كان بلال (32 عاماً) جالساً مع أصدقائه أمام الدكاكين المغلقة أبوابها، بموازاة جامع الفتح في العاصمة تونس. لفت نظره شاب بصحبة مجموعة من الناس، تبدو هيئته أنه في مثل عمره، يلتقط صوراً مع امرأة كبيرة في السن كانت تتسوّل من المارة.
طلب الشاب من صديقته أن تلتقط له صورة: "صوريني معاها"، وهو بصدد تقديم الإفطار لها، وقد طلب من تلك المرأة التي ارتسمت على محياها ابتسامة شاحبة، ممتزجة بمشاعر الفرحة والحزن، أن تمسك بالطعام دون أن تنتبه للكاميرا، حتى تكون الصورة معبرة.
يحكي بلال لرصيف22: "بعد انصراف الشاب وأصدقائه، أخذت المرأة تتمتم بكلمات غير مفهومة، كما أخذت تلعن وتشتم وتضرب بيدها على ركبتيها".
تحرك بلال نحوها، وسألها عن سبب غضبها، فقالت له الخالة حليمة، وهي ممسكة بطبق الطعام: "أصبحنا نتناول طعاماً مغمساً بالذل والإهانة أكثر فأكثر، فحتى من يسمّون أنفسهم بأصحاب الخير، باتوا يستغلون وضعنا المأساوي ليلتقطوا معنا الصور والفيديوهات وكأننا قردة في حديقة حيوانات".
ترمي حليمة الطبق على الأرض وهي في قمة غضبها، قائلة: "تباً للوقت الذي أوصلني إلى هذا الحد، أفضّل الموت على أن أستمر في العيش بهذه الطريقة".
تعيش حليمة منذ زمن طويل في البنايات المهجورة في العاصمة بصحبة مجموعة أخرى من أطفال الشوارع، بعد طلاق والديها، وعدم قدرة والدتها على تربيتها، وتوفير متطلبات العيش الكريم لها.
وبحسب المعهد الوطني للإحصاء، فإنّ عدد التونسيين تحت خط الفقر، يقدّر بنحو 1.7 مليون تونسي من جملة 11 مليون نسمة.
أعمال البرّ والإحسان، أو "التجارة بآلام الفقراء" كما يحلو للبعض أن يسميها، أصبحت مربحة جداً في عالم الأعمال والسياسة، وأبرز مثال هو رجل الأعمال التونسي نبيل القروي، الذي بلغ مرحلة متقدمة جداً في انتخابات رئاسية خسرها في الدور الثاني أمام الرئيس الحالي قيس سعيد، وكذلك وصل إلى المرتبة الثانية في سباق الانتخابات التشريعية، بحصوله على 38 مقعداً في البرلمان.
ولا شك، لعبت الحالة الاستعراضية للمساعدات والأعمال الخيرية التي اشتهر بها دوراً بارزاً، إذ كان يقوم بها ويبثّها على قناته التلفزيونية التي تحتلّ المراتب الأولى في نسب المشاهدة.
نداء الي ابناء التضامن الشرفاء مقاطعة هذه الوجبة اسوة بأبناء الجنوب لانها لشراء الذمم مش التضامن الي تتشرى وتتباع بعشاء حي التضامن اكبر من عشاء متاع ذل ومهان انت تاكل وهو يصورك ويتاجر بيك خلو عندكم قيمة
Posted by صوت التضامن on Tuesday, 14 May 2019
حضرت فعالية خيرية في إطار اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحّد، ُنظّمت بأحد النزل الفاخرة في محافظة سوسة، في الوسط الشرقي للبلاد التونسية، وهي ملتقى للتعريف والتوعية بهذا المرض.
قامت الجهات المشرفة على ذلك باستدعاء بعض المصابين بالتوحد لمساعدتهم، والتخفيف من معاناة عائلاتهم كهدف أساسي من أهداف المؤتمر. والتقط القائمون على المؤتمر الصور معهم، وسارعوا في نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
"قدمت لي امرأة بعض الملابس، لكي أستبدل البالية والمهترئة، ولكنها لم تعجبني، رفضتها، فألقتهم عليّ فجأة، وقالت اذهب واستبدل ملابسك فحالك كحال الكلب"
نالت الجمعية التي أشرفت على هذا الحدث استحسان المتابعين والمسؤولين الكبار في تلك المحافظة، ونجحت في استقطاب متعاونين جدد من بلدان أخرى، أبرزها ليبيا والجزائر والمغرب ولبنان.
ما بقي في ذاكرتي بقوة، أن منظمي الحفل رفضوا أن يتناول المصابون بالتوحّد الطعام في المأدبة التي أقيمت في اليوم الأخير، بدعوى أنه ليس لديهم الحق في ذلك، أثر فيّ هذا التناقض بين الاحتفاء بهم أمام الكاميرات، وتجاهلهم ونكرانهم بعيداً عن الأضواء.
تدافع سعاد (42 عاماً) ناشطة بجمعية خيرية، حول تصوير الفقراء أثناء تقديم المساعدة، بل وترى أن ذلك ضروري في بعض الأحيان، تقول لرصيف22: "نعم نلتقط الصور عند تسليم الإعانات لمستحقيها، شرط عدم إظهار وجوه الناس، والغاية من ذلك ليس إذلالهم أو إهانتهم، إنما هي رسالة إلى الناس التي وضعت ثقتها في جمعيتنا، وقدمت مساعدات مادية وغذائية، لكي نقول لهم إن أموالكم وصلت لمستحقيها، وكذلك من أجل إضفاء الشفافية على معاملتنا".
وتضيف: "نحن نعمل على رسم البسمة على شفاه الفقراء والمحتاجين، ولا أعتقد أن هناك أطرافاً تتعمد الإهانة، ربما تكون حركة عفوية في بعض الأحيان، لكن نحن مجبرون على التقاط الصور من أجل إيصال الصورة الحقيقية للمسؤولين وأصحاب القلوب الرحيمة، لجمع التبرعات واستمرار رسالتنا النبيلة".
من ناحية أخرى، يرفض العديد ممن التقينا بهم ويتلقون إعانات، ويُعتبرون وجهة مثالية لجامعي التبرعات والإعانات، تصويرهم بالمحتاجين والفقراء، فلكل منهم وصف يخصّ حياته، والبعض يدافع عن أنه بنفسه اختار أن يعيش بتلك الطريقة لأسباب خاصة.
"لسنا أولاد شوارع"
ليس بعيداً عن جامع الفتح بالعاصمة، يفترش مجموعة من الشبان الأرض أمام بناية حكومية مهجورة، كل له قصته وحكايته الخاصة التي جعلته يرتمي في أحضان المجهول.
يقول سامي، اسم مستعار (19 عاماً) إنه يفضّل الحياة في الشارع، حيث الحرية المطلقة، بعيداً عن والده الذي اعتاد ضربه منذ 4 سنوات، بعدما ماتت والدته.
وفيما يتعلق بمتطلبات حياته المادية، يشدد على أنه يتدبر أمره من خلال ما يجود به بعض المارة من أموال، كما إنه يبيع المناديل والحلوى، و"الحصن الحصين" في محطات القطار والمترو.
تبدو على سامي مظاهر التعب والإرهاق، نتيجة قلة النوم وعدم توفر أماكن للاستحمام وأخذ قسط من الراحة، رغم كل ذلك لا يبدو هذا مزعجاً بالنسبة له، لأنه اعتاد على مثل هكذا ظروف.
من يسمّون أنفسهم بأصحاب الخير، باتوا يستغلون وضعنا المأساوي ليلتقطوا معنا الصور والفيديوهات وكأننا قردة في حديقة حيوانات"
أما الأمر المقلق الذي يعكر مزاجه، حسب قوله، هو تصرفات بعض الأشخاص المتبرعين. يقول: "لا أنكر أبداً أن هناك أناس طيبون يقدمون المساعدة بكل لطف وحب، ولكن هناك أطرافاً أخرى لا نراها إلا في المناسبات، مثل رمضان أو عند اقتراب انتخابات أو شيء يكون من ورائه مصلحة".
يوضح قائلاً: "تأتي إلينا مجموعات يقدمون لنا الملابس والطعام وغيرها، ثم يلتقطون لنا الصور وينشرونها على السوشيال ميديا، هذا أمر مقرف، لكن نحن لا نستطيع أن نمتنع عن ذلك، فنحن نستفيد أيضاً كما هم يستفيدون. هم يرون أنفسهم أذكياء وعباقرة، ونحن نرى أنفسنا كذلك، صحيح أن الأمر يبدو مزعجاً لأنك تظهر في مظهر ذلك الرجل الضعيف، الفقير، الحقير، لكن ما باليد حيلة، كلنا نستفيد، ففي النهاية أنا لم أخسر شيئاً، الجميع يعرفني من ساكني الشوارع".
"نحن لسنا أطفال شوارع كما يعتقد الجميع، فنحن لدينا عائلات".
يتدخل صديقه خليل (22 عاماً)، مدافعاً هو الآخر عن صورته "الحقيقية"، ضد التنميط، قائلاً: "نحن لسنا أطفال شوارع كما يعتقد الجميع، فنحن لدينا عائلات، لكننا أردنا التمرد على الواقع، وبناء حياة جديدة بعيدة عن قبضة الأسرة".
على عكس حليمة، تعلّم خليل العدوانية مع الناس، بسبب طريقة تعاملهم معه وتقليلهم من قدره، يقول: "ما يفعله بنا بعض المارة من إهانات وقلة احترام يجعلنا عدوانيين، وهي الطريقة الوحيدة للردّ على هؤلاء".
يتابع خليل: "جاءتني امرأة يوماً، وقدمت لي بعض الملابس، لكي أستبدل ملابسي البالية والمهترئة، إلا أنني رفضت، لأن الملابس التي جاءت بها لم تعجبني ولم ترق لي، تفاجأت بالكم الهائل من العدوانية لديها، فقد ألقت عليّ تلك الملابس، وقالت اذهب واستبدل ملابسك فحالك كحال الكلب!".
أثّرت كلمات المرأة الجارحة على شخصية خليل، وزادت من حسّه العدواني حيال العالم الخارجي.
سألته عن أكثر السلوكيات الشائعة في الشخصيات المحسنة التي تتعامل معه، أجاب: "أحياناً يمرّ علينا بعض الآباء مع أولادهم، فيركض إلينا الصغار، ويعطوننا بعض الحلوى، ونظرات الشفقة في عيونهم، وأحياناً أخرى يمنع البعض أبنائهم من الاقتراب منا، ولمسنا، لأننا بالنسبة لهم قذارة وحاملون للفيروسات التي يمكن أن تصيب أبناءهم، ذوي البشرة الناعمة والبيضاء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...