لفت انتباهي في مناسبات عديدة، رؤية سيدات تونسيات من أجيال مختلفة، وهن يقتنين زجاجات خمر في إحدى المخازن الكبرى بحي راق في العاصمة، ما دفعني في أحد المرات للاقتراب من إحداهنّ، مُدَّعية حاجتي لعونها في اختيار نوعية خمر مناسب لي.
امرأة أربعينية، ابتسمت لي، بعد أن انتبهت أنَّني أتابعها بنظري، فباغتُها بسؤالي: "أي مشروب أنسب للاستهلاك بالنسبة لفتاة تعتزم التجربة لأول مرة؟"، تردَّدَت في البداية، ولكنها استجابت فيما بعد، ودار بيننا حديث حول أنواع الخمور أجودها وأسوأها، واقتنصت الفرصة لأوسع الحديث معها بشأن علاقتها بالكحول وعما إذا كانت مجاهرتها بشراء المشروبات الروحية يعرضها للمضايقة، أو أن بعض الأحياء الراقية في تونس لم تعد تجد في معاقرة المرأة للخمر أمراً معيباً.
"وصفتني بالعاهرة"
تقول المرأة الأربعينية، واسمها كنزة، في حديثها العابر الذي جمعنا في المخزن، إنها نشأت وسط عائلة قضت سنوات طويلة في المهجر بفرنسا، حيث لا أحد يطلق أحكاماً سلبية على أي امرأة تشرب الخمر، وهناك اختارت العائلة طرد القوالب التي فرضها عليهم المجتمع في تونس، وحاولوا الاندماج مع عادات المجتمع الجديد، والتي كان من بينها حضور المشروب الروحي في البيت بشكل دائم، وإتاحته للجميع إناثاً وذكوراً، شرط ألَّا يتحوَّل الأمر إلى إدمان.
اختارت كنزة أن تسكن أحد الأحياء الراقية لتحافظ على نمط حياتها، ولكنها لم تسلم من المضايقات عندما تشتري النبيذ، إحداهنّ وصفتها بالعاهرة. تقول كنزة لرصيف22: "ولكني لم أبال، لأنني توقعت مثل هذه الردود التي أفضّل مواجهتها بالصمت واللامبالاة".
وكنزة ليست من المدمنين على الكحول، لكنها تحتاج من حين لآخر إلى كأس من النبيذ، "لتستعيد الحياة بهجتها"، كما تقول، رافضة أن يكون الأمر حراماً، كما يروج له رجال الدين، ومصرّة على أنّ الحرام هو السكر الذي يذهب العقل تماماً.
"كسرت القيود مع أصدقاء الجامعة"
تُصنَّف تونس ضمن الدول التي تزدهر فيها تجارة الكحول والمشروبات الروحية، استهلاكاً وإنتاجاً، حتى أنها تصدرت الدول العربية بمعدل استهلاك سنوي تجاوز 26 لتراً للفرد الواحد، متفوقة على دول أوروبية معروفة باستهلاكها المرتفع للخمور، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا، حسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية حول نسق استهلاك الجعة والخمور في مختلف دول العالم.
كما نشرت شركة "ألفا كونسولتينغ" في يوليو 2019، نتائج إحصائية أعدتها بخصوص استهلاك الكحول في تونس، وشملت عينة مكونة من 2500 مواطن من كلا الجنسين، وينتمون لفئات عمرية مختلفة، ويقطنون عدة ولايات من الجمهورية.
وأظهرت الدراسة أن 54.91 % من التونسيين يحتسون الكحول مرة على الأقل في الشهر، حيث قام 68.7% من الذكور باستهلاك مشروب كحولي خلال السداسية الأولى لسنة 2019، في مقابل 28.4% من الإناث.
ريم (اسم مستعار) طالبة جامعية (22 سنة)، من "الكاف" شمال غربي البلاد، تقوم بارتياد إحدى الحانات في العاصمة من أجل بعض كؤوس الجعة مع أصدقائها، ثلاث مرات أسبوعياً، دون علم عائلتها التي لن تسامحها على ذلك في حال عرفت بالأمر.
تقول ريم لرصيف22: "لم أكن يوماً على وفاق مع العقلية السائدة في مدينتي، حيث الكثير من الأشياء مُحرَّمة على المرأة، وممكنة للرجل، ولهذا كنت أنتظر إنهاء المرحلة الثانوية حتى اختار جامعة في العاصمة، حيث يمكنني كسر كل القيود التي فرضت علي".
من أبرز الأشياء التي عزمت على تجربتها، شرب الخمر، وبحثت عن صديق "يأخذ بيدها"، ولا ينتقدها في غيابها، مثلما يفعل الكثير من زملائها في الجامعة، وكانت التجربة الأولى، التي لن تنساها مع صديق يساري.
"بضع قطرات في كأس بلورية كبيرة الحجم تغريني أكثر من المشروب ذاته، احتسيتها على مهل في سهرة حب ستبقى دائماً في ذاكرتي"
"أذكر المرة الأولى التي دخلت فيها حانة، طلبت من صديقي أن أحتسي أربع زجاجات من البيرة، واحدة من أجل أمي، وثانية من أجل أبي، وثالثة من أجل أخي، ورابعة من أجل أختي"
"أذكر المرة الأولى التي وطأت فيها قدمي الحانة، طلبت من صديقي أن أحتسي تباعا أربع زجاجات من البيرة، واحدة من أجل أمي، وثانية من أجل أبي، وثالثة من أجل أخي، ورابعة من أجل أختي التي قبلت بقوانين المحيطين بها".
"أصريت على شرب عدة زجاجات بيرة في أول مرة، فقضيت الليلة أتقيّأ في الحمّام".
تكمل ريم حكايتها: "بدت الدهشة على وجه صديقي الذي طلب مني ألا أستعجل الأمور، وألا أشرب كمية كبيرة، لأنه لم يسبق لي أن احتسيت الكحول ولكنني أصريت، والنتيجة أنهيت الليلة في الحمام أتقيأ حتى خيل لي أنني سأقذف معدتي، بقيت بعد هذه الحادثة أسبوعاً، ثم عدت أقل اندفاعاً وشراهة، حتى بدأت أنسج صداقتي مع المشروب العجيب الجعة. في حين أحاول كتمان الأمر على زملائي في الجامعة حتى أتجنب النصائح والمواعظ التي سئمتها في بيتنا، وحتى أضمن عدم معرفة عائلتي لأتجنب عقاباً لا أجرؤ على تقديره".
وبحسب الدراسة ذاتها، تعتبر المشروبات الكحولية كالبيرة الأكثر إقبالاً من طرف المستهلكين في تونس بنسبة تتجاوز 51%، مقابل 27% للمشروبات الروحية الأخرى.
ويرى أخصائي العلوم الاجتماعية، الدكتور الطيب الطويلي، أن تناول المسكرات بأنواعها في الأوساط النسائية موجود في مختلف المجتمعات ومختلف الأزمنة، وإن اختلفت أسبابه، ورمزيته، واختلفت المجاهرة به حسب المجتمع. ففي الأوساط الراقية يكون أحياناً إيحاء أرستقراطياً ومكملاً لمشهدية البذخ. ويكون أحياناً في الأوساط الفقيرة ذا إيحاء بروليتاري ومكمل لمشهدية الرفض والثورية، حيث تحاول بعض النسوة التعبير عن خروجهن عن الواقع المجتمعي المزري الذي وضعهن على التخوم والهوامش، ويحاولن بذلك إيجاد واقع جديد لهن.
"أول ليلة حب مع النبيذ"
فوزية (33 سنة) موظفة من مدينة المنستير الساحلية، ساورتها مراراً فكرة أن تصبّ لنفسها كأساً من النبيذ الأحمر، في ليلة خاصة تصنعها لنفسها، أو يصنعها أحدهم لها، ولكنها كانت تخشى أن تطالها سهام الشتم من المقربين قبل الغرباء، فظلت تؤجل الرغبة حتى التقت أنيس (حبيبها سابقاً وخطيبها حالياً)، والذي أبدى رغبته في أن تشاركه في احتساء مشروب روحي تختاره.
تحكي فوزية لرصيف22 عن ذكرى أول تجربة لها مع النبيذ: "لا أنسى اليوم الذي أخبرني فيه حبيبي آنذاك بأنه يرغب في أن نكسر الروتين قليلاً ونخرج لشرب كأس من المشروبات الروحية، فوجئت، واعتقدت أنه يحاول استدراجي كما يفعل الكثير من الرجال للإيقاع بحبيباتهم، أبديت دهشتي ففهم ما ساورني من أفكار. عندها أكد لي أنه يعرض الأمر من منطلق رغبة حقيقية في أن تشاركه الأمر، فكان أن أخبرته بأنني كنت أتطلع لهذا منذ زمن".
"لا أنسى اليوم الذي قال لي فيه حبيبي أن نخرج لتناول مشروب روحي".
اختارت فوزية النبيذ الأحمر، تقول: "بضع قطرات في كأس بلورية كبيرة الحجم تغريني أكثر من المشروب ذاته، احتسيتها على مهل في سهرة حب ستبقى دائماً في ذاكرتي".
ومنذ تلك الليلة دأب الخطيبان من فترة إلى أخرى على تنظيم أمسية داخل البيت أو خارجه، حيث تحتفي فيها فوزية بنبيذها وفق طقوس خاصة ابتكرت بعضها، واستحضرت بعضها الآخر من مشاهد على الإنترنت.
وتؤكد فوزية أنها ليست من مدمني الكحول والمشروبات الروحية، ولكنها تحتاج ذلك الطقس الجميل مع مشروبها المفضل رفقة خطيبها، وما يبعثه في كليهما من طاقة إيجابية تجعل أمسيتهما غاية في الدفء والانسجام، على حد تعبيرها.
يفسر الطويلي ذلك بأن احتساء الخمور عند بعض التونسيات ليس شكلاً من أشكال التمرد، وإنما شكل من أشكال التشارك في المتعة وفي الحقوق التي استأثرها الذكر لنفسه لعقود طويلة، واعتبرها فخراً لنفسه ووصمة للجنس الآخر. متع جسدية ودنيوية تباهى بها الذكر الشرقي لقرون، وترك المرأة رهينة للبيت والتبعية وغيرها من ممارسات العبودية والاسترقاق.
ويستدرك أخصائي العلوم الاجتماعية بقوله، إن شرب الخمر بالنسبة للنساء ارتفع في السنوات الأخيرة في العالم بأسره، وهو ما حدا بشركات عالمية منتجة للخمور إلى السعي إلى تأنيث بعض المنتجات الكحولية، ومحاولة إضفاء مسحة رقيقة ونسبة كحول منخفضة لجذب النساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...