تنصب معظم كتابات المبدعات النساء على انتقاد المجتمع الذكوري، ومواجهته ومحاولة هدمه عبر الأعمال الروائية والدواوين. ويطرح إبداع المرأة تساؤلات كثيرة: هل الكتابة قضية مركزية في حياة المرأة المبدعة مثلما هي في حياة الرجل المبدع؟ وهل تساعد الكتابة في إيجاد متنفس للنساء اللواتي يشعرن بالظلم الذكوري؟ وما هي نظرة الرجل للمرأة الكاتبة؟
وفي مواجهة كتابات المبدعات النساء، باتت هناك انتقادات يمكن وصفها بـ"المعلبة" تلحق بهنّ وتتمحور حول اعتبار كتابة المرأة مفتقدة للرؤية الكلية للعالم لأنها لا تخرج عن إطار علاقتها بالرجل وسخطها عليه وتمردها على مجتمع كثيراً ما يضعها في زاوية منسية.
المجتمع الذكوري يعادي المرأة المبدعة
كانت الكاتبة والروائية عزة رشاد تلميذة محظوظة في المدرسة الثانوية. لاقت الكثير من الاحتفاء بكتاباتها التي بدأت شعراً قبل أن تجد نفسها أكثر في فنّ السرد. احتفت بها أسرتها، ومدرس اللغة العربية وزميلات الفصل. وفي ما بعد احتفى بها زملاء الجامعة عندما كانت تجمع المال من مصروفها القليل لإصدار مجلة طلابية تنشر فيها قصصها.
مقالات أخرى:
المدوِّنات النسويات في تونس: تحدّي المجتمع واختراق محرّماته
هل يترجم الغرب الأدب العربي ليؤكد فكرته عن الشرق المتخلّف؟
برغم ذلك، قالت لرصيف22 إن الصورة التي كانت تبدو وردية تبددت تماماً بعد تحققها في عالم الكتابة عبر إصدارها كتباً عدّة وحصولها على جائزة الدولة في القصة، إذ باتت تسمع عبارات من قبيل: "أما زلت تكتبين؟" أو "أما زال الأدب خيارك؟". تسمع صاحبة "ذاكرة التيه" هذه العبارات من المعارف التقليديين وأيضاً من بعض الكتاب والنقاد. لذلك ترى أن كتابة المرأة يتم اعتبارها "برستيج" أو محاولة للظهور أو التسلية إلى أن يثبت العكس في مجتمع ذكوري ينقض على مكانة المرأة وعلى موهبتها الحقيقية.
ورأت "أن التعامل مع كتابة المرأة كمتنفس لها، هو تسطيح ينال من هيبة الإبداع الذي هو مكابدة لاقتطاف المعنى وربط الأفكار والأحاسيس وقنص الجمال، ومعاناة في آخرها تظهر المتعة" متحدثةً عن فرحتها حين يشكرها القراء والكُتاب ويقولون لها: "عرفنا أشياء عن المرأة لم نفهمها قبل روايتك شجرة اللبخ".
وأضافت: "الانتقاص من قيمة المرأة نتيجته اختلال التقدير، سواء من المؤسسات الثقافية التي ليست مصادفة أن يكون أغلب المنتفعين من خدماتها من المبدعين الرجال، أو من المحيط الاجتماعي والعائلي".
وقالت: "لا تبتعد معاناة المرأة المبدعة عن معاناة المرأة العاملة التي كافحت من أجل الخروج إلى العمل لاعتباره حياة وكرامة، ثم وجدت نفسها تدفع ثمن مطالباتها جهداً مزدوجاً: داخل وخارج البيت". وأشارت إلى أن الأبناء يفتخرون بالأم المبدعة شرط ألا ينال هذا مما يعتبرونه واجبات الأمومة "التي صار المجتمع يبالغ فيها حد التدليل، ناهيك بالضغوط التي تطارد جرأة الإبداع باسم المجتمع المحافظ والخصوصية الثقافية. هذه المصطلحات المطاطة المضللة".
تعامل مع المرأة المبدعة كـ"نشاز"
ورأت الكاتبة والشاعرة هدى حسين أن مشكلة المرأة المبدعة في مجتمعاتنا تكمن في التعامل مع إبداعها بكثير من التسطيح الذي لا يخلو من حنق. وأضافت لرصيف22: "الحياة في مجتمعنا تجبر المرأة على ألا تكون سوى وعاء يحمل أطفالاً. بلا رأس، بلا خيال، بلا نسيج إبداعي سوى نسيج الكروشيه والتريكو، وبلا تذوق فني سوى تذوق درجة الملح في الطعام".
نظرة المجتمع إلى المرأة بشكل عام لا تختلف عن نظرة الوسط الثقافي إلى المرأة المبدعة، برأي حسين. وقالت صاحبة "أقنعة الوردة": "الوسط الثقافي يتعامل مع المبدعة باعتبارها نشازاً أو باعتبار أنها شذّت عن عرف المجتمع وتقاليده. وبالتالي يلاحظها ويراقبها وكأنها "القرد أبو صديري"، يطبل لها باستخفاف ويتفرج عليها وهي ترقص ولا يخلع أبداً عن رقبتها السلسلة التي يمسك بطرفها الآخر بيده".
وتابعت: "يتعامل المجتمع مع المرأة عموماً باعتبارها ذلك الضلع العوجاء... لا يرى فيها رأساً ذا فكر وخيال ونظرة ووجهة نظر... قد يُقبل من الرجل ما لا يُقبل من المرأة ويطلب المجتمع من المرأة ما لا يطلبه من الرجل"، لافتةً إلى أن "مجتمعاً هذا ميزانه، علينا أن نعيد النظر في كيفية التعامل معه، وبالأساس كيفية التعامل مع أنفسنا كمبدعين داخله... ومن دون جهودنا المستمرة بلا توقف، كلنا، لن تتحرك هذه المفاهيم العقيمة خطوة واحدة".
اضطهاد خفي من المثقفين
في الخامسة عشرة من عمرها بدأت الكاتبة سهى زكي تتعرف على الوسط الثقافي المصري من خلال حضورها الندوات الأدبية ومشاركتها في مناقشات الكتاب في مقاهي وسط البلد. ومن خلال مواقف عدّة تعرضت لها، أدركت زكي أن ما يضمره المثقف تجاه المرأة المبدعة من عداء يحاول إخفاءه "إلا أنه غالباً ما يظهر نظرته الاستعلائية إلى الكاتبات".
وحكت صاحبة "سنين ومرت" لرصيف22: "نجوم جيلي الآن يرفضون كتابتي ولا يحبونها، بل أن أحدهم كان يكتفي بتعليق مستفز كلما انتهيت من قراءة قصة. كان ببساطة يقول: أنتِ مخلوق جميل فلماذا تبذلين جهداً فى التفكير والتأمل والكتابة"، وأضافت: "كانت تعليقات كهذه تضايقنى بشدة. وكان الكتاب الشباب يكونون فريقاً قوياً متماسكاً ويتحدثون عن الروايات الجديدة ويتبادلونها، ويتفقون على الذهاب إلى المقهى بعد الندوات. وهذا ما دفعني إلى أن أناطحهم رأساً برأس، وكأن المقهى هو دليل على الثقافة". وتابعت: "تعلقت بهم ورافقتهم لسنوات. ولكن دائماً عندما يجتمع الرجال يتفقون في ما بينهم على تقييم الكاتبات النساء تقييماً ضعيفاً وربما يتحمسون لكتابة إحداهنّ لأسباب لا علاقة لها بجودة الكتابة أو الإبداع، وربما أيضاً يكون سبب حماسهم إحباط كاتبة أخرى".
واستطردت: "لا أعني هنا أن النظرة دونية بقدر ما هي نظرة استهزاء واستعلاء واستقواء بذكورية موروثة من المجتمع. حتى عندما يفكر الكاتب والمثقف في الزواج، فهو قلما يتزوج كاتبة، بل يسعى جاهداً إلى الزواج بسكرتيرة تدير له أعماله وتتحمل جنون الإبداع كما يُقال. وكأن المرأة الكاتبة هي مقبرة الإبداع بالنسبة للمبدع".
ورأت زكي أن "كفاح المرأة المبدعة فى ظل ظروف محبطة لها يوماً بعد يوم يعادل كفاح المحارب للعدو بلا مبالغة. فكل ما يتحرك على الأرض يتحرك معترضاً طريقها"، وأضافت: "بعد تجارب عدة فى مجال الكتابة والعمل، اكتشفت أن الكاتبة تتعرض لاضطهاد خفي من الرجال والمثقفين تحديداً".
تلصص ونميمة على حياة الكاتبة المرأة
تعتبر الشاعرة نجاة علي أن الكتابة الحقيقية هي فعل وجودي محض وليس بديلاً عن أي شيء آخر، وإلا فستكون فعلاً عابراً غير أصيل يتوقف بتوقف دوافعه. من هنا تستنكر الأسئلة العبثية المتعلقة بكتابة المرأة وترى أنها تعكس فكراً ذكورياً استعلائياً سائداً في مجتمعاتنا العربية.
وقالت صاحبة "حائط مشقوق": "يُنظر إلى إبداع المرأة بشيء من الاستخفاف كما لو كان الإبداع فعلاً مقصوراً على الرجل وحده. ففي مجتمعات مغلقة ومحافظة كتلك التي نعيش فيها، تصبح كتابة المرأة موضوعاً للتلصص والنميمة على حياتها، لا موضوعاً للتأمل والدرس".
وأضافت: "أتذكر كيف أنني كنت وما زلتُ أنظر بكثير من الاستخفاف إلى بعض الناس وأغلبهم من الحقل الثقافي حين يسألني أحدهم مثلاً أسئلة من نوع: هل الشخص الذي تتحدثين عنه في قصيدتك هو فلان؟ هل علاقتك المركبة بالأب هي سبب أنك أصبحت شاعرة؟".
من جانب آخر، رأت علي أن بعض الكاتبات ساهمن بسلوكهن في ترسيخ هذا التصور الذكوري عن كتابة المرأة، عبر اختزال الكتابة إلى كونها طريقاً للتعبير عن الظلم الذكوري، واعتقادهنّ بأنه ينبغي أن يحتفي بها الجميع فقط لأنها امرأة بغض النظر عن قيمة ما تكتبه. وانتقدت الشاعرة الكتابات النسوية الضيّقة الأفق معتبرة أن الكتابة الحقيقية لا جنس لها، وينبغي أن تتجاوز جنس كاتبها حتى تتمكن من التعبير بدقة عن هموم إنسانية مشتركة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...