يبدو أن الاعتقاد السائد بأن مكاسب المرأة التونسية وحقوقها التي نالتها بعد نضالات طويلة واستماتة كبيرة في وجه مجتمع ذكوري خط أحمر لا يقبل المس، هذا الاعتقاد بات على المحك.
يحدث ذلك في ظل صعود تيارات سياسية متطرفة إلى السلطة، والتي فشلت في السنوات الأولى من الثورة في فرض نمطها الفكري المعادي للحداثة وحرية المرأة، وهي تحاول اليوم إعادة الكرة، وإن بأساليب جديدة.
قبل أيام، تحت قبة البرلمان، ولمدة تزيد عن الست دقائق، خطب محمد العفاس النائب عن ائتلاف الكرامة، الحزب الإسلامي والحليف الأساسي لحركة النهضة وذراعها اليمنى، في جلسة مخصصة لمناقشة مشروع ميزانية وزارة المرأة والأسرة وكبار السن، ليبث سمومه وعداءه المكشوف للمرأة. إذ استحضر كل النعوت المهينة للنساء على غرار العاهرة والسافرة والفاجرة والمنحلة واللعوب والسلعة الرخيصة والخائنة والعاقة والمتحرشة، ولم يتردد في توزيعها على الزوجة والطالبة والحقوقية والخادمة والبنت والأم العزباء في تونس مقسماً المجتمع بين "نحن وأنتم". نحن التي تعني بنظره المؤمنين بالتشريع الإسلامي لتنظيم حياة المرأة، وأنتم تعني المؤمنين بحقوق وحريات المرأة والمدافعين عنها.
ولم يكترث العفاس، وهو يوجه إهاناته للمرأة، لقدسية المكان الماكث داخله والذي يقتضي أن يكون فيه صوتاً لكل التونسيين، واختار عامداً أن يكون صوت قسم صغير يعتقد أن بالإمكان العودة إلى تحكيم الشريعة ونسف مدنية الدولة ورمي مجلة الأحوال الشخصية. كما تجاهل عمداً ما جاء في دستور البلاد الذي تعهد الالتزام بقوانينه حالما وطأت قدماه البرلمان برغم إدراكه حينها أنه يقضي بمدنية الدولة وأنه يمنح المرأة حقوقاً وحريات هامة تتعارض مع نظرته التقليدية الرجعية لها.
ولعل هذه الأريحية وهذه الجرأة اللتين بدا عليهما الرجل وهو يقذف النساء بما شاء من الكلمات النابية وتحوله وأعضاء حزبه فيما بعد إلى العنف المادي ضد النواب الذين عارضوا هذا النوع من الخطاب، هذا كله يثير المخاوف بشأن مستقبل مكاسب المرأة، لا سيما في ظل مباركة حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي بصفته رئيساً البرلمان.
فارتفاع منسوب هذا الخطاب الديني الهوياتي المتشنج والموجه خاصة ضد المرأة والصادر عن هذه الكتلة السياسية داخل البرلمان، لا يمكن اعتباره مجرد سحابة عابرة، بل هو في الحقيقة امتداد لتحركات مماثلة حدثت في السنوات الأولى من الثورة، ولكنها أجهضت بسبب استماتة التونسيين آنذاك ضدها. ويبدو أنها تحاول النهوض مجدداً.
إن ارتفاع منسوب هذا الخطاب الديني الهوياتي المتشنج والموجه خاصة ضد المرأة لا يمكن اعتباره مجرد سحابة عابرة، بل هو في الحقيقة امتداد لتحركات مماثلة حدثت في السنوات الأولى من الثورة، ولكنها أجهضت بسبب استماتة التونسيين آنذاك ضدها
فخلال سنتي 2012 و2013 سعت حركة النهضة الإسلامية بعد فوزها في الانتخابات لاستهداف مجلة الاحوال الشخصية وتعديل قوانينها. كما دعت بعض قواعدها للخروج إلى الشارع للمطالبة بذلك. وللمرة الأولى شاهد التونسيون بدهشة أعداداً قليلة من النساء وقد خرجن للتظاهر أمام البرلمان للمطالبة بتعدد الزوجات. في المقابل حاولت الحركة تضمين مبدأ "التكامل" في مشروع الدستور الأول عوضاً عن المساواة بين الرجل والمرأة الواردة في مجلة الأحوال الشخصية، دستور 1959.
حينذاك استشعرت التونسيات بالخطر، فقادت الجمعيات والمنظمات النسوية مع عدد من الأحزاب الديمقراطية حملة تخللتها تظاهرات بالشوارع انتهت بإسقاط فصل "التكامل" في الدستور وإعادة مبدأ "المساواة" كما كانت منذ البداية. وتدريجياً اكتشفت النهضة أنها لن تكسب هذه المعركة، فسارعت إلى طمأنة المرأة على أنها لن تستهدف مكاسبها ولن تعدل مجلة الاحوال الشخصية وتبرر موقفها بأن فهمه قد أسيء.
رغم استماتة المجتمع المدني وعدد هام من الأحزاب الديمقراطية واليسارية ضد المحاولة الأولى لأسلمة المجتمع والقطع مع مكتسبات الحداثة، وإجبار أصحاب هذا الفكر على التراجع وتمرير خطابات تدعي احترام مجلة الأحوال الشخصية وحقوق المرأة، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عن الخطابات العائدة بقوة والتي تروج للشريعة كبديل عن القانون والدولة المدنية انطلاقاً من البرلمان.
فحركة النهضة لم تنسَ فشلها بالأمس، وهي، وإن تبدو للمشاهد البعيد غير منخرطة في هذا السجال، فإنها بعد احتساب مواقف وردود الفعل التي لم تدن إهانة المرأة أو تستنكرها أو تعاقب من أقدم على ذلك رغم صلاحيات الغنوشي في هذا الصدد. من هنا ندرك أنها شريك حقيقي لخطط ائتلاف الكرامة، ذراعها اليمنى، وهو الذي بات يقول ما تريد الحركة قوله وطرحه من دون أن تنسف أكذوبة الحركة المدنية التي قطعت مع الإسلام السياسي أمام العالم وتواصل الظهور في ثوب الحزب المدني.
إن محاولة إحياء هذا الخطاب الذي يستهدف أساساً حرية المرأة مجدداً وفق مداخل دينية قرآنية مقدسة مباشرة دون اجتهاد أو دراسة، وبطريقة تغازل الوجدان المحافظ إلى حد ما لدى أغلب التونسيين وداخل منبر كالبرلمان، يشكل تهديداً حقيقياً لمكتسبات النساء في تونس. لأن هذا الطرح العاطفي المراهن على تأثير المقدس على المواطن التونسي سيجد آذاناً صاغية لا سيما في ظل انقسام الشعب سلفاً وراء جلابيب هذه الأحزاب الحاكمة.
قد يجد الكثيرون في هذا بعض المغالاة والتهويل، ولكن دعوني أروي قصة قصيرة جرت معي على إثر هذا الخطاب. فبعد أيام من الكلام المهين الذي صدر عن العفاس أعادت إحدى الصديقات نشر تدوينة لهذا الرجل على حسابها على فيسبوك يؤكد فيها نظرته السالف ذكرها للمرأة. فزعت لما رأيت وكتبت أسألها كيف يمكنك تبني موقف رجل يصفنا كنساء بكل تلك النعوت البشعة؟ لأفاجأ بردها القائل: "فيمَ أخطأ الرجل؟ ما قاله صحيح وهن كذلك كما وصف، إن مصدره الشرع والقرآن فهل تعترضين على ذلك؟"، ثم تصل إلى حد القول: "نحن نؤمن بهذا، ولكنكم أنتم المعادون للدين ترون غير ذلك".
لقد باتت تتحدث بنحن وأنتم تماماً كما فعل وأراد العفاس، ولكم أن تقيسوا هذه الحالة على كثيرين غيري، علماً أن هذه الصديقة متعلمة ومثقفة، ولكنها تلقفت تصريحاته المتطرفة بكل هذه الأريحية، فماذا عن البقية؟ أركز هنا على عبارة المتعلمة ليس بقصد الاستنقاص من غير المتعلمين ولكن جميعنا نعتقد أن التعليم والثقافة هما بمثابة حصانة ضد أولئك الذين يحاولون استغلال جهلنا لتمرير رسائل تخاطب عواطفنا لا عقولنا. أشرت إلى ذلك أيضاً لأنني افترضت، ولعلكم تشاركوني ذلك، أن العلم والمعرفة يجنباننا التلقي الأعمى للأفكار ويدفعاننا للتحليل والتشريح والنقد.
على الرغم من أنها صديقتي، ونختلف منذ زمن حول قضايا عديدة، لم تتردد اليوم، محكومة بتأثير كلمات هذا النائب، في وضع تقسيمات لمجتمع تنتمي إليه وآخر أنتمي إليه بدوري رغم إدراكها أننا، كنساء تونسيات، نتمتع بالكثير من الحقوق والحريات فقط بسبب القوانين الحداثية التي وضعها بورقيبة في البداية وعززتها نضالات نساء ورجال المجتمع المدني خاصة على مدار عقود، ورغم إدراكها أن الخطاب الذي يروج له العفاس سيحرمها من أبسط حقوقها إذا اعتمد.
ليست صديقتي الوحيدة التي انساقت إلى هذه الموجة، فخطاب العفاس لقي نوعاً آخر من التجاوب في غاية الخطورة. فبعض الجماهير المريدة سلفاً لهذه الكتلة السياسية تبنت الأفكار للحد الذي رأت معه أنه يحق لها الاعتداء على النساء اللواتي يدافعن عن حرية المرأة وحقوقها.
إذا لم تتأهب قوى المجتمع المدني وتساندها الأحزاب الديمقراطية الحداثية لوضع حد عملي لهذه الخطابات المتطرفة، فلن يكون من المستبعد أن نشاهد ارتدادة حقيقية على القوانين والقرارات التي انتصرت للمرأة التونسية منذ عقود
في سياق متصل، روت يسرى فراوس، رئيسة جمعية النساء الديمقراطيات، أنهن تلقين اتصالات متتالية على خلفية الخطاب تهددهن بالاغتصاب وتصفهن بالعاهرات والمشجعات على الزنا. والحقيقة أن هذه الحادثة التي بثت الخوف في نفوس السيدات اللواتي أخذن على عاتقهن مسؤولية الدفاع عن النساء في تونس هي واحدة من جملة حوادث أخرى مماثلة أثارتها كلمة العفاس، الأمر الذي يبعث على القلق من ردود الفعل اللاحقة في حال واصل هؤلاء النواب تمرير رسائلهم المسمومة هذه.
من هنا يكمن الخطر لأن هؤلاء النواب العائدين من أنقاض سنتي 2012 و2013 يدركون أن تزويق الخطب بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول والسنة غالباً ما تجد آذاناً صاغية لدى المتلقي التونسي الذي يعتقد كما سائر شعوب العرب والمسلمين أن المقدس حمّال للحقيقة المطلقة، بما أنه منزل من الرب أو صادر عن الرسول، مهما كان سياق استخدامه. ويدركون بذلك أنه من السهل تجييشهم ضد كل من يحاول رفضه أو انتقاده بالترويج كذباً لأنه يحارب الدين والقيم وغيرهما من المسميات الجاهزة التي من السهل استخدامها.
ولهذا إذا لم تتأهب قوى المجتمع المدني وتساندها الأحزاب الديمقراطية الحداثية لوضع حد عملي لهذه الخطابات المتطرفة، فلن يكون من المستبعد أن نشاهد ارتدادة حقيقية على القوانين والقرارات التي انتصرت للمرأة التونسية منذ عقود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون