لم يستغرب من تحدثنا معهم ما يشاع عن الشعب الأردني بأنه مدخن من الدرجة الأولى. بحسب وصفهم: "إذا لم يكن الأردني مدخناً، فهناك علامات استفهام حول أردنيته!"، ومنهم من برّر توصيف الأردني بالمدخن الشره بأسباب نفسية، أو التنفيس عن هموم اقتصادية.
أعلى نسبة مدخنين في العالم هي في الأردن.
حتى أن تقريراً نشرته الغارديان البريطانية، منتصف العام الماضي، كشف بأن "أعلى نسبة مدخنين في العالم هي في الأردن، وأن ثمانية من كل عشرة أردنيين يدخنون السجائر العادية أو الإلكترونية"، وتستند الأرقام إلى دراسة أجريت بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وبينت أنه "وباستثناء السجائر الإلكترونية، أو تلك الخالية من النيكوتين، فإن ما نسبته 66% من الرجال الأردنيين و17% من النساء الأردنيات يصنفون كمدخنين".
الدخان قبل الأكل أحياناً
ويضيف في حديثه لرصيف22: "الأمر لا يستدعي دراسة عالمية لإثبات أن الشعب الأردني أكثر شعب مدخن في العالم. في جولة قصيرة بسيارتك تستطيعين، وأنت تتلفتين بعينيك على المارة في الشارع، على الأشخاص داخل سياراتهم أو حتى على عمال النظافة وهم يمارسون عملهم، بيد تحمل المكنسة والأخرى سيجارة، أن تكتشفي حجم إدماننا على الدخان، لماذا؟ لأنه ربما وسيلة، ليس لنفث سيجارة يخرج منها دخان مسموم، بل للتنفيس عما يعتصر دواخلنا من سموم".
المضحك والغريب أيضاً، بحسب حسين، أنه "في أوج أزمة فيروس كورونا العام الماضي، وخلال فترة حظر التجول باستثناء المشي على الأقدام، تضاعفت أسعار السجائر خصوصاً غير المحلية، وبالرغم من أننا نصنف كشعب فقير، ذاق ويلات لا بأس منها من تبعات الأزمة الاقتصادية التي لحقت بموجة كورونا، إلا أننا آثرنا أن نشتري السجائر على أن نأكل. نعم نحن شعب لو وضع بين خياري الأكل أو الدخان سنختار الدخان"، ويصف الأمر في نهاية حديثه بعبارة أردنية شعبية فيها شيء من السخرية: "الدخان حبيبنا اللزم".ويتناغم ما تحدث عنه حسين مع دراسة مسحية أجرتها دائرة الإحصاءات العامة عام 2018، كشفت فيها أن متوسط إنفاق الأسرة الأردنية على السلع الغذائية وغير الغذائية والخدمات يبلغ حوالي 12236.4 ديناراً، فيما بلغ إنفاق الأسر على التبغ والسجائر حوالي 717 مليون ديناراً، بنسبة 4.4% من مجموع الإنفاق على السلع والخدمات.
وتتحدث الأربعينية، ريما الجابر، لرصيف22 عن تجربتها مع تكاليف الدخان المرهقة مؤخراً: "اعتدت تدخين السجائر الأجنبية غير المحلية، أو كما تسمى دخان 'الحرة'، وقبل الحظر كنت أشتري الباكيت الواحد بثلاثة دنانير (خمسة دولارات)، وبعد الحظر ارتفع إلى سبعة دنانير، أي أكثر من الضعف، الأمر الذي اضطرني مثل أغلبية الأردنيين المدخنين للجوء إلى الدخان المحلي ذي السعر الأقل، فالنوع الذي أدخنه اليوم يصل سعره إلى دينار ونصف فقط".
"إذا استمريت في تدخين النوع القديم سوف ينتهي راتبي بعد أسبوع بالضبط"، تقول ريما، لافتة إلى أنه، ونظراً لأجور الأردنيين المتدنية، وأغلبها تتراوح ما بين 350-600 دينار (500-900 دولار)، من المستحيل الاستمرار في تدخين "الحرة"، لذلك فاللجوء إلى الدخان المحلي حتى لو كان "معطوباً"، كما تسخر، هو الخيار الأفضل للأردنيين.
الهموم هي السبب
أما صاحب عبارة "خليها في الرئة تسطح ولا تطلع برا تجرح"، فهو مازن خليفات، الذي نصحني بأن يكون حديثنا وجهاً لوجه بدلاً من مكالمة هاتفية، فلعلني إذا رأيت الشيب الذي اجتاح رأسه أعرف لماذا أهون عليه بأن يضر رئته من أن يعبر عن همومه، فتؤلم من يسمعها: "مع كل سحبة سيجارة أشعر أن شيباً جديداً اجتاح شعري، أنصحك أن تريني بعينيك، ستتفاجئين أن من يحدثك عمره 43 عاماً وليس 58 كما تبدوه هيئته".هل همومك تستحق أن تضر بها صحتك من خلال السجائر؟ سألت مازن بعد أن أخبرني أنه يدخن ما يقارب ثلاث علب من دخان المالبورو الأحمر الأردني. أجابني: "العالم العربي يصف الشعب الأردني بأنه 'كشر'. لا يعلمون أننا شعب عاطفي وحساس جداً. لو سمع أن جاره لم يقدر على تأمين وجبة عشاء لأبنائه فإن ذلك كفيل بأن لا ينام الليل. نحن شعب عاطفي ونعشق الدخان لأنه وسيلة للتنفيس عما يجول في خواطرنا من مواقف وأحداث".
وختم: "وفق التقييمات العالمية في توزيع الفئات العمرية، أعتبر شخصاً في 'عزّ' شبابي، لكن كما أخبرتك أنا أربعيني بهيئة الستين، وأفضل أن أسلك طريقاً مضراً لصحتي، وهو التدخين، بدلاً من التعبير عن همي بالغضب والصراخ على من أحبهم".
بالرغم من أننا نصنف كشعب فقير، ذاق ويلات لا بأس منها من تبعات الأزمة الاقتصادية التي لحقت بموجة كورونا، إلا أننا آثرنا أن نشتري السجائر على أن نأكل. نعم نحن شعب لو وضع بين خياري الأكل أو الدخان سنختار الدخان
"لو الحشيش مسموح بنحشش مش بس بندخن"، قالتها مازحة، مرح الشرفا (31 عاماً)، عندما أخبرتها عن الدراسة التي كشفت أن أعلى نسبة مدخنين في العالم موجودة في الأردن، ونوهت في حديثها لرصيف22: "بالمناسبة، أنا كنت أكره الدخان، ووالدتي كانت كذلك، حتى أنها كانت تجبر والدي وإخوتي على التدخين في الشرفة حتى في عز البرد، لكن ظروف الحياة اختلفت وأنا اختلفت معها، خصوصاً بعد اكتشافي بأن ولدي مصاب بمتلازمة داون".
وتضيف: "ربما تقولين إن هذا ليس عذراً يجعلني أتبع عادة كنت أكرهها، لكن الظروف القاهرة تضعنا أحياناً أمام طريقين، إما الانهزام وإعلان راية الاستسلام وإما التأقلم ومصارعة صعوبات الظروف، وأنا اخترت طريقي الثاني، وهو طريق صعب يتطلب جهداً وصبراً وكما نقولها بالعامية: طناش. أي نعم السيجارة وسيلة مضرّة بالصحة، لكنها تفش غلّي"، وتختم ضاحكة: "بدكم تحرمونا من الدخان كمان؟ خلينا نتفشش فيه بدل ما نحشش".
ذكريات الدخان الفرط
يضيف ناصر: "عندما كنت في عمر 16 عاماً بدأت التدخين. كان في الحي الشعبي الذي كنت أقطنه مع أسرتي، شباب من جيلي ومن الفئة الفقيرة جداً، وكانوا يبحثون عن أية طريقة يجارون من خلالها جيل الشباب المدخن، فكانوا يلجؤون لتدخين عيدان الملوخية بعد تنشيفها. بالطبع تأثيرها ليس كتأثير الدخان الحقيقي، لكن فكرة أن يخرج دخان من تلك العيدان كانت تشعر أولئك الشباب بأنهم متساوون مع الشباب المدخن للسجائر من جيلهم".
ولفت ناصر خلال حديثه إلى أن "ابتكارات بدائل عن السجائر لم تتوقف عند حد عيدان الملوخية، بل كان هناك بديل وهو أعقاب السجائر"، وأوضح: "كنا نتواجد في أزقة حوارينا ونجعلها مخصصة للهروب من أهالينا والتدخين بصحبة الأصدقاء، وكان هناك من لم تكن لديهم القدرة المادية لشراء الدخان حتى 'الفرط'، فتجدينهم يدخنون أعقاب السجائر التي ترمى في تلك الأزقة".
أما عما يعني به بالدخان "الفرط" فيقول: "شراء سجائر بالحبة وليس علبة كاملة وذلك بسبب ضيق حالنا، وهي عادة توارثتها الأجيال. أغلب من بدأ التدخين في الصغر من شباب وشابات كانوا يتجهون لطريقة الدخان الفرط. أذكر أن صاحب الدكان في حينا كان يحاول أن يعطينا هيئة الرجل الذي يرفض بيع الدخان لنا بحكم عمرنا الصغير، وعندما كان يلمس حاجتنا الماسة، كان يزيل قناع البطل عنه، ويقبل ببيعنا الدخان الفرط الأردني، مثل فيلادلفيا، ريم، جولد ستار وكمال".
ويختم: "أعتقد أن ثقافة السوق السوداء بدأت بدكاكين الأحياء الشعبية، مثل صاحب الدكان ذاك، الذي كان يستغل إلحاحنا ويبيع السيجارة الواحدة بقرشين ونصف، بدلاً من سعرها الأصلي الذي كان قرشاً واحداً فقط. أوف كم ربح منا صاحب الدكان!".
الظروف القاهرة تضعنا أحياناً أمام طريقين، إما الانهزام وإعلان راية الاستسلام وإما التأقلم ومصارعة صعوبات الظروف، وأنا اخترت طريقي الثاني، وهو طريق صعب يتطلب جهداً وصبراً وكما نقولها بالعامية: طناش
على طريق عمّان الزرقاء داخل حافلة المواصلات العامة، كانت أول مرة خاض فيها الصحافي، موفق كمال، تجربة التدخين، كما يقول: "أثناء خروجي من الصحيفة التي كنت أعمل فيها، وقبل أن أسير إلى خط المواصلات الذي يعيدني إلى منزلي في محافظة الزرقاء، باغتني زميلي بسيجارة ذات لون وشكل غريب. أشعلتها وأنا داخل الحافلة، كان عمري وقتها 21 عاماً، وأُعتبر، خصوصاً في الوسط الصحافي، أني متأخر كثيراً عن التدخين. أعجبتني تلك السيجارة، وأنهيتها في ذات اليوم داخل دورة المياه، خوفاً من أمي رحمها الله".
وما بعد تلك السيجارة غريبة اللون والشكل، انتقل موفق إلى مرحلة الدخان الفرط، كما يقول لرصيف22: "كنت أشتري السيجارة بقرشين ونصف وأنا مدرك أن أصحاب الدكاكين لا يبيعونا إياها بالسعر الحقيقي. كانت موضة في جيلي، واستغربت عندما سمعت مؤخراً أن جيل اليوم، خصوصاً طلاب المدارس، أعادوا إحياء تلك الموضة"، ويختم: "بلا فخر، نحن شعب يعشق التدخين، وهو ما جعلنا 'رقم واحد' عالمياً. مؤلم أن نصل لهذه المرحلة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع