"بدأتُ تغسيل الموتى في سن مبكرة نوعاً ما، البداية كانت في إصراري على المشاركة في تغسيل شقيقتي الكبرى، ولم يتجاوز عمري وقتها 25 عاماً"، تقول محرزية، مغسلة الموتى التونسية.
بعد ذلك بفترة قصيرة انخرطت محرزية في جمعية قرآنية لتعلم الطريقة "الشرعية" لتغسيل الموتى وتكفينهم، لتغوص في عالم "تغسيل الأموات"، الذي خاضته منذ أكثر من 35 عاماً.
ومحرزية، التي تجاوزت عتبة الستين عاماً، كرَّست سنوات عمرها لتكون إلى جانب الثكالى، واليتامى، والأرامل بلا مقابل، تقول: "حاشي لله أن أطلب أجراً مقابل تجهيز الموتى، فأجري على الله، ويكفيني ثواباً منه ومغفرة".
تشدد محرزية على أنّ عملها تطوعي، وأنها تستجيب لكل الدعوات التي تصلها لتغسيل الأموات، سواءً في منازلهن أو في المستشفيات الحكومية بطلب من الأهالي.
"هناك من يحصل على أجر مقابل عمله، قد يتجاوز 50 دولاراً، لكني أرفض، ولو أصر أهل الميت فالمقابل لا يتجاوز وجبة غذاء أو عشاء لا غير".
كتومة وصبورة
وعن المواصفات الواجب توفرها في المغسلة ليقوم بتغسيل الميت، قالت محرزية: "من أهم شروط تغسيل الميت أن يكون الشخص صالحاً وملتزما بالعبادات، وعارفاً بأحكام وطريقة الغسل الصحيحة، أضف إلى ذلك أن يكون قوي القلب والإيمان، أميناً وكتوماً وصبوراً يحافظ على حرمة الميت ويؤمن منه الإخلال بحقوقه، إذ لا يجوز له إذا رأى من الميت شيئاً مما يكره أن يذكره ويخبر به الناس."
تلتزم محرزية بواجبات وأخلاقيات تغسيل الميت، مثل الطريقة الشرعية للغسل، الالتزام بالعبادات، الأمانة، كتمان السر، الصبر، الحفاظ على حرمة الميت.
تقوم محرزية بتمديد الميت على سرير الغُسل، وتجرّده من ثيابه، وتضع قطعة قماش سميكة ساترة لعورته، بعد ذلك، يتمّ غسل جسد الميت وإزالة "النجاسة" إن وُجدت، ثمّ توضّئه الوضوء الأكبر، مع الحرص على عدم دخول الماء إلى أنفه وفمه.
اعتادت يداها ملامسة أجساد الموتى عارية، والنظر مباشرة في عيونهم، وألفت أذنها أصوات النحيب والبكاء، وتعايشت مع النفور الاجتماعي عندما يعرف الآخرون أنها مغسّلة الموتى
بعد هذه المرحلة، يبدأ المغسّل بتغسيل كامل جسد الميت بالماء، ثمّ يغسّل شقّه الأيمن كلّه، يليه الشق الأيسر، ويكون هذا الغُسل بالماء والصابون، ثم يوضع العطر أو الكافور.
تقول: "أقوم بتغسيل النساء والأطفال فقط، لأن الأصل في الإسلام كما تعلمت في غسل الميت أن يغسل الرجال الرجال والنساء النساء، ولا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل، وتكشف عن عورته، حتى ولو كان الميت كبيراً في السن ومن المحارم، ويستثنى في هذه الحالة الزوجان طبعاً".
"أصوات بكاء ونحيب"
دخول هذا العالم، حيث الأجساد التي بلا حياة، والالتصاق بها بشكل يومي، لم يكن سهلاً أبداً، تحكي أنها خلال الأيام الأولى كادت تصاب بانهيار عصبي، نتيجة إحساسها المفرط، بسبب ما تشاهده في منزل الميت من نحيب وبكاء.
" كل ليلة، كانت تتردّد أصوات البكاء والنحيب على سمعي، وتعود إلى ذهني صورة الجثة، وهي ممددة أمامي، أتذّكر كيف كان ذلك الشخص يعيش بيننا، وها هو الآن بين يديّ جثة هامدة بلا روح".
"أتأثر أكثر عندما أستحضر بعض الحالات المؤلمة لضحايا الحوادث المرورية والحرائق، إنها الأقسى بلا شكّ، أما الآن، فقد اعتدت على الأمر قليلاً بحكم تجربتي وتعاملي اليومي مع الجثامين، إذ تفرض عليّ ضرورة عملي، كمغسّلة، أن أتمتع بشخصية قوية هادئة، وأكتم مشاعري مهما حدث، خصوصاً أثناء حضور أهل الميت لعملية الغُسل والتكفين، والتي غالباً ما تكون ذات وقع كبير عليهم"، تقول محرزية.
وبالإضافة إلى حرص السيدة محرزية على ألا تنسى أي ركن من أركان الغسل، تحرص أيضاً على الانتباه جيداً إلى كل من يشاركها الغسل من أهل المتوفاة، تفادياً لوقوع أعمال السحر والشعوذة، كما تعتقد.
"يعتقد البعض أننا أناس قساة وقلوبنا صلبة".
وتنهي محرزية حديثها لرصيف22 قائلة: "ربما يعتقد البعض أننا أناس قساة وقلوبنا صلبة، لكن تجدنا متأثرين في سرنا من هيبة الموت. وفي النهاية، أنا كغيري من الناس، لديّ مشاعر إنسانية، منها الخوف طبعًا، لكنني في المقابل أملك القدرة على التحمل وعلى ضبط النفس، لتصبح المسألة فيما بعد متعلقة بالتعود."
تقوم آمال، من بنزرت شمال تونس، هي الأخرى بتغسيل الموتى منذ زمن طويل، لا تتذكر بالتحديد متى بدأت، ولكنها تؤكد أن فترة ممارستها لهذا النشاط تفوق العقدين.
تخشى آمال كثيراً من التعاويذ السحرية، بسبب حادثة أثرت فيها كثيراً، حيث حشت إحدى النساء تعاويذ في فم المتوفي، وعندما تم اكتشافه، باتت أشد حرصاً، وأكثر خوفاً.
الخوف من السحر، المعتقد في تأثيره بكثرة في بنزرت التونسية، هو الشغل الشاغل لأهل الميت، والمكفنات، تقول منيرة لرصيف22 أنها وحسب عاداتهم في القرية التي تقطن فيها، فإن كل الأدوات المستعملة في تغسيل الميت تُدفن معه، إذ يُربط بين رجلي الميت الصابون والعطر و"الكاسة"، لتجنب إمكانية استعمال هذه الأدوات في أعمال السحر.
تتردد في رأسها دائماً أصوات النحيب والبكاء، وتخشى من تأثير عمليات السحر والشعوذة، وتتحمّل عبئاً بأن تبدو أمام الناس صلبة
وتعتقد منيرة أن لكل جسد علامات تخص سلوكياته، فإن كان الميت صاحب "خاتمة حسنة" فيكون خفيفاً، أبيض البشرة، ويشبه النائم، ونعشه خفيف الوزن، وترى أن ثقل النعش لا علاقة له بوزن جسد المتوفي، بقدر ارتباطه بصلاحه.
يقدّر فاضل البجاوي (60 عاماً)، يسكن في العاصمة تونس، النساء اللواتي تطوعن لغسل ميت، ويشكو من أن أغلب المغسلين والمغسلات يطلبون أسعاراً باهظة قد تصل إلى 60 دولاراً لقاء تغسيل الميت.
ويشير فاضل إلى أن الناس يحترمون المرأة مغسلة الموتى، لأنها تكون ملتزمة بالعبادات، ولها "هيبة وقيمة، ومن الثقاة".
ويرى مغسل الموتى، الحاج أحمد الشابي، يسكن في العاصمة تونس، أن العناية بتغسيل الأموات، مطلوب من الرجال والنساء، يوضح لرصيف22: "المرأة في مجتمعاتنا تغسلها المرأة، والرجل يغسله الرجل، إلا أن المرأة لا مانع من أن يغسلها زوجها، وهكذا الزوجة لا مانع من أن تغسل زوجها".
التأهيل النفسي
يعلق الدكتور زياد المحمدي، مختص في علم النفس، أن تغسيل الموتى قد يترك أثراً سيئاً في نفسية المغسلين، لا سيما النساء منهم.
يوضح: "القرب من الميت والبقاء معه وجهاً لوجه لوقت غير قصير، والنظر في وجهه ولمسه، قد يجعل المغسل مكتئباً من النهاية التي تنتظره هو أيضاً".
وأكد الدكتور المحمدي أن ما قد يخفف من وطأة هذا التأثير النفسي هو "الوازع الديني الذي يجعلهم يشعرون أن ما يقومون به هو واجب ديني وبناءً عليه، وجب الصبر والمواصلة على نفس المنهج".
وشدد المحمدي على ضرورة أن "يتلقى المغسلون والمغسلات تدريبات نفسية من مختصين في علم النفس ليخففوا عنهم الشعور بالاكتئاب، والقلق، وكل الأحاسيس الأخرى، التي تحمل موجات سلبية، ولا يقتصرون على التأهيل الديني المتمثل في الأخلاقيات والالتزامات".
وتشير العالمة الاجتماعية نائلة السعيدي إلى وجود نوع "من النفور الاجتماعي، والرفض، ولكن ليس علنياً"، للنساء اللواتي يعملن في تلك المهنة.
"الرفض الاجتماعي ليس علنياً، ولكنه موجود، خصوصاً بالنسبة إلى النساء".
تقول السعيدي: "الرفض الاجتماعي ليس علنياً، ولكنه موجود، خصوصاً بالنسبة إلى النساء، ويضطر أغلبهن إلى إخفاء هوياتهن خوفاً من الرفض الاجتماعي، فبعض النساء لا يجلس أفراد المجتمع معها، وبعضهم لا يأكل معها، ولا يشرب من يدها شيئاً بسبب نشاطها".
وتشدد السعيدي على أن عدداً كبيراً من الناس يبتعدون عن المرأة التي تمتهن غسل الموتى.
وتثمن السعيدي دور المرأة المغسلة، منتقدة عدم تقدير المجتمع لها، تقول: "هؤلاء المتطوعات لغسل الموتى وعلى عكس ما هو سائد، يؤدين عملاً مهماً، يجب أن يؤديه أفراد من المجتمع ليسقط عن الباقين، كما يقول الشرع، وبالتالي فإن النفور لسبب اجتماعي في عدد من المناطق والبلدان، وهو مرتبط بعلاقة هؤلاء بالموتى وبنظراتهم للميت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون