الجميع يعرفون القاهرة، ولكن قلائل هم الذين يعرفون أن هذه العاصمة الكبيرة المصنفة في عداد أكثر العواصم ازدحاماً في العالم، هي نتاج تزاوج أربع عواصم في العصر العربي هي بالترتيب: الفسطاط، العسكر، القطائع، القاهرة القديمة. نشأت كل منها واتصلت بالأخرى، ثم تمدد العمران فيها وتداخلت الحدود حتى تكوّنت العاصمة المصرية المعروفة حالياً.
[
فسطاط عمرو بن العاص: 20هـ - 741م
بعد جلاء البيزنطيين عن الإسكندرية، عاصمة مصر آنذاك، خلت منازلهم منهم فأراد عمرو بن العاص أن يحل العرب محلهم فيها، وأن تبقى المدينة العريقة، عاصمة للبلاد. لكن الخليفة عمر بن الخطاب وجه أمراً إلى قادته في العراق والشام ومصر قضى بألا تفصل بين مواقع إدارتهم البلدان المفتوحة، وعاصمة الخلافة، المدينة، أي موانع بحرية أو نهرية. فكان على ابن العاص أن يختار موقعاً آخر، وعملاً بما اعتاده العرب من اختيار أماكن جافة المناخ، اختار بقعة قرب حصن بابليون، المقر السابق للحامية البيزنطية المهزومة، ليبدأ منه تخطيط عاصمته.
أما اسم الفسطاط فله 3 قصص. القصة الأولى تقول إن الجيش العربي حين رجع من فتح الإسكندرية تساءل القادة "أين نستقر؟" فكانت الإجابة "عند الفسطاط"، أي في موضع فسطاط/خيمة القيادة الخاصة بعمر بن العاص، فحملت المدينة هذا الاسم. القصة الثانية تنسب الاسم لحديث منقول عن الرسول، وهو "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط" (مصنف كحديث غريب).
أما القصة الثالثة، وهي الأكثر شيوعاً، فهي أن جيش العرب حين أراد التحرك من عند حصن بابليون متوجهاً إلى الإسكندرية وأراد الجند خلع خيمة عمرو بن العاص، وجدوا حمامة باضت عليه فتحرّجوا من ترويعها، وتركوه على حاله فسُمِيَت المدينة بالفسطاط.
وأيًا كانت الرواية الأصح، فإن ابن العاص كلّف أربعة من رجاله تولي تخطيط المدينة حول كل من المسجد ودار الإمارة (مقر الحكم)، فكان تقسيمها بالشكل المعتاد قديماً عند العرب، وهو أن يكون لكل قبيلة أو عشيرة أو أهل بلد حيّهم الخاص مع ترك مساحات خالية بين الأحياء. لكن تلك المساحات سرعان ما تلاقت بحكم امتداد العمران، وتزايد أعداد السكان، وتمددت مساحة المدينة نفسها عبر العصور، حتى بعد أن فقدت مركزها كعاصمة.
وبالرغم من معاصرة الفسطاط لثلاث عواصم تالية هي "العسكر" و"القطائع" و"القاهرة"، لم تفقد مكانتها كمركز لحياة المصريين وأنشطتهم، خصوصاً أن "العسكر" كانت بمثابة "قاعدة عسكرية"، و"القطائع" مدينة لمؤسسات الحكم، وكذلك القاهرة الفاطمية حتى بداية العصر الأيوبي أكثر من كونها مدناً سكنية.
لكن، كانت نهاية الفسطاط القديمة سنة 461هـ - 1069م، في نهايات العصر الفاطمي، حين توغلت القوات الصليبية بقيادة "أمالريك"، الشهير بعموري، ملك بيت المقدس، في الأراضي المصرية ووصلت حتى منطقة بلبيس وبركة الحبش، فقام الوزير شاور بإرسال 20 ألف قارورة من المواد المشتعلة و10 آلاف مشعل، وأحرق الفسطاط بعد تهجير أهلها، وبقيت النيران مدة 54 يوماً تأكل المدينة، حتى انسحب الصليبيون، بعد وصول قوات أسد الدين شريكوه وصلاح الدين الأيوبي من الشام، وقد حاول شريكوه إعادة إعمار الفسطاط، ثم جرت محاولة أخرى في عهد السلطان الأيوبي نجم الدين. وعادت الحياة للمدينة حتى جاء الوباء الشهير بـ"الفناء الكبير" في عهد السلطان المملوكي العادل كتبغا في القرن الثالث عشر الميلادي. ما يجعل بعض المتخصصين في التاريخ يؤكدون أن منطقة "القاهرة القديمة" ليست "الفسطاط"، لكنها بُنِيَت على أنقاضها.
العسكر، العاصمة التي لم تكتب لها الحياة
حين قُتِل آخر خليفة أموي، وهو يحاول الهرب من جند العباسيين في "بوصير" المصرية، كان هذا إيذاناً بانتقال مصر من يد بني أمية إلى قبضة بني العباس. سنة 132هـ -750-م قام صالح بن علي، أول والي عباسي على مصر باختيار منطقة "جبل يشكر" في الفسطاط لبناء مدينة، تكون مركزاً لتجمع جنود العباسيين، ومقراً لإدارة الحكم. وقد أطلق عليها المصريون اسم "العسكر"، لملاحظتهم وفود الجنود إليها وتمركزهم فيها.
بعد ترك صالح بن علي ولاية مصر، تم إهمال المدينة التي لم تعش طويلًا كعاصمة للولاية، وبعد نحو 70 عاماً، سمح والي مصر "السَري بن الحكم" لسكان الفسطاط بالبناء في العسكر، حتى اتصل العمران فيها بالعمران في الفسطاط، وبنى فيها "دار الإمارة" و"مسجد العسكر"، لكن بقيت الفسطاط عاصمة فعلية لمصر.
قطائع أحمد بن طولون
يرى بعض المؤرخين أن تولي أحمد بن طولون الحكم في مصر هو البداية الفعلية لها كبلد عربي مستقل. ففور تولي هذا المقاتل والسياسي التركي أمور مصر، سارع إلى إنشاء عاصمته الخاصة متأثراً بتصميم وتخطيط مدينة "سامراء" العراقية. 265هـ - 869م هو عام ميلاد "القطائع". وسُمِيَت هكذا لأن ابن طولون قسمها مناطق لكل فئة من سكانها، وأطلق على كل منطقة اسم "القطيعة". وقام مع رجاله بتقسيم مناطق الأسواق فكان "سوق العيارين" و"سوق الطباخين" و"سوق الفاميين" وهكذا.
وفي موقع يطل على العاصمة، بنى قصر الحكم، وجعل له أبواباً لكل منها غرضه، فـ"باب الميدان" خاص بدخول الجيش وخروجه، و"باب الصوالجة" لعامة الناس، و"باب الخاصة" لخاصة الوالي، و"باب الحرم" للحريم والخصيان. وبنى مسجده الشهير في الطرف الآخر من الميدان وجعل له في القصر مجلساً عالياً يشرف منه على القصر والميدان والمدينة. كما بنى بعض العيون للماء، وبعض المطابخ لإطعام الفقراء، والمارستان (المستشفى). إلا أن القطائع لم تستمر على عظمتها سوى 38 عاماً، هي عمر الدولة الطولونية التي أسقطها العباسيون بعد أن ساءهم استقلالها بمصر والشام عن الخلافة. فأسقطت جيوشهم آل طولون وخربت القطائع، وعادت الفسطاط لتصبح عاصمة إدارية لمصر.
القاهرة هي العاصمة الأطول عمراً
ربما هي من العواصم الأطول عمراً في تاريخ الدول على مستوى العالم. الطريف أن اسمها "القاهرة"، جاء نتيجة مصادفة. فسنة 358هـ - 696م، سقطت مصر في يد القائد الفاطمي جوهر الصقلي، فسارع إلى بناء عاصمة للحكم بسبب خوفه من محاولات عباسية لاسترداد مصر، ومن حركة القرامطة، التي كان تحالفها مع الفاطميين تحول إلى عداء شديد. خلال ثلاث سنوات كان جوهر بنى المدينة شمالي الفسطاط وسماها "المنصورية"، إلا أن الخليفة المعز لدين الله حين جاء من المغرب ناقلًا مركز خلافته إلى مصر غيّر اسمها إلى القاهرة.
ينسب البعض الاسم لقول للمعز عن جوهر: "والله لو خرج جوهر وحده لفتح مصر، وليدخلن إلى مصر من غير حرب، ولينزلن في خرابات ابن طولون ويبني مدينة تقهر الدنيا"، فسُمِيَت القاهرة. وثمة قصة أخرى تقول إن سبب التسمية هو أن جوهر الصقلي أمر البنائين ألا يلقوا مواد البناء في أساس المدينة، إلا بعد أن يشير المنجمون، الذين كانوا يستطلعون نجماً للسَعد لتُبنَى العاصمة على طالعه، فوقع خطأ أدى لبدء البناء مع ظهور النجم "القاهر" فحملت المدينة اسمه.
وأيًا كان السبب، فإن الفاطميين حين أنشأوا القاهرة، لم يجعلوها لسكن العامة، إنما لمنشآت الحكم واستقرار الجنود والقادة. فجعلوا فيها القصر للأسرة الحاكمة، والمسجد الأزهر للدعوة الشيعية، وخططوا حارات للجنود والقبائل القادمة مع جوهر. وأحاط جوهر العاصمة بسور قوي وحفر خندقاً من جهة الشام تحسباً للتصدي لأي غزو محتمل، وجعل هو ومن بعده للمدينة أبواباً كـ"باب زويلة" و"باب النصر"، و"باب الخرق" (الخلق) وغيرها.
بقيت القاهرة على ازدهارها، وسكنتها الطبقة الحاكمة، واستقر العامة في الفسطاط، التي شهدت حركات التمرد الشعبي ضد الحاكم بأمرالله خلال فترة تأليهه نفسه. ولكن كما صعد نجم القاهرة، سقطت في يد الفوضى والدمار حين هاجمت البلاد مجاعة طاحنة ووباء بشع في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي، وانتشرت حوادث اختطاف البشر وأكلهم، وخربت البيوت وأُهمِلَت.
بعد تلك الأزمة، دخلت الدولة في عهد من سيطرة الوزراء على الحكم، وتبادلهم التآمر والانقلابات، وهذا ما أثر سلباً في مستوى الأمان في العاصمة، خلال الصراع بين القائدين شاور وضرغام، الذي انتهى بسقوط الخلافة الفاطمية وسيطرة الأيوبيين على مصر. فأغلقوا الجامع الأزهر، واعتقلوا بقايا الأسرة الفاطمية وأبقوها قيد الإقامة الجبرية في منطقة "حارة بيرجوان"، وسمحوا لعامة الشعب بالسكن في القاهرة بعد أن كانت للصفوة الحاكمة.
كان أهم إسهام للأيوبيين في عمران القاهرة، هو بناء قلعة الجبل التي بدأها صلاح الدين، ثم أُهمِلَ بناؤها بعد موته، فاستكملها ابن أخيه السلطان الكامل بن العادل. وبنى نجم الدين أيوب قلعة جزيرة الروضة لينتقل إليها بمماليكه، الذين عُرِفوا بـ"المماليك البحرية". وشجع الأيوبيون الناس على تعمير المساحات بين القاهرة والفسطاط، والتمدد في المدينة كلها.
أما العصر المملوكي فكان العصر الذهبي للعمران في القاهرة، في عهود الظاهر بيبرس والناصر محمد بن قلاوون والأشرف قايتباي. فبيبرس قام بإعادة افتتاح الأزهر، وجعله مركزاً للإسلام السُني وجامعة كبيرة. وأنشأ الميادين لتدريب الجنود على أعمال الرماية والفروسية والقتال، وبنى المدرسة الظاهرية وجامع الظاهر، والناصر محمد أنشأ الخانقاه (مقر الصوفية)، المعروفة حالياً بـ"الخانكة" وحفر "الخليج الناصري" من النيل، وأنشأ السواقي لتوصيل الماء. أما قايتباي فأنشأ "ربع قايتباي" و"مسجد قايتباي" وقرافته. وفي عهده قام مساعده أزبك بن ططخ بتأسيس الحي الذي حمل اسمه، الأزبكية، كأرقى أحياء القاهرة القديمة.
ثم كانت نهاية القاهرة بسقوطها في قبضة الاحتلال العثماني سنة 1517م، إذ أباحها سليم الأول لجنوده للنهب والتخريب، حتى التمس منه كبار رجالها الأمان، وعادت مصر مجرد ولاية، وفقدت القاهرة مكانتها المستقلة وباتت مجرد "مركز للإدارة" حتى عهد محمد علي وأسرته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت