شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أخيراً تصالحت مع أنوثتي بعدما أرادني أهلي صبياً

أخيراً تصالحت مع أنوثتي بعدما أرادني أهلي صبياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 17 فبراير 202002:48 م

لشدة ثقل اليوم الذي ولدت فيه على قلب أمي، لم تعد تتذكر بالضبط متى ولدتُ، الأربعاء أو الخميس، في الصباح أو المساء، تتداخل الأحداث في ذاكرتها ولا تستطيع التوصل الى نتيجة.

في الحقيقة ليس مهماً متى ولدت، ما يشغلني هو السبب وراء نسيان أمي موعد ولادة طفلها الأول، بعد أن كانت الأمومة أول أحلامها، وذاك الاسم الذي أطلقته عليّ دون تخطيط مسبق، ولو كان اسماً جميلاً.

ذهبت أمي إلى المستشفى وخرجت تلك "الكارثة" من رحمها على شكل أنثى غير متوقعة.

لم يكن جهاز الإيكو متوفراً في المدينة التي كانت تعيش فيها أمي، لذلك افترضت هي وأبي أنها حامل بصبي. لا لم يفترضا، بل جزما، وطالما أن أبي فحل ولا ينقصه من الرجولة شيء، فهما حتماً بانتظار الصبي، واسمه كانت أمي قد حضّرته قبل زواجها بزمن بعيد… علي.

ذهبت أمي إلى المستشفى وخرجت تلك "الكارثة" من رحمها على شكل أنثى غير متوقعة، لحسن الحظ أن ملابس حديثي الولادة على زمننا كانت بيضاء، أي لا يوجد لون جندري يحكمها، وهنا تكون المشكلة الأولى، والثانوية محلولة بطبيعة الحال، لكن أحد الأسئلة التي واجهها والداي كانت: ماذا نسمي هذه المفاجأة؟ فقال أبي مبتلعاً انكساره: ممممم (علي)... علياء.

لا أذكر حباً ولا عطفاً ولا كلمة طيبة سمعتها في طفولتي، ليس لأنني فتاة، وما يؤكد ذلك أن أمي رزقت بأربعة صبيان بعدي وعاملتهم بنفس الطريقة، المؤكد أنها أم غير لطيفة وأنانية، بسبب تربيتها ولأنها لم تلقَ حباً في طفولتها، فعجزت هي بدورها عن منحه. عاملتنا بتكافؤ مطلق، لا حب ولا احترام ولا قبول.

عرفت مبكراً رفضهم لي كفتاة، وكان جليّاً أن أمي تتحاشى أي كلمة تتعلق بالأنوثة لذلك، مع الوقت، وربما إرضاءً لهم، صرت كياناً بلا جنس، لا صبي ولا فتاة، لكن في طفولتي كنت أحلم باليوم الذي سأضع فيه المكياج على وجهي وأنتظر أن أكبر لأرتدي حذاء ذا كعب عال

عرفت مبكراً رفضهم لي كفتاة، وكان جليّاً أن أمي تتحاشى أي كلمة تتعلق بالأنوثة لذلك، مع الوقت، وربما إرضاءً لهم، صرت كياناً بلا جنس، لا صبي ولا فتاة، لكن في طفولتي كنت أحلم باليوم الذي سأضع فيه المكياج على وجهي وأنتظر أن أكبر لأرتدي حذاء ذا كعب عال، وكلما ذهبت أمي لتشرب القهوة عند الجيران، كنت أضع شريط كاسيت في "المسجل" وألف منشفة على خصري وأرقص حتى التعب، وفي مراهقتي، كان أوّل من أحببته سراً كان صبياً من العائلة، وكذلك الذين أحببتهم بعده (أيضاً سراً) كانوا ذكوراً، ما يعزز أنني هرمونياً ونفسياً أنثى (إن جاز التعبير طبياً)، لكن مواجهتي الخارجية مع العالم كانت بوجه حيادي، ومع الوقت صارت أحلامي تتعلق فقط بالدراسة والنجاحات، واليوم الذي أرفع رأس أبي وأنال رضاه.

استقليت مادياً منذ سنتي الأولى في الجامعة، حيث كنت أدرس رياضيات، وبدأت بإعطاء دروس خصوصية وأجمع المال لأساعد عائلتي (التي لم تكن تحتاج إلى المال أصلاً)، أعمل وأشتري هدايا لهم وأدفع فواتيرهم وأساعد أشقائي الأصغر مني، ولم أشتر شيئاً لي، لا ملابس ولا مكياج، ولم أذهب كباقي صديقاتي إلى الكافتيريات والمطاعم، ولم أخرج مع شاب في موعد غرامي.

من هنا، عندما أحاول فهم ما كان يحدث معي، أدرك أنني أقنعت نفسي أن والديّ يحتاجان مساعدتي (لأشتري قبولهم وابتسامتهم لي بالمال)، وإن كنت سأدخل في علاقة معلنة أو حتى علاقة، ربما هذا سيكون تصريحاً مني بأنني فتاة وأنثى، وربما أيضاً سأفقد رضاهما، فعكفت عن أي علاقة مع رجل، واكتفيت بالحب الصامت الذي كان يدمرني.

أول علاقة مع رجل كانت بعد أن تجاوزت الثامنة والعشرين، وطبعاً كان ذكياً وعرف كيف يقنعني بعد محاولات دامت لسنوات. الأمر معقد هنا، بالتأكيد كان لدي القبول في اللاوعي والرغبة في أن أكون معه، لكن وعيي كان يرفض إقراراً علنياً بأنوثتي، خوفاً من خسارة والديّ، وبنفس الوقت كانت أمي تنتظر أن أتزوج لأن الموضوع بات محرجاً أمام جاراتها، حيث كل بناتهنّ تزوجن إلا أنا.

في الواقع لا أستطيع إلى الآن تفسير هذه المعادلة الصعبة عليّ. وبالتأكيد فتاة مستقلة إلى درجة كبيرة ولم تعرف التعامل مع أنوثتها كامرأة ولا مع الرجل، وقادمة من طفولة تعرضت فيها لكافة أنواع الشتائم والإهانات، ستكون علاقتها مع الرجل إشكالية، ولسوء حظي (أو من المنطقي أن تكون الأمور كذلك ضمن سياق حياتي) وقعت بين يدي رجل نرجسي وحقير، يحبني وبنفس الوقت يعاني من أنني لست أنثى محنية الرأس أمام رجولته، يحبني ويستحي أن يعرفني على أصدقائه، لأنني سأوافق وأعارض، وسأتحدث بثقة بدلاً من الجلوس بصمت بجانبه لاستعرض جمالي (كنت كما كان يقول لي الناس فتاة جميلة)، كان يغيظه أن لا أحب الكُتّاب الذين يحبهم، ولا أتبنى آراءه السياسية، ولا أجد الأمر مضحكاً عندما يخبرني عن أحد أصدقائه الذي صاحبَ امرأة متزوجة وأكثر بكثير مما ذكرت.

الآن وبعد كل هذه السنوات اعترفت أنني أنثى بصوت عال... الآن أرتدي فساتين ملونة بثقة وأضع أحمر الشفاه بفخر: أنا امرأة. أنا مراااااااا. ورحمي الذي ينجب وثدياي اللذان يدران الحليب هما ما يجعل هذه الحياة تستمر، وما يجعلني مثيرة أيضاً

ربما ستتساءلون الآن لماذا بقيت معه رغم كل هذا؟! الجواب (أيضاً ربما) لأنه أعطاني قبولاً معلناً، ولأن لا وعيي كان يدرك أنه "يضحك عليّ" ولن يكمل معي، لكن في الوعي كنت أحضر أسماء أطفالنا. ومرة أخرى، وكنهاية منطقية، تركني بطريقة قاسية ما زالت جروحها تؤلمني من وقت لآخر، رغم أنني أعرف أنني أحمل مسؤولية ما حدث، لأن الأمور كانت واضحة وأنا من بم يكن يريد رؤيتها، أما لماذا بقي سنوات يحاول إقناعي أنه يحبني ثم تعامل معي بهذه الطريقة؟ أعتقد أنه لأحد السببين: الأول أنه كان يجدني بالشكل امرأة جميلة، وبعد أن اقترب مني تفاجأ أنني قوية وغير متصالحة مع أنوثتي، والثاني لأنه لم يقبل أن ترفضه امرأة، فبقي يحاول لسنوات إلى أن حصل عليّ، وأثبت لنفسه أنه لا يُرفض بحكم نرجسيته.

الآن وبعد كل هذه السنوات اعترفت أنني أنثى بصوت عال، لكن بعد أن تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمري، وبعد أن خضت طويلاً في علم النفس وقرأت كثيراً عما يشبه حالتي، وعن الطفولة وتأثير التربية، كما علمتني كل تلك التجارب القاسية التي عشتها.

الآن أرتدي فساتين ملونة بثقة وأضع أحمر الشفاه بفخر: أنا امرأة. أنا مراااااااا. ورحمي الذي ينجب وثدياي اللذان يدران الحليب هما ما يجعل هذه الحياة تستمر، وما يجعلني مثيرة أيضاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image