كوكبة من أشهر الأدباء طافت حول مي، في مسار محدد، كما تدور الكواكب حول الشمس. من اقترب منها احترق حبّاً، ومن ابتعد عنها تاه في الفضاء البعيد فراقاً وهجراً.
غازلها شيخ الشعراء إسماعيل صبري قائلاً: "وأستَغفر الله من بُرهَةٍ منَ العُمرِ لم تَلقَني فيكِ صَبّا". وحين دعى الشاعر حافظ إبراهيم القاضي والشاعر عبد العزيز فهمي إلى الكلام، نظر هذا الأخير إلى مي وقال: النظر هنا خير من الكلام ومن الإصغاء. ووصف أحمد شوقي شعوره نحوها شعراً: "إذا نطقت صبا عقلي إليها... وإن بسمت إليَّ صبا جناني". وقال عنها صاحب مجلة الرسالة أحمد حسن الزيات: "تختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة". ورثاها عبّاس محمود العقاد قائلاً: "كل هذا في التراب آه من هذا التراب".
ولدت الشاعرة والأديبة اللبنانية الفلسطينية مي زيادة في 11 فبراير 1886، ورحلت في 17 أكتوبر 1942. اشتهرت في مصر التي وصلتها مع عائلتها وهي ابنة عشرين سنة وكانت منفتحة على الثقافات كافة، وكان اختلافها عن حياة النساء في مصر وقتذاك ملحوظاً، إذ كانت مثقفة ومتحررة إلى حد بعيد. وبرغم التفاف النخبة حولها، بدت بينهم متّزنة وملتزمة، حتى تكاد تكون قديسة أو راهبة في الدير.
صالون مي الأدبي
اشتهرت مي بصالونها الأدبي الذي كانت تقيمه في منزلها الكائن في شارع عدلي، كل يوم ثلاثاء منذ عام 1913، قبل أن ينتقل عام 1921 إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام ويستمر حتى الثلاثينيات من القرن الماضي.
وتردّد إلى صالونها أرباب القلم وأئمة الفكر وزعماء السياسة ودُهاة الديبلوماسية، فضلاً عن سدنة الدين وصفوة المجتمع أمثال عباس العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وشيخ الشعراء إسماعيل صبري والشيخ مصطفى عبد الرازق والمفكّر شبلي شميل وأمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وشاعر القطرين خليل مطران والشاعر الثائر ولي الدين يكن، والأديب مصطفى صادق الرافعي والكاتب انطوان الجميل والدكتور منصور فهمي.
وكل من هؤلاء أحبها على طريقته، إلَّا أن نفراً قليلاً منهم أحبوها بإسهاب، حتى صار الصالون فرصة سانحة لإرضاء أشواقهم، وإشباع رغباتهم ولو بالنظر إليها ونيل قسط من الوصال المستتر بغطاء الصداقة الأدبية. لكن قلب مي لم يخفق إلَّا لثلاثة، حسب ما تفيد تلك الروايات الموثقة بالرسائل المتبادلة بينهم.
جبران ومي: العشق على مهل
تبادل جبران ومي العشق على مهل، وكان أحدهما يبعث إلى الآخر برسالة وينتظر فترة حتى يأتيه الرد. لم يلتقيا البتة لأن جبران كان مقيماً في أمريكا. وقد دعته مي للعودة إلى مصر قائلة: تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك. تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والثروة والحب.
وكان كلّ منهما لا يسعى إلى لقاء الآخر. فمي تزور ألمانيا وإيطاليا ولا تذهب إلى نيويورك، وتدعو جبران لزيارتها في أوروبا ولا يفعل هو، وكأنهما تعمدا عدم اللقاء، وكأن الحب القائم على الورق أكثر ملائمة، حيث يتيح لهما قسطاً من الفضفضة تناسب مي وطريقتها في الحب.
وعبّرت زيادة عن ذلك بقولها: "جبران، ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه؟ الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً من هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً فما أدعك تراني إلَّا بعد أن تنسى".
ورد جبران عليها بقوله: "الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لديَّ وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم".
العقاد: عاشق على الحياد
أحب عباس محمود العقاد مي بكبرياء في أول الأمر. ورويداً رويداً، بدأ يذعن لعاطفته حتى امتلكت قلبه وعقله. وبدلاً من أن يكتفي بزيارتها في صالونها الأدبي، راح يعزز علاقته بها فيقضي معها ساعة أو أقل سيراً في صحراء مصر الجديدة. وتطور الأمر أكثر ليدعوها إلى السينما ويذهب بصحبتها إلى سينما الكنيسة كما اشترطت هي. في قصة "سارة"، يروي العقاد قصته مع مي ويقول: "كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من تلك الأوراق إلى تلك الأوراق... كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان، وكان يغازلها فتومئ إليه بإصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظر إلى عينيها لم يدر، أتستزيد أم تنهاه، لكنه يدري أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز".
وبدأت الغيرة تجد طريقها إلى نفسه، فيغار عليها من علاقتها بجبران. وكانت مي تستلذ بغيرة العقاد عليها، فتستزيد من تلك اللذة كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً، مستخدمة أحياناً الدلال الناعم الجذاب، كما تظهر رسالة أرسلتها إلى العقاد من برلين في 30 أغسطس عام 1925، قالت فيها:
"وحسبي أن أقول لك: إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان. بل إنني خشيتُ أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة "المحروسة". إن الحياء منعني، وقد ظننتُ أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك. والآن عرفتُ شعورك، وعرفتُ لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران".
وتابعت: "لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره إلَّا في تلك الصور التي تنشرها الصحف. ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها! أليس كذلك؟! معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعوراً بأن لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتّع بها وجداني".
مصطفى عبد الرازق: العاشق بصمت
لم يكن وقار الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر آنذاك، حصناً آمناً من جاذبية مي. فأخذ يحبها بصمت وحياء ولم يعبّر عن حبه بالكلمة المسموعة، واكتفى بالتعبير بالكلمة المكتوبة عبر بعض الرسائل التي كان يراسلها بها وبلغت ثلاثاً إحداها أرسلها من باريس والأخريان من ألمانيا. بالإضافة إلى تلك الزيارات التي كان يحرص عليها في صالون مي زيادة يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
وتعد الرسالة التي أرسلها عبد الرازق من باريس حجة قوية للاستدلال على ما في قلبه من حب، إذ بلغ فيها ذروة الرقة ، وجنح فيها إلى حرارة التعبير حين قال: "وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل".
ولي الدين يكن: العاشق الثائر
"أعلمت الهوى الذي أخفيه؟ أي سر يا مي لم تعلميه؟"، بيت شعر صرح فيه الشاعر الجريء ولي الدين يكن بحبه لمي. لكن شقيقه يوسف حمدي يكن حذف كلمة "مي" من البيت وأضاف "في القلب" وهو يجمع ديوان شقيقه.
ويعتقد كثيرون أن مي مالت إلى ولي الدين إشفاقاً عليه، ليس أكثر، إذ كان مريضاً بالربو، وهو مرض لم يكن له علاج آنذاك. لكن هذا الطرح تنفيه حقيقة العلاقة، لأنها كانت تلتقيه كثيراً، وكانت تشكو إليه ما يلم بها من أزمات نفسية، وقد زارته وهو مريض، فأنشد فيها شعراً قال فيه:
"تبدت مع الصبح لما تبدى، فأهدت إليَّ السلام وأهدى
تقابل في الأفق خداهما، فحيت خدّاً وقبلت خداً
لقد بدل الله بالبعد قرباً، فلا بدل الله بالقرب بعداً
تعالي فجسي بقلبك كبدي، إن كان قد أبقى لي الهجر كبدا".
وكانت مي تطمئن عليه دائماً، وتسأل شقيقه يوسف عن أخباره الصحية، إلى أن رحل يكن عام 1921، لتنطفئ مع رحيله ابتسامة مي التي لبست عليه الأسود عامين كاملين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 8 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 18 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع