برحيلها المفجع عام 1985، بعد رحلة حياة قصيرة، إثر وقوعها فريسة بين براثن السرطان، اكتملت الحكاية التراجيدية للشاعرة السورية الكبيرة سنية صالح، فيما قصائدها ما زالت جرحاً مفتوحاً ينزف: طفولتها المعذبة، وحزنها الوجودي العميق، وعذابات الحب، وأحلامها المنكسرة.
تلك الأحلام التي أرادت صاحبة "الزمان الضيق" أن تقولها شعراً، هي صاحبة الرؤى، التي رأت الشعر منقذاً ومخلصاً لها، بالأدق، رأته وسيلتها للارتقاء على حطام هذا العالم، الذي قالت عنه يوماً في إحدى قصائدها: "أطلق رصاصك أيها العالم، أطلقه، أطلقه على جثتي، على أفكاري، أطلقه حيث تشاء"، وكتبت أيضاً: "عندما كلّمت الله أنكر صوتي. وصفق الباب. إن لبابِ السماء صدى يقهر ويُذلّ".
"لأبوين عائدين من دفن ابنهما الذكر الوحيد" بحسب تعبير الشاعرة، ولدت البنت الثانية في الأسرة، سنية بنت فاطمة شريف وخليل صالح، في مدينة مصياف السورية يوم 14 نيسان/أبريل 1935.
"عندما كلّمت الله أنكر صوتي. وصفق الباب. إن لبابِ السماء صدى يقهر ويُذلّ"
كانت قصيدة "جسد السماء" بمثابة البيان الشعري الأول لسنية صالح، وانطلاقتها المدوية، التي وضعتها في قلب الساحة الشعرية، وسط مجموعة من الشعراء الطليعيين مثل أنسي الحاج، وشوقي أبو شقرا، وأدونيس، إذ فازت قصيدتها بجائزة جريدة "النهار البيروتية" عام 1961، متفوقة على زوجها الشاعر الكبير محمد الماغوط، وكانت سنية صالح آنذاك تدرس الأدب الإنجليزي بلبنان، قبل أن تنتسب إلى جامعة دمشق في خريف 1962.
وصف الشاعر عباس بيضون القصيدة الفائزة بأنها يتيمة، بمعنى أنها لا تنحدر من سلالة، وبحسب خالدة سعيد، كانت القصيدة علامة على مجيء سنية صالح من خارج الموروثات، ومن خارج المألوف، وأيضاً من خارج التيارات الجديدة التي كانت تُصارع للصمود.
في بيت الشاعر والمفكر السوري الكبير أدونيس زوج شقيقتها خالدة، بدمشق، كان اللقاء الأول بين سنية صالح والماغوط، لا شك كان لقاءً صاعقاً. هي الشاعرة الرقيقة الخجولة، وهو البدوي الأحمر، الحاد، صاحب المزاجات المتقلبة. اندلع الحب في قلب الماغوط، ولم يستطع الصمود، حتى أفضى بكل ما في صدره لخالدة:
"أيتها العزيزة خالدة، منذ شهور وفكرة واحدة تضرب رأسي وأعصابي كالرصاصة: ما هو العالم لولا تلك الإلهة النّحيلة، تلك الإلهة الرقيقة الحنونة، تلك التي سُمّيت صدفة "سنيّة"، والتي كان يجب أن تُسمّى "العالم يبكي" أو العالم ذو القدمين الصّغيرتين. خالدة، لتذهب الكلمات الشعريّة إلى الجحيم. "سنية حياتي". آه يا خالدة، أنت شقيقتها! هل تأمَّلتِ أصابعها ذات يوم؟ أبداً. إنه جاهل وطائش كلّ من يقول إنها أصابع… إنها مجموعة مشرّدة من القيثارات. أبواق بدائية تغنّي لوحوش تقوّست ظهورها من الزمهرير والوحدة… أروع ما في سنية روحها… إنني أستطيع أن أراها تماماً… كما أرى قطرة المطر وراء الزّجاج… كما أرى الطائر بين الأغصان".
رسالة الحب الرقيقة، ستتحول فيما بعد إلى مرثية مليئة بالندم والحزن، ضمنها الماغوط في مؤلفه: "سياف الزهور"، كتبها لزوجته وحبيبته سنية صالح، وهي على فراش الموت، معترفاً فيها بقسوته وظلمه، للمرأة والشاعرة، التي عانت كثيراً من أجل حياتهما معاً، فيما هو – بحسب تعبيره- لم يكن وفياً أو مبالياً، بحب أو شرف أو بطولة. "ثلاثين سنة، وأنتِ تحملينني على ظهركِ كالجندي الجريح، وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك، أزوره متثاقلاً، وأعود متثاقلاً، لأنني لم أكن في حياتي كلها وفياً أو مبالياً، بحب أو شرف أو بطولة"، وثمة قول آخر أفضى به الماغوط يوماً إلى الصحافة، جاء كاشفاً عن السبب وراء خفوت حضور الشاعرة الكبيرة: "سنية هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفاً صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة، وأكبر من كون، ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم".
كانت شهرة الماغوط مدوية، أعماله يتلقفها النقاد، وتفرد لها الصفحات في الجرائد، فيما كانت سنية صالح، تكتب وتنشر في صمت مطبق، هو يزداد حضوراً، وهي تزداد خفوتاً.
كانت دائماً في الظل، بالرغم من فرادة قصيدتها، وحداثتها، ورؤاها الفلسفية التي عمقتها على مدار دواوينها الأربعة "الزمان الضيق، حبر الإعدام، قصائد، ذكر الورد". وكان ذلك مثار نقاش وجدل دائمين من جانب محبي شعر سنية، وقد طرح هذا النقاش في سياق الإشكالية الدائمة والمعضلة التي تزداد حدة، عندما يتزوج الشاعر والشاعرة.
"عندما سألت زوجها محمد الماغوط عن صورة لزوجته الشاعرة المتوفاة سنية، ردّ: لها صورة في غرفة النوم، دخلتُ، فوجدت لها صوره وحيدة بالأبيض والأسود محشورة بين صوره الكثيرة"
تقف الشاعرة السورية رشا عمران أمام هذه الإشكالية، وتقول لرصيف22: "لم تكن الشاعرة الكبيرة سنية ضحية لشهرة محمد الماغوط فقط، بل كانت ضحية للمؤسسة الثقافية العربية، بعقليتها الذكورية المحضة. تم تهميش سنية صالح من جانب الجميع، بما فيهم أدونيس، وشقيقتها الناقدة خالدة سعيد".
وأضافت عمران أن الهيمنة الذكورية هي الحاكمة للأوساط الأدبية والثقافية العربية. وعن التجربة الشعرية لسنية صالح، قالت عمران: "سنية صالح صوت شعري متفرد، هي أهم شاعرة عربية، وللآن لم تضاهِها أي شاعرة أخرى. ستظل قصائدها حية إلى الأبد، لأنها منبثقة من المادة الحية للوجود، هي قصيدة ذات أفق إنساني، ممتد من أول البشرية إلى اللانهاية".
وتحكي عمران صاحبة "التي سكنت البيت قبلي" عن المرة التي زارت فيها بيت الماغوط بدمشق، تقول: "وجدت الجدران في صالة بيته ممتلئة بعشرات الصور والبورتريهات له، وعندما سألته عن صورة لسنية، ردّ: "لها صورة في غرفة النوم، دخلت، فوجدت لها صوره وحيدة بالأبيض والأسود محشورة بين صوره الكثيرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 4 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...