لا تستطيع إيناس مسامحة والدها، حتى بعد مرور عشر سنوات على وفاته، لا تزال الغصة تملأ حلقها، وتكابد هي وأولادها أثر قراراته الظالمة.
تقول إيناس (اسم مستعار) وهي امرأة خمسينية، أصيلة ولاية جندوبة، وتسكن في العاصمة تونس لرصيف22: "لم أتخيل يوماً أنه سيحرمني من الإرث لصالح إخوتي الذكور، وأنا التي رعيته في خريف عمره كما رعاني في ربيع عمري".
لازمت إيناس والدها وهو طريح الفراش سنتين متتاليتين، وسط غياب أولاده، وكان يحز في نفسها نظرات الحزن، وفقدانه لهم بسبب انشغالهم عنه، وظلت تواسيه بكلمات تبرر جفاءهم، تقول باكية: "أهكذا أجازى، هل هذا هو العدل؟".
الإرث للرجال في الريف
إيناس واحدة من مئات التونسيات اللواتي حرمن من حقهن في الإرث، وسط تجاوز صارخ للقانون التونسي المتعلّق بالميراث، والذي يعتمد على النصّ القرآني في تحديد نصيب كلّ فرد في العائلة من تركة الأب أو الأم.
ويعتبر الإقصاء من الميراث ظاهرة مستفحلة، خاصة في الأرياف التونسية، التي يعتمد فيها السكان على الفلاحة كمصدر أساسي للرزق، ويكون بطريقتين: إما عن طريق وصية الأب التي تمنع بناته من نصيبهن في الإرث أو عن طريق العرف الاجتماعي القبلي الذي "يحرم ويجرم" مطالبة المرأة بحقها في أرض والديها أو منزل العائلة، بدعوى أن الرجل أحق بالإرث للحفاظ على التركة من التشتت.
تنصف القوانين التونسية المرأة في عدة مجالات، ولكن العديد من الآباء يدعمون مالياً الأبناء الذكور حصراً، ويورثونهم حصراً، ويتقاضى الرجال أضعاف ما تتقاضاه المرأة في عدة مجالات، مما يجعلها الأكثر فشلاً وفقراً
العائلات الريفية على وجه الخصوص تخشى توريث المرأة لتمنع انتقال الأرض إلى زوجها، كما تحرم المرأة من نصيبها، بحجة أنها غير ملزمة بالإنفاق على عائلتها، وأنها مكفولة من قبل شريكها.
وترى الأستاذة الجامعية في علم الاجتماع، والعضوة المؤسسة لجمعية النساء الديمقراطيات، درة محفوظ، أن ظاهرة توريث الرجال دون النساء منتشرة منذ القدم في ظل غياب تام للتغيير في العقليات، التي تؤمن بالسلطة الاقتصادية للرجل، مشيرة إلى أن التمييز يكون على أساس قوامة الرجل على الأسرة، في حين أن القوامة لم تعد موجودة، و80 بالمائة من النساء الريفيات يعملن في المجال الفلاحي بصفتهن "معينة عائلية".
تصل درجة التمييز في الريف ضد المرأة إلى أنها لا تطالب بحقها في الإرث، بحسب محفوظ، التي تقول لرصيف22: "ما يحول دون طلب المرأة الريفية نصيبها في الإرث هو ردة فعل إخوتها، التي يمكن أن تبلغ حد القطيعة النهائية، المرأة في الريف تضحي بحقوقها في سبيل الحفاظ على الروابط العائلية".
ويتمثل العامل الآخر الذي يمنع المرأة من المطالبة بحقها، في أن مساحات الفلاحة العائلية في تونس صغيرة، وإذا تم تقسيم قطعة الأرض تتفتت، ولذا لا بد من اتفاق جماعي على العمل فيها، وللمرأة نصيبها شأنها شأن الرجل، دون التصرف في ملكيتها بالبيع، وفقاً لدرة محفوظ.
المرأة في الوسط العائلي
أتمت مروة وهي في عمر الثالثة والعشرين دراستها الجامعية بتفوق، وبدأت تفكر في الدراسة بكلية من كليات فرنسا، يحدوها أمل بمساندة أسرتها، التي تبذل دعماً مادياً كبيراً لمشروع تجاري لأخيها الأكبر، ولكنها صدمت بالرفض.
"وقع الصدمة كان عميقاً"، بدأت مروة تكتشف تلك العقلية، التي تميز الولد عن البنت في عائلتها، وتفرش الطريق أمام الذكور بالورود، وإن لم يكونوا في مستوى المساعدات التي تقدم لهم، وتفوق طموحاتهم مقدرات العائلة.
وينخر التمييز بين الإخوة والأخوات في نسيج العائلة الواحدة، بسبب مشاعر الغبن والظلم اللذين تتعرض لهما المرأة، ما يمكن أن نسميه "العنف الاقتصادي".
تكمل مروة، وهي امرأة ثلاثينية تسكن في محافظة أريانة التونسية، حياتها التعليمية والعملية في تونس، فهل يا ترى سيتعامل معها المجتمع على قدم المساواة في الفرص والاستحقاق مع الرجل؟
رغم تصدر المرأة التونسية المرتبة الأولى في قائمة الإفريقيات والعربيات الرائدات في مجال البحث العلمي، وفقاً لتصنيف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) لسنة 2020، فإن حصتها في التوظيف، وفي تقلد مناصب عليا تبقى "محتشمة"، مقارنة بما تبذله من مجهود، وما تقدمه من نتائج مشرفة.
وقد بيّنت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة، راضية الجريبي، أن المشرّع التونسي سن العديد من القوانين التي تحمي النساء، وتجرم العنف، وأن الدستور نص على المساواة بين الجنسين في كل المجالات.
إلا أن المرأة المتعلمة، بحسب راضية، تعاني أيضاً مثل عاملات المعامل والفلاحات، من استغلال في الإدارات، "يتمثل في التحرش الجنسي، والابتزاز الجنسي، فتحرم على خلفيته من الترقية، ومن التمتع بالامتيازات، التي يكفلها لها القانون، ولوائح المؤسسات، والتي هي من حقها".
"خريجات الكليات يمثلن 60 بالمائة من عدد المتخرجين، ومع ذلك لا يتم استثمارهن حتى أن الدراسات تؤكد على أن أغلب موظفي المرفق العمومي رجال"، تقول راضية لرصيف22.
وعن آليات التمييز "العرفية" في مؤسسات تونسية، تقول راضية: "لا يتم إسناد مواقع متقدمة للمرأة في الإدارة، والسلم التدريجي يعرقل تقدم المرأة، فعطلة الأمومة مثلاً تحرمها من التدريج الوظيفي أي أن المرأة تعطي الحق في الحياة، وتعاقب على ذلك".
"إضافة إلى أن العقلية الذكورية المسيطرة على بعض الإدارات تحرم المرأة من التنقل لمواكبة حلقات تكوين أو من السفر، بحجة أنها مثقلة بالمسؤوليات وسط عائلتها"، تنهي راضية حديثها موجزة ما تتعرض له المرأة من إجحاف في أماكن العمل التونسية.
تأنيث الفقر
وتبين إحصائيات أُعلن عنها في ندوة صحافية تحت عنوان "التصدي لتأنيث الفقر وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء"، أن التونسيات هن الأكثر فقراً على المستويين الوطني والعالمي، فنسبة البطالة في صفوفهن تبلغ 22 بالمائة، وتتعزز في المناطق الداخلية لتتجاوز الـ30 بالمائة، مقابل 12 بالمائة فقط لدى الرجال، علاوة على أن 67 بالمائة من الفتيات يتخرجن سنوياً من الجامعات في حين لا تتجاوز نسبة وجود المرأة بسوق الشغل الـ28 بالمائة، ويعزى ذلك إلى العديد من الأسباب، أهمها خرق مبدأ التناصف من قبل المؤسسات المشغلة، وانعدام فرص العمل للمرأة بسبب الأمومة.
توفي والد إيناس، مرت 10 سنوات على موته، ولكن ابنته إيناس لم ولن تسامحه على فعلته، إذ أورث كل أبنائه الذكور، وتركها وأولادها بلا شيء، رغم أنها هي التي سهرت على تطبيبه في مرضه الأخير، ولم يزره أحد منهم
وقد اعتبرت الكاتبة العامة لجمعية تونسيات، منى بحر، أن القوانين في تونس تنادي بالمساواة بين الجنسين في كل المجالات، وتكفل حقوق المرأة، ولكن ظاهرة التمييز الاقتصادي تتجلى في القطاع الخاص، وفي الأوساط الريفية، حيث تعاني المرأة الفلاحة من التمييز السلبي في الأجور، وتتقاضى 10 دنانير يومياً، فيما يقتطع من أجرها 15 ديناراً لفائدة سائقي شاحنات الموت، التي تقلهم الفلاحات إلى أماكن عملهن، وأودت بحياة الكثير منهن في مسالك زراعية وجبلية وعرة.
وتشدد منى في حديث لرصيف22 على أن الرجل يتقاضى أضعاف أجر المرأة في مجالات عدة رغم إسدائهما نفس الخدمات.
بعد أشواط عديدة قطعتها تونس في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، وتصدرها قائمة الدول العربية في تحقيق المساواة بين الجنسين في شتى المجالات، وبعد ثلاث سنوات من دخول القانون المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة حيّز النفاذ، لا تزال ظاهرة التمييز الاقتصادي ضد المرأة تنخر المجتمع التونسي، وتؤرق المرأة، التي تحاول جاهدة نيل حقوقها الاقتصادية، والقطع مع سياسة تحاول تأنيث الفقر والفشل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 20 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.