"كنت في الرابعة حينما جربت لأول مرة، مكياج أمي، صبغت شفتيّ بالأحمر، واستخدمت البودرة، وحينما رأتني جرت خلفي وهرعت لتنظيفي"، يقول المراهق زياد عبد المحسن، الذي جرب المكياج لأول مرة في الرابعة من عمره، لتصبح هوايته في التاسعة ثم وظيفة احترافية في الـ12. نعم! قرأت العبارة بشكل صحيح، فهي على لسان ذكر وليس أنثى.
"أكتشف نفسي"
"في التاسعة جربت أنا وأمي مكياجاً جراحياً للهالويين، وهو مكياج سينمائي يظهر جروحاً في الوجه، ومنذ ذلك الحين أصبحت مهووساً بوضع كل أنواع المكياج على وجهي حتى النسائي"، هكذا بدأ أصغر فنان مكياج زياد عبد المحسن، حديثه لـرصيف22 بعد انتهاء يومه الدراسي بالصف الأول الثانوي.
زياد هو مراهق بشعر قصير، وملامح رجولية واضحة، يضع المكياج على وجهه، وينشر لنفسه فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يعلم الفتيات مبادئ وضع المكياج (النهاري، السهرة، النزهة وغيرها) وحيلاً ليتعلمن كيف يخفين عيوب الوجه، وكيف ينتقين أفضل الماركات لكل منتج، وتحظى صفحته عبر انستغرام بأكثر من ألفي متابع منذ تأسيسها كانون الأول\ ديسمبر الماضي.
"مكياج احترافي" ليس سهلاً الوصول إلى تلك المرحلة، لكن طفل الألفية وصل إليه عبر حضور عشرات الدروس والمقاطع التعليمية أونلاين لرجال فناني مكياج مصريين وعرب وأجانب أيضاً سبقوه إلى ذلك الفن
ربما كرجل عادي تحتار في المسميات العديدة لأدوات المكياج مثل: "الأيلاينر، والديبلاينر، والهايلايتر، وغيرها"، وعليّ أن أعترف كشابة ثلاثينية أني أيضاً متفاجئة بمصطلحات في عالم المكياج يومياً، ولا تزال ثقافتي عند حدود الكحل، والماسكرا، وأحمر الشفاه؛ لكن المراهق المصري يعرفها جميعهاً، ويعرف أفضلها وأسعارها ومكوناتها.
"مكياج احترافي" ليس سهلاً الوصول إلى تلك المرحلة، لكن طفل الألفية وصل إليه عبر حضور عشرات الدروس والمقاطع التعليمية أونلاين لرجال فناني مكياج عرب وأجانب ومصريين أيضاً سبقوه إلى المكياج، مثل مصطفى نجم الشهير بصاصا ستار، الذي يتابع حسابه عبر فيسبوك أكثر من 90 ألف شخص، وعمر عيسى الذي يتابع صفحته بفيسبوك أكثر من 300 ألف، وبالطبع تزخر حساباتهم جميعاً بالهجوم من معارضين لفنهم، وشتائم، ووصفهم بـ"المخنثين"، و"الكافرين"، إلى الدرجة التي طالب البعض بقتلهم.
يسمي زياد المكياج "Face painting" ويعتبره فناً.
"المكياج فن، واستخدام الألوان للرسم على وجهي أو وجه غيري لخلق شكل جديد هو موهبة، بدأته احترافياً بعمر الـ 12 عاماً"، يقول فنان المكياج الصغير، الذي يلوّن وجهه من حين لآخر مستخدماً ما يمكن أن تصل إليه إمكانياته من الأدوات المتاحة له، بتشجيع من والدته، وأصدقاء اختارهم بعناية متقبلين له، ولأفكاره الجنونية، ويثق بهم.
مضايقات وتحرش
وصل الانتقاد الذي تلقاه زياد عبر صفحاته بالسوشال ميديا إلى حد أن طلب منه الناس أن ينتحر، فهو بالنسبة لهم يهدم "ثوابت الرجولة"، المعروفة بالخشونة والصلابة.
"بالطبع تعرضت لمضايقات وتحرشات عبر السوشال ميديا، وهناك من قال لي انتحر، كان عمري 13 سنة، لولا والدتي كنت انتحرت، أنا كنت طفلاً، وأتعرض لهجوم شديد، والناس لم تتقبل كوني أعمل شيئاً أحبه وأحاول أن أبدع فيه، ثم وصلت إلى مرحلة تقبل خطابات الكراهية، رغم الشتائم التي تصلني"، يقول زياد.
وفقاً لتصريحات ديفير كاهان مؤسس العلامة التجارية Stryx المصممة للرجال عام 2020، أنه رغم تراجع مبيعات Stryx في أول أسبوعين من الحجر الصحي، إلا أنها عادت للارتفاع فيما بعد بنسبة 50% بسبب الانسيابية والمرونة بين الجنسين لدى جيل Z، وهو جيل الألفية.
تتسم حدود جيل الألفية أنها بلا حدود، بحسب خالد برماوي، وهو صحافي متخصص في أدوات الإعلام الرقمي الجديد، يقول لرصيف22: "علينا أن نعتاد ما يفعله هذا الجيل "جيل زد"، وأن نألف تقلباته، وتجاربه، وصدماته على الشبكات الاجتماعية، المليئة بمحتوى وأفكار وعادات مختلفة، فطبيعي أن يرى هذا الجيل الثقافات الأخرى، ويجرب ما يفعلونه".
ولكننا، بحسب برماوي، لا نعرف حتى الآن إذا ما كانت تجارب هذا الجيل الذي يصفها أنها خارج نطاقنا الاجتماعي ستستمر أم ستتوقف عند تلك المرحلة أو ستأخذ شكلاً آخر.
"أنا لست دراج كوين"
مراحل عديدة خاضها فنان المكياج زياد عبد المحسن حتى يعرف كيف يستخدم أدوات المكياج التي تستخدمها النساء، مثل "ظلال العيون، الباودر، أحمر الشفاه، كريم الأساس" وغيرها، وبالطبع كانت والدته خير "موديل" يستعين به.
"بدأت استخدام الأدوات على والدتي، أحياناً كنت أجعل وجهها برتقالياً، وأفسدت العديد من إطلالات المكياج لها، لكنها كانت تدعمني رغم ذلك"، يقول زياد، بينما تضيف والدته، رفضت الكشف عن هويتها، لرصيف22: ""نشجعه أنا ووالده لأنه موهوب، ويحب الرسم واستخدام الألوان، تحفظنا الوحيد هو أن يطبّق المكياج على وجهه، فهذا الفعل يثير المشاكل مع المجتمع".
يعيش زياد في منطقة الدقي بمحافظة الجيزة، تحديداً بحي قديم كان يسكنه حتى الثمانينيات بعض الفنانين، ويقول عنه "لا أحد من جيراني يعرف ما أفعله، لكن الدقي معتادة التدخل في حريات الناس وإطلاق التعليقات عموماً".
أما الكاتب خالد برماوي فلم يعتبر تلك التقاليع الجديدة لجيل الألفية خطيرة إلى حد ما ولا ظاهرة، كما لا يمكننا أن نضيق عليهم باب إخراج أفكارهم، فهذا الجيل من الذكور الذي لا يعتبر المكياج تابوهاً محرماً ويستخدمه، ربما يفعل ذلك إما لتصالح مع ميول جنسية مختلفة أو كهواية أو موهبة.
ويرفض زياد وصفه بأنه "دراج كوين Drag Queen"، وهم رجال يضعون المكياج، ويلبسون الباروكة والفساتين من أجل استعراضات غناء ورقص مصحوبة بالفكاهة، تظهر اعتزازهم بالهوية الأنثوية لديهم لتعزيز تقبل الناس للأشخاص من الطيف الجندري المختلف.
يقول زياد عن تأثير استخدام المكياج إنه إحساس غير مألوف، فهو يعطيه ثقة غريبة في نفسه، كما يشعر بنشوة بسبب تغير ملامحه 180 درجة، ويعتبر المكياج كل حياته، وليس مجرد هواية
"أنا لست دراج كوين، أنا ولد يضع مكياجاً ولا أفكر في عمل استعراضات ولا الخروج إلى الشارع بالمكياج، أنا فقط أرسم نوعاً من الفن على وجهي"، بثقة وحماس ونبرة دفاعية يقول زياد.
نعتاد كنساء على إحساس المكياج، أحمر الشفاه الناعم حينما يلامس شفاهنا بسلاسة لينتشر عبرها، وظل الجفون، الذي يعطي بريقاً للعينين، نتعامل برقة وحب مع وجوهنا أثناء إبراز جمالها بالمكياج أو حتى إخفاء الإرهاق البادي علينا، لكن ماذا عن إحساس الولد بهذا الأمر؟
يقول زياد إنه إحساس غير مألوف، فهو يعطيه ثقة غريبة في نفسه، كما يشعر بنشوة بسبب تغير ملامحه 180 درجة، ويعتبر المكياج كل حياته، وليس مجرد هواية، ولن يتخلى عنه بسهولة.
مؤخراً بدأ في استخدام موهبته لكسب الرزق في حفلات الأعراس والخطبة، والمناسبات فيضع مكياج الخطوبة بدءاً من 500 جنيه (32 دولاراً)، والأفراح بدءاً من 1000 جنيه (64 دولاراً)، وهو شيء جعل والدته فخورة به أنه في الـ 15 من عمره، ويستطيع كسب رزقه.
ماذا تقول الأديان؟
"أرفضهم وأمقتهم فهم ملعونون وما يفعلونه حرام سواء قالوا إنه فن أو غيره، فهم مخنثون ويتشبهون بالنساء والإسلام أباح الكحل فقط للرجال والنساء". هكذا أجابت الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، حينما سألناها "هل وضع الرجال للمكياج حرام أم حلال وإن كان فناً؟".
وأجاز كبير المفتين في دبي، مدير دائرة الإفتاء د. أحمد الحداد، استخدام المكياج للرجال عند الضرورة الملحة من غير تمييع أو تشبه بالنساء، بل لإخفاء ما فيه من عيب حادث من بثور وندوب ونحوها، أو ليتجمل لامرأته لتزداد به شغفاً وحباً فإنه "لا حرج فيه"، مشدداً على أنه لو وصل وضع المكياج إلى حد التشبه بالنساء في كل شيء، فإنه يحرم عليهم، وفقاً لصحيفة "عكاظ".
قد يعتبر البعض، خاصة من المحافظين ورجال الدين في العالم العربي، المكياج فناً نسائياً خالصاً، ولكنه يلقى قبولاً جزئياً من المجتمع الغربي، يضعه مشاهير وفنانون ورجال السياسة أمام الكاميرات، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلاً كانت فاتورة مكياجه في الشهور الثلاثة الأولى لحكمه 26 ألف يورو، وقد يستخدمه الرجال في الإذاعة والتلفزيون، وكذلك محبو التجارب، ففيكتوريا بيكهام صاحبة العلامة التجارية Victoria's secret قالت إنها وديفيد يتشاركان في استخدام مكياجها الشخصي.
وقد كان المكياج قديماً فناً مختصاً بطبقة الأثرياء، وليس بالنوع ذكراً أو أنثى، وله تاريخ طويل في ذلك، ومنذ استخدامه قبل أربعة آلاف عام وحتى القرن الـ18 لم يكن تابوهاً محرماً على الرجال.
"إذا كان الإسكندر الأكبر يضع المكياج، فلماذا لا نستطيع؟".
تقول كيمبرلي كريسمان-كامبل، مؤرخة الموضة: "حتى وقت الثورة الفرنسية، كان الشعر المستعار وأحمر الشفتين والبودرة للجنسين علامة للثراء والذوق الرفيع وليس الجنس، كما لم يكن الرجال في مصر القديمة خائفين من عيون محددة، وإذا كان الإسكندر الأكبر يضع المكياج، فلماذا لا نستطيع؟".
أما ارتباطه بالنساء، ففي العصر الفيكتوري انتشر استخدام المكياج بين الرجال بشكل واسع واعتبرت الملكة فيكتوريا الأولى ملكة بريطانيا أن مستحضرات التجميل مبتذلة، وهي وجهة نظر أيدتها كنيسة إنجلترا وقتذاك، واعتبر التاج والكنيسة المكياج "رجسًا"، مما أوجد ارتباطات قوية وواسعة النطاق بين المكياج والغرور والأنوثة و"عمل الشيطان".
ولكن كيف يقيم زياد نفسه هوايته؟ يجيب بأنه يرى لكل شخص الاعتقاد الخاص به، كما أنه لا يستطيع أن يقنع كل الناس أن ما يفعله فن مثل الرسم التقليدي، ويحرص ألا يخرج بمكياجه الكامل إلى الناس في الشارع، ولا يضعه كل يوم، لذا فهو محافظ على هوية الرجل التقليدية كما يراها المجتمع، ولم يخدشها في شيء، كما يؤكد.
أما نهال الخطيب، وهي فنانة مكياج تعمل منذ أكثر من ست سنوات في هذا المجال، تقول إنها تتابع فنانين مكياج رجالاً، وتحب عملهم، ولا ترفض وجودهم، وتراهم يضيفون أفكارهم الخاصة، ويُعلِمون تكتيكات جديدة، مثل: التعامل مع الوجه المنحوت الملامح، والحاد، والبارز، والتعامل مع الوجوه المماثلة، التي لا تملك مساحة لرسم الجفون، والخدود، والشفاه".
وترى الخطيب أن "بعضهم قد يفعل ذلك ليتصالح مع فكرته الداخلية عن نفسه أنه أنثى، كما أن المكياج على الملامح الذكورية أمر صعب، وتحويلها لأنثوية أمر أصعب، ويدل على احترافية عالية، واقتصار هذا الفن على النساء فقط هو فكرة قديمة، ومن يقدم الجديد هو من ينجح".
وتعتقد أن هؤلاء الرجال يقومون بذلك لتجربة إحساس الأنثى بالمكياج على أنفسهم، وربما لتوفير وجود موديل، كما أن طاقة الإبداع ليس لها سن ولا حدود.
كما تؤكد أن المجتمع سيتصالح معهم قريباً مثل تصالحه مع مصففي الشعر، والطباخين الرجال، وهما مجالان كانا حكراً على النساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...