكس تماماً، الولادة الطبيعية صارت تريند بين نساء القاهرة، والطبقات الراقية، وانتشرت العمليات القيصرية أكثر في الصعيد والمناطق الشعبية"
وتضيف: "هناك مضاعفات ممكن تؤثر علي حياة الأم أو الجنين، وقتذاك يكون كل قرار أو تصرف محسوباً. وهناك بعض الحالات التي تستدعي بالفعل إجراء العملية القيصرية، كأن يكون وضع الطفل مقلوباً أو صحة الأم ضعيفة وهي مريضة بأمراض مزمنة مثلاً، هنا يجب التدخل الطبي".
تنفي ميادة أسطورة حقن التثبيت التي تمنع الولادة الطبيعية، وتقول إن كل امرأة يمكنها الولادة الطبيعية، حتى لو كانت تأخذ حقن تثبيت، إلا التي تمثل خطورة عليها.
وتلفت أيضاً القابلة المصرية إلى أنها لا تجري عمليات الولادة بمفردها، فلا بد من إشراف طبيب، حتى لو كان يمكنها القيام بذلك بمفردها، كما يحدث في دول الغرب.
الدكتور محمد السعيد، أستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب بجامعة بني سويف، يدافع عن الأطباء وقرارهم بإجراء العمليات القيصرية، قائلاً لرصيف22: "الولادة الطبيعية مضاعفاتها كثيرة، وخطورتها أكبر، ولا بد من معرفة السجل كامل لحالة الأم الصحية، لذلك يلجأ الأطباء إلى الولادة القيصرية، خوفاً على صحة الأم والجنين، وليس فقط لسرعتها، بل لأنها أكثر أمناً".
ويقر السعيد بأهمية "القابلة" في الصحة الإنجابية للمرأة والطفل على حد سواء، لكنه يقول: "للأسف لا يوجد عدد كاف تم تدريبه على تلك المهنة في مصر حتى الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...