" أنا مي؛ ماري إلياس زيادة. ولدت فى 1886، من خلطة دينية ومكانية غريبة، أم فلسطينية أرثوذكسية، نزهة معمر، من مرتفعات الجليل الساحرة وقناديلها العاشقة، وأب مارونى لبناني، إلياس زخور زيادة، من ضيعة شحتول، التى تزداد كل يوم ارتفاعاً لتقترب أكثر من سماء الله".
هكذا وصفت الأديبة الشهيرة "مي زيادة" نشأتها، في مذكراتها المفجعة التي خطتها في السنوات الأخيرة من عمرها بعنوان "ليالي العصفورية.. تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941"، تلك المذكرات التي ظلت مفقودة لأكثر من سبعين عامًا، قبل أن يعثر عليها الأديب الجزائري واسيني الأعرج بدعم من "روز خليل" المتخصصة في الدراسات النسوية العربية في مونتريال، والمكتبة الوطنية الفرنسية، عبر رحلة شاقة امتدت ثلاث سنوات، تنقل خلالها الإثنان بين بيروت وباريس والقاهرة ليحصلا على المخطوط في نهاية الرحلة من سيدة عجوز، تسكن في إحدى مناطق محافظة الجيزة بمصر، كانت هذه السيدة قد حصلت على المخطوط من والدتها صديقة مي، التي نجحت في انتزاعه من براثن عائلة زيادة ببيروت.
"دونتك يا وجعي"
كشفٌ مروع لواحدة من أبشع الجرائم التي اُرتكبت في حق أهم أديبة عربية في القرن العشرين، عكف "واسيني الأعرج" على ترتيب صفحاته، ثم نشره في رواية بعنوان" ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية"، لنستمع بتعبير "واسيني" إلى "صوت مي الخفي والذاتي والحميمي" وهي تقول في مذكراتها:" أخيرًا دونتك يا وجعي وهم قلبي.. حكيتُ عن الذين زجوا بي في دهاليز الجنون، وجعلوا من العصفورية سجنًا كبيرًا أموت فيه بصمت، ولا أحد يسمعني. حتى النفس الأخير وبلا قفازات، قلتُ بعض ما أحرقني وحولني رمادًا في ثانية واحدة. باسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل، يحق لي اليوم أن أتلاشى كما الغيمة، داخل حبي الذي شكلني وفي عمق وهمي الذي صنعته وصنعني أيضًا".
ضربها جوزيف، ابن عمها، وسحلها، ثم حقنها الطبيب بالمورفين، لتجد نفسها ذات صباح، في غرفة بلا شبابيك، بمصحة الأمراض العقلية في العصفورية
كانت الكآبة تنهش روح مي وجسدها، بسبب حالات الفقد التي عاشتها على مدار سنوات متتابعة؛ والدها 1929، وبعده حبيبها الكاتب الشهير جبران خليل جبران 1931، ثم والدتها 1932، حين جاء إليها ابن عمها الدكتور جوزيف زيادة، لتبدأ أحداث الجريمة، إذ حصل منها على توقيع يستطيع من خلاله التصرف في أملاكها، وعن هذه الزيارة كتبت مي لصديقها الكاتب أمين الريحاني تقول: "ادعى أنه يساعدني ويخفف من مصيبتي؟ الحقيقة أنه هرع ليستكشف أعمالي وماليتي، ويقف على سرائر مصالحي وشئوني فيستولي على كل شيء في حياتي، وكان أن خاطبني في تعيينه وكيلًا عني ليخدمني، فأجبت بأن لا أملاك لي في مصر وأن أعمالي المالية منظمة تنظيمًا لا يحوجني إلى مساعدة أحد، بعد هذا الكلام بيوم واحد جاءني مع رجلين من أنسبائي، يتبعهم باشكاتب محكمة عابدين ووكيله، وفتح الباشكاتب دفترًا كبيرًا جدًا، وسحب الدكتور زيادة قلم حبر وقدمه لي طالبًا مني أن أوقع في الدفتر، أي تأثير سيطر علي في تلك اللحظة؟ كيف لم أعجب لمجيىء الباشكاتب دون أن أستدعيه؟ وكيف لم أرفض التوقيع؟ لست أدري".
اكتملت أركان الجريمة حين سافرت مي برفقة جوزيف ورجلين آخرين، إلى بيروت، أقامت في بيت جوزيف شهرين ونصف الشهر على مضض منها، كانت تلح عليه بضرورة عودتها إلى بيتها بمصر، فيما كان ابن العم يمهد للتخلص منها نهائيًا. ففي صباح أحد الأيام حسبما تحكي "مي" في مذكراتها، جاء رجل وامرأة يرتديان الأبيض، استقبلهما "جوزيف"، ودار الحديث بين الثلاثة حول المريضة مي وهل استعدت للذهاب إلى المصحة، استمعت مي زيادة إلى الحوار، فانهار العالم أمامها.
صورة النجمة الشهيرة
انتهى كل شيء، لكنها لم تستسلم؛ فصورة مي القديمة، النجمة الشهيرة، لا تزال تلوح لها. قاومت بكل ما تملك من قوة، حتى ضربها جوزيف، وسحلها، ثم حقنها الطبيب بالمورفين، لتجد نفسها ذات صباح، في غرفة بلا شبابيك، بمصحة الأمراض العقلية بالعصفورية.
كتبت مي: "شدت الممرضة على كل جسمي، ثم أدخلت ذراعي في جاكيت المجانين، وشدت الوثاق بقوة على ظهري، قبل أن تغرس في لحمي إبرة مورفين خشنة، كتلك التي تعطى للحيوانات الهائجة. كان الألم قاسيًا وعميقًا.. وزني منذ البارحة أصبح 28 كيلو، هذا ما قاله الطبيب وهو يحاول أن يثنيني عن جنوني، لكنني لستُ مجنونة أبدًا يا سيدي، من قال هذا عني هو المجنون، حتى لو كانت هذه الكلمات من كثرة تكراري لها أصبحت لا تعني شيئًا سأواصل ترديدها. صرخت حتى دُخت، الآلام كانت حادة بالخصوص الإطعام من الأنف، كدتُ أسحب النربيج، لولا أن سبقتني إليه مدام شوكي، وجمدت يدي على صدري. من شدة الصراخ، لم أنتبه للألم إلا عندما مست إبرة الحقنة العظم".
عشرة أشهر وأسبوع، قضتها مي زيادة حبيسة جدران مصحة الأمراض العقلية، تتلقى الإهانات، وتتجرع العذاب والقسوة، حتى عرض الكاتب أمين الريحاني، قضيتها على مجلس النواب اللبناني، فتخرج من المصحة وتحاضر في الجامعة الأمريكية ببيروت أمام مجموعة من القضاة – كانوا ينظرون قضية الصراع على الميراث- وقد أبهرتهم براعتها في الخطابة، فأطلق سراحها، وعادت إلى مصر، لتجد الأصدقاء أدباء زمانها المشاهير: عباس العقاد، طه حسين، سلامه موسى، أحمد لطفي السيد، مصطفى صادق الرافعي، داوود بركات، يبتعدون عنها واحدًا إثر الآخر، مؤيدين ما تردد من شائعات حول جنونها، في محاولة منهم لمحوها نهائيًا من تاريخ الحركة الأدبية والثقافية في القرن العشرين. وفي إحدى رسائلها الكاشفة عن معاناتها، وتخلي المثقفين المصريين عنها في محنتها، كتبت مي إلى صديقة مجهولة: "أضربت عن الطعام لأني اشتهيت الموت بعدما لاقيت الكثير من الاضطهاد والتعسف في مصر. وفي لبنان حيث لاقيت وسائل غريبة لحمل الناس على الاعتقاد بجنوني".
جاءت مي زيادة إلى مصر وهي في الثانية والعشرين من عمرها، بصحبة والديها، كتبت في مجلة "المحروسة" التي ترأس تحريرها والدها، ثم نشرت مقالاتها في "الأهرام" ومجلة "الهلال" و"البلاغ" الأسبوعية، وفي جميع الدوريات التي صدرت في تلك الفترة، وكانت تكتب تحت أسماء مستعارة، أشهرها إيزيس كوبيا، التي وقعت به ديوانها الأول "أزاهير حلم".
عادت إلى مصر، لتجد الأصدقاء أدباء زمانها المشاهير: عباس العقاد، طه حسين، سلامه موسى، أحمد لطفي السيد، مصطفى صادق الرافعي، داوود بركات، يبتعدون عنها واحدًا إثر الآخر، مؤيدين ما تردد من شائعات حول جنونها
قدمت لأول مرة في الأدب العربي الحديث ثلاث دراسات مهمة ورائدة عن الأديبات «باحثة البادية ملك حفني ناصف» و«عائشة التيمورية» و«وردة اليازجي»، ولها العديد من الترجمات من اللغة الفرنسية إلى العربية، ونالت مراسلاتها الأدبية مع أصدقائها من الأدباء والشعراء، وأشهرهم جبران خليل جبران، شهرة طغت على جميع أعمالها الأدبية. وكان لصالونها الأدبي "صالون الثلاثاء" دور كبير في اختزالها في صورة الأنثى العاشقة والمعشوقة، ومن خلاله، أحكمت السلطة الذكورية قبضتها حول رقبة الأديبة اللامعة حتى اعتزلت كل أشكال الحياة، وعاشت في وحدة تامة، حتى وفاتها يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر بمستشفى المعادي عن عمر ناهز 55 عامًا، ومشي في جنازتها ثلاثة فقط من أصدقائها: أحمد لطفي السيد، أنطوان جميل، خليل مطران.
يرونها أداة للمتعة
في "ليالي إيزيس كوبيا" يحلل واسيني الأعرج الموقف المخزي لأصدقاء مي من المثقفين المصريين، الذين انقلبوا ضدها، يكتب: "انتصرنا على القتلة الذين حاولوا حرق مي زيادة من الذاكرة الجمعية، حاولوا لجمها كما يقولون حتى لا تؤذي محيطها، لدرجة أن قال عنها ناقد كبير بحجم سلامة موسى كلامًا كبيرًا كان تلفيقًا وانتقامًا، مع أنه كان في حياتها من محبيها، بل من كوكبة عشاقها. الجنون جاء ليرضي أعماق جماعة مريضة، لا ترى في المرأة إلا أداة للمتعة. كل ما كان يبدو صداقة في الخارج، كان يخفي عقدًا ذكورية لم تمحها للأسف لا الحداثة ولا الفكر التقليدي".
وكتبت الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم التي تحرص على زيارة قبر مي كل عام في ذكرى رحيلها: "لم تتوقع الآنسة مي هذا التطور المفاجئ في مسار حياتها الكريمة الهادئة الموشاة بالأمانة والنظافة والرقي ورفاق الثقافة وتدليل الوالدين وتبجيل الأصدقاء، لتصبح في سن الـ49 مسجونة مع المجانين بلا حول أو قوة، ومحجور عليها بحكم قضائي نافذ في لبنان ومصر، فأضربت عن الطعام عسى أن تتنبه الأوساط الثقافية في مصر ولبنان لمأزق السجن الرهيب الذي ألقاها أهلها فيه ظلماً وكذبًا وبهتاناً طمعاً في ما تملك، ولم يتحرك أحد! دُهشت مي لسرعة تصديق أصدقائها تهمة الجنون التي ألصقت بها مما جعلها تقاطعهم جميعًا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون