قد نظن أننا تخلّصنا من عادة الجاهلية المتمثلة بوأد البنات، لكن الواقع يقول إن وأد الإناث أخذ أشكالاً أخرى وما زال يحدث وإنما بشكل مستتر، فما زالت الأفضلية للذكر رغم كل المكتسبات التي حصلت عليها المرأة.
في بعض قرى الريف المصري والصعيد، بل والمدينة أيضاً، يحدث أن تنجب المرأة توأماً، ذكراً وأنثى، فتحتفظ بالولد لرضاعته طبيعياً، بينما ترسل البنت إلى جدتها أو تقوم بإرضاعها لبناً صناعياً.
الذكر أحق بالرضاعة والرعاية والتعليم
نادية، فتاة لها من العمر 18 عاماً، ومقيمة في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، قالت في حديث لرصيف22: "تربيتُ مع جدتي لأن أمي لم تقم بإرضاعي وأنا صغيرة، إذ إنها وجّهت اهتمامها لأخي الولد، بأمر من والدي، وهي عملت على إرضائه. أحبتني جدتي وعشت معها حتى العاشرة من عمري ورحلت، ثم انتقلت للعيش مع أمي".
أضافت الفتاة التي فضلت الحديث باسم مستعار: "كانت جدتي ترضعني من لبن البقر، وكذلك اشترت لي لبناً صناعياً. لا أحب أمي كثيراً ولن أنسى ما فعلته معي وتفضيلها لأخي. حتى الآن والداي يحبان أخي أكثر مني فهو المفضل لديهما، وهناك حالات كثيرة مثلي في قريتنا، حتى أن هناك جارة لنا رفضت أن ترضع ابنتها رغم أنها لم تنجب أولاداً غيرها".
يحدث أن تنجب المرأة توأماً، ذكراً وأنثى، فتحتفظ بالولد لرضاعته طبيعياً، وترسل البنت إلى جدتها.
عن هذا الأمر، تتحدث لطيفة محمود لرصيف22 بالقول: "نحن تربينا على أن نفضل الولد على البنت بموضوع الرضاعة، فباتت ممارسة طبيعية لدينا. تربينا على أن الولد هو الذي سيبني الأسرة في المستقبل، وهو الأحق بالرضاعة والرعاية الصحية، ولذلك نهتم به لأنه يجب أن يكون قوياً وليست الفتاة".
أضافت لطيفة، ذات الأعوام الثمانية والأربعين والمقيمة في محافظة البحيرة: "تربت ابنتي مع جدتها وكانت ضعيفة. كنت أشعر أنها لن تعيش ولكنها الحمد لله أصبحت شابة. ابنتي لا تكرهني وقد ربيتها على أن للرجل الأولوية في كل شيء".
لسعاد (26 سنة) حكاية أخرى روتها لرصيف22: "كنت أحتاج للحضانة عندما ولدت بسبب ضعفي الشديد وكذلك كان أخي. طلب أبي من المستشفى وضع أخي أولاً، وأمي لم تستطع مخالفته، لكن الأطباء لم ينفّذوا كلامه، وشاءت الأقدار أن أعيش. الأهل هنا في الصعيد يعتقدون أن الفتاة في النهاية ستذهب لرجل غريب ولن تحمل اسم الأسرة، ولكن الولد هو الذي يحمل اسم العائلة ويشرفها".
"جدتي أرضعتني ماء بسكّر"
تشير قمر (18 عاماً)، إلى أن هذه العادات لا تنتشر في كامل الصعيد حيث تقيم، وإنما في بعض المناطق فقط. وتضيف في حديثها لرصيف22: "أعيش في بيت خالي وأحب زوجته جداً. تركتني أمي وأنا صغيرة مع جدتي لأنني كنت مريضة، وشعرت أنني سأكون عالة عليها، ووجّهت اهتمامها الأكبر نحو شقيقي، وكانت جدتي ترضعني ماء بسكّر، وبعد وفاتها تركتني لخالي وزوجته".
قمر (اسم مستعار) تحدثت عن وضع الفتاة في بعض قرى الصعيد: "البنت تتربى على أنها تأتي بعد الولد وتنشأ راضية بهذا الوضع، إلا من تحاول أن تتمرّد. التفرقة في كل شيء، في الرعاية والتعليم، وعند الأكل، نحن النساء نقف جانباً حتى يأكل الرجال ثم نأكل ما يتبقى منهم".
أيضاً تحديث عزيزة عبد الله، وهي سيدة ثلاثينية من المنوفية، عن الأمر لرصيف22: "كان لدي ابنتان وكنت أدعو الله أن أنجب ولداً لأن زوجي كان يحمّلني ذنب إنجاب البنات، وربنا رزقني وحملت بتوأم وأنجبت ولداً وبنتاً. وقتها طلبت مني أمي أن تأخذ البنت، وعندما اعترضت أيدها زوجي فيما قالته وأمرني أن أترك ابنتي لأمي".
"كنت مغلوبة على أمري. لم أقتنع يوماً أن الولد أفضل من البنت، وأحببت ابنتي كثيراً ولكني للأسف لم أرضعها. زوجي يفضل ابنه على البنات في كل شيء، وعائلته كلها كذلك، ولا أستطيع أن أغير تفكيره، فالبنت برأيهم خلقت فقط لتتزوج وتنجب عندما تكبر"، أضافت في حديثها.
وأد البنات مستمر
تحدث الخبير الاجتماعي، الدكتور سعيد صادق، عن هذه الظاهرة لرصيف22: "ما زالت نفس الثقافة الذكورية منتشرة جداً في مجتمعاتنا العربية، سواء في القرى أو المدن، فالبنت يُنظر إليها على أنها مواطن درجة ثانية أو حتى ثالثة، والأفضلية في كل شيء تكون للذكر، فالأم تهتم برضاعة الولد لأنه سيكون رجل المستقبل، وبرأيها يجب أن يكون قوياً ويتغذى بصورة مناسبة".
كانت جدتي ترضعني من لبن البقر، وكذلك اشترت لي لبناً صناعياً. لا أحب أمي كثيراً ولن أنسى ما فعلته معي وتفضيلها لأخي. حتى الآن والداي يحبان أخي أكثر مني فهو المفضل لديهما
وبحسب صادق، وهو أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فإن التفرقة لا تكون في الرضاعة فقط بل في الرعاية الصحية كلها، ويضيف: "في بعض القرى تكون نسبة الوفيات للمواليد من الفتيات أكثر، لأن الأب لا يهتم بمولودته الأنثى، وأحياناً قد يتمنى لو يتخلص منها لولا أن المجتمع والقانون لا يسمحان له بذلك".
ويشير المتحدث أيضاً إلى أن هذه الثقافة تدفع النساء كي يقفن ضد بعضهن البعض: "فالأم تستهدف في المقام الأول إرضاء زوجها حتى على حساب ابنتها، والمرأة متشبّعة بالثقافة الذكورية ولا تشعر أنها ترتكب أي شيء خاطئ أو ضد الدين، فهي تريد أن تثبت لزوجها أنها المرأة المطيعة التي تمنحه الولد وتنفذ أوامره، وأنها أصبحت أم الرجال".
الخبير الاجتماعي أوضح أن الفتاة تنشأ في النهاية على هذه الثقافة وتتربى داخلها، ولا تشعر بالنقمة على عائلتها لأنها اعتادت على ذلك، إلا لو قررت أن تصبح متمرّدة وسط مجتمع يسير على وتيرة واحدة.
تأثيرات نفسية
ووفق حديث الدكتورة سوسن الشريف، أستاذة علم النفس والتربية لرصيف22، فإن ظاهرة تفضيل الذكر على الأنثى عالمية ولا تتعلق بالعرب فقط، والتفرقة على أساس النوع موجودة في كافة المجتمعات الغربية، حيث يكون للذكر وضع مختلف تماماً وهو الأفضل والأحق بكل شيء.
وأضافت الخبيرة النفسية والتربوية: "وبالحديث عن مجتمعنا في مصر، فإن مسألة تفضيل الولد على البنت موجودة في كل الثقافات وفي المدن أيضاً، والتفرقة لا تكون في الرضاعة فقط بل في كل شيء، فالتعليم يكون للولد والفتاة تعليمها لا يكون ضرورة. نحن تربينا أن الرجل يجب أن يتغذى أكثر لأنه يتعب في العمل وهو الذي يرعى الأسرة، بينما الفتيات في بعض المجتمعات لا يخرجن من منازلهن للعمل، وفكرة العمل ما زالت مرفوضة بالنسبة لعائلاتهن".
ما زالت نفس الثقافة الذكورية منتشرة جداً في مجتمعاتنا العربية، فالبنت يُنظر إليها على أنها مواطن درجة ثانية أو حتى ثالثة، والأفضلية في كل شيء تكون للذكر، فالأم تهتم برضاعة الولد لأنه سيكون رجل المستقبل، وبرأيها يجب أن يكون قوياً ويتغذى بصورة مناسبة
وأوضحت الدكتورة سوسن أن التأثير النفسي على الفتيات في هذه القضية يعتمد على البيئة، فلو تربت في عائلة كلها تسير على نفس الوتيرة لا تتأثر كثيراً، فمثلاً لو عاشت فتاة في أسرة كل رجالها يتزوجون أكثر من مرة ستكون معتادة على ذلك، والعكس صحيح. ولكن في بعض الحالات تتأثر الفتاة وتحاول أن تبني نفسها وتبذل جهداً لتعيد مكتسباتها الضائعة.
وفي هذا السياق، ترى الناشطة النسوية والحقوقية إيفون مسعد بأن بعض العادات القديمة لن تتغير بمرور الزمن مهما تطور الأشخاص لأنهم تربوا عليها، وهذا ما يحدث في بعض مناطق الصعيد والريف والمدينة أيضاً، حيث ما زالت فكرة تفضيل الولد على الفتاة مستمرة.
وتضيف مسعد في حديثها لرصيف22: "إن فكرة رضاعة الأم للولد وترك الفتاة، سواء بإرادتها أو بأمر من الأب، هي نفس فكرة التفاف الرجال في الريف على مائدة الأكل للشبع، وبعد ذلك تجلس النساء لتأكل ما تبقى منهم، فعندما ترضع الأم ولدها فهي ترى أنه الأحق باللبن وأنه يستحقه أكثر من البنت، لأنه سيكون الرجل الذي سيخلد اسمهم وسيدافع عنهم في المستقبل".
مسعد، وهي مديرة المكتب التنفيذي للجبهة الوطنية لنساء مصر، أكّدت أن هذا الفكر سيظل متواجداً مع الأسف، ما دامت التربية منذ الصغر تعمل على ترسيخه، ففي الصعيد ما زال الرجل يرفض أن ترث شقيقته الأرض، لأنه يرفض أن تذهب أرض أبيه إلى رجل غريب وهو زوج أخته، وعندما يتربى الولد على أنه أفضل من أخته لن يكون رحيماً بها، وسيكون جاحداً وسيتمادى في ظلمها حتى بعد وفاة والديه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...