نشر المفكر الكاميروني، أشيل مبيمبي، مؤخراً نصاً بعنوان "الحق العالمي بالتنفس"، يناقش فيه "ما بعد covid-19"، مُشيراً لضرورة إعادة النظر بوضعية البشر في "العالم"، ومؤكداً على ضرورة أن نكون "معاً" كي ننال حريتنا، والتي لا يجب أن تتحقق على حساب الوجود البيولوجي لأي كائن.
يرى مبيمبي أن المتخيلات التي نمتلكها الآن عن الحرية في زمن "الما بعد" لا تنفع، كونها لا تضمن حق التنفس للجميع، فالوعد الذي تقدمه التكنولوجيا بالانعتاق من البيولوجي، عبر تحويل وعينا إلى شيفرات، لا يضمن مثلاً "حياة" باقي الموجودات، أما الوعد الثاني فيتمثل بالتمترس الوطني وراء الحدود و"الملاجئ" والأقنعة، ما ينفي "العالمي" على حساب التطور المناعي للوطني.
يتضح الحق بالتنفس حين نُراقب كيف توظف سلطات العالم الآن "الاختناق"، المجازي والحرفي، للـحياة كأسلوب نجاة. الاختناق هنا تهديد للتبادل بين "الداخل" و"الخارج"، وتقييد لحركة الأوكسجين بين الأبدان. ولا نتحدث عن القناع فقط، بل عن الإجراءات التي تمّ توظيفها للحفاظ على "حياتنا". هي قرارات استثنائية تسعى لتحويل كل منزل إلى ملجأ محتمل، ينجو فيه الفرد وحيداً، ممرّناً قرينه الرقمي على النمو، نافياً اللحم لحساب البيكسل.
نشر المفكر أشيل مبيمبي، مؤخراً نصاً بعنوان "الحق العالمي بالتنفس"، يناقش فيه "ما بعد covid-19"، مُشيراً لضرورة إعادة النظر بوضعية البشر في "العالم"، ومؤكداً على ضرورة أن نكون "معاً" كي ننال حريتنا
يمتد الاختناق إلى الحدود الوطنية التي لم تفكر السلطات بأي إجراء بديل عن إغلاقها، كالتحكم بتدفق الأفراد في المكان، تغيير ساعات العمل وتقسيم الوقت بأسلوب يضمن أقل احتكاك مع الآخر، بالتالي، يظهر الحق بالتنفس كضمان لمفهوم الـ"معاً" الذي نتحرك، نتبادل، نجتمع ونفترق عبره، دون أي قيد.
يشتهر مبيمبي بأنه من طور مفاهيم "سياسات الفناء"، ويشير في نصه هذا إلى أننا أدركنا فجأة أننا المسؤولون عن موتنا، لكن هذه المسؤولية منقوصة، فبتفويضنا حياتنا للـ"سادة" تركنا لهم التحكم بالموت الذي أصبح حميمياً، حاضراً بوجه كل واحد منا، و"يخنقه" ببطء. وهنا نعيد النظر بكلمة "العالمي" التي يشير لها مبيمبي في العنوان، هي لا تعني فقط أن التنفس حق للجميع كجزء من الحق بالحياة، بل تتجاوز ذلك نحو ضمان هذا "الحق" عبر الزمن، ولجميع الكائنات، دون أي استثناء لفئة ما.
تقمع السلطات مواطنيها وأصواتهم وأنفاسهم بحجة الوقاية من كورونا والحفاظ على المناعة الوطنية، هذا القمع يتحرّك للحد من أي تهديد للسلطة وقدرتها "الوقائية"
مجاز هذه التضحية نراه في قصة يونس بن متى، الذي رُمي في البحر لأجل نجاة السفينة ومن عليها. فيونس خالف تعاليم الرب وهجر قومه، فقُدّم كأضحية للبحر، حيث لا هواء ولا أوكسجين، ونجا حين ابتُلع وحيداً في جوف الحوت، لكن، هل كان يتنفس؟ لا نعلم. هل "التقمه" الحوت في فمه أو بطنه؟ أيضاً لا نعلم. لكن ما نعرفه أنه كان يسبّح الرب في جوف الحوت، حيث لا هواء ولا تبادل مع "الخارج"، كان أشبه بمن يعيش في ملجأ بانتظار حدث استثنائي كي يصل إلى الهواء. كان يلتهم نفسه، ويتنفس ما يختزنه جسده من احتمالات الحياة، هو لم يفنَ في بطن الحوت، نجا نعم، لكنه فقد فردانيته، إذ لم يكن له القرار لا في حياته ولا موته.
واحد من أهم أعراض الإصابة بفيروس كورونا هي "الاختناق" و"ضيق النفس"، ما جعل الكثير من المصابين بحاجة لأجهزة تضمن التبادل بين "الداخل" و"الخارج"، هذه الأجهزة تقيس مقدار تشبّع الجسد بالأكسجين، كما أنها تمتلك القدرة على ضبط ما "يدخل". هذا التحكم والضبط تمارسه أيضاً أجهزة السلطة الوطنية، عبر تقييدها لما يدخل ويخرج، ليبدو الأمر، حسب مبيمبي، كأن "السماء تطبق علينا".
ويشير لاحقاً أنه في عالم "الما بعد" لابد من شكل اقتصادي جديد، شكل لا يستهلك الحياة لأجل الثروة، ولا يستنزف "نفس" الواحد منا من أجل سد رمقه ودفع أجرة ملجئه، والمجاز هنا لغوي وواضح: نحن نركض وراء لقمة العيش، نركض لأجل النجاة، وفي كليهما نصل حدّ انقطاع النَفَس. الأهم أن الشكل الاقتصادي الحالي والتقصير الطبي هما ما بررا الاستثناء بحجة عدم وجود مَنافِس كافية للـ"جميع"، هذا النقص نتاج الخنق الذي سببه الاقتصاد السابق، والذي ما زال إلى الآن يحاول الحفاظ على شكله، خانقاً النَفَس لأجل الربح.
من "نحن"؟
يتضح الحق بالتنفس حين نُراقب كيف توظف سلطات العالم الآن "الاختناق"، المجازي والحرفي، للـحياة كأسلوب نجاة
يتكرر في النص ضمير "نحن" بوصفنا من علينا اتخاذ القرار والفعل والمبادرة من أجل الكوكب، والحفاظ على حيواتنا جميعاً، لكن من "نحن" بدقة؟ يشرح مبيمبي ذلك بإشارته إلى البشر والكائنات جميعها، لكنه يشير لاحقاً إلى الاختلافات ضمن هذه الـ"نحن"، ففي العديد من بلدان العالم، خصوصاً في الجنوب العالمي، الموت أقرب للبشر منه إلى أولئك في العالم الديمقراطي، بالتالي كم هي فعّالة هذه الـ"نحن" الآن؟
خصوصاً أن السلطات تقمع مواطنيها وأصواتهم وأنفاسهم بحجة الوقاية من كورونا والحفاظ على المناعة الوطنية، هذا القمع يتحرّك للحد من أي تهديد للسلطة وقدرتها "الوقائية"، والوقوف بوجه منتقدي الإجراءات الاستثنائية والأهم، الحفاظ على "سير العمل"، الأولوية التي لم يتنازل عنها أحد.
نطرح هذا السؤال بسبب غياب أي نموذج فاعل من أجل الوقوف في وجه السلطات على الأرض. التجمهر والتجمع ممنوعان، بل، وبمحاكمة عقلية بسيطة، يشكلان خطراً على الكثيرين، ونقصد خطر العدوى وغياب البنى التحتية القادرة على استيعاب المرضى، بالتالي، كيف نواجه أنظمة وسلطات "ديمقراطية"، دون أن ندفع احتمالات الموت إلى الأمام؟
مجاز عن الاختناق
يشمل حق التنفس "كل الموجودات على الأرض"، وبدون ضمانه في "الما بعد"، ستغدو البشرية بأكملها كمن يعيش في ملجأ ضد الخارج الذابل والمتعفن، المليء بوحدات التبريد الخاصة، بمعالجات فائقة لأجل "اتصال" أسرع بالإنترنت. هذا الملجأ يحوي فتحات تهوية، وفتحات كالشاشات، تعرض الخارج وأشباحه وتمثيلاته، تلك التي نحن جزء منها، أو بصورة أدقّ، تلك التي تكوّن وعينا.
نركض وراء لقمة العيش، نركض لأجل النجاة، وفي كليهما نصل حدّ انقطاع النَفَس
ويمكن تلمس هذا الأثر على الوعي، في أعمال الفنانة الكورية دافني لوسورجنات، التي أنجزت قبل الوباء، عام 2018، معرضاً فنياً في باريس، تناقش فيه اللغة ومرجعياتها، والتي تحولت من الواقع إلى الصور في نتائج بحث غوغل، أي أن كلمة شجرة، تحيلنا عادة إلى شجرة في الطبيعة، يمتلك كل واحد منا متخيّلاً عنها، لكن في مستقبل قريب، قد تصبح هذه المرجعية صوراً تستعرض على غوغل، هذا يعني أن نظام المعارف اللغوي سيستبدل بنظام معارف اصطناعي simulacre، يحضر في الشاشة فقط، وكأننا نتبادل رموزاً لمعان مصطنعة، أشجار وغابات تحضر فقط في المعالجات المبرّدة، وهنا نستعيد دانتي، كيف سيكون شكل الغابة التي سينعطف فيها ويضيع؟ ومن سيقوده في الجحيم؟ فيرجيل أم شاعر ينشر أهواءه على تويتر؟
مجاز آخر عن الاختناق
هذه الـ"نحن" أشبه بمن وقع في شرك فخ حداثي، الكل مكبّل فيه من رقبته بسلاسل مشدودة، كل حركة ستخنق أحدهم، وكل محاولة للحراك الجماعي تخنق الجميع، وعلى شبكة السلاسل يجلس عملاق عار، أشبه ببانتاغرويل، يشد السلاسل ويتحكم بالمُقيدين كي يصنعوا له طعامه ويأكلوا الفتات، وكلما مات واحد منهم ازداد الاختناق، واهتز العملاق مهدداً بالسقوط، فيشد السلاسل مضاعفاً الخناق في سبيل نجاته، الأهم، كل السلاسل مشدودة إلى قيد مربوط بعنق العملاق نفسه.
إحدى معاني كلمة "نَفَسْ" في اللغة العربية هي الأخ، الشبيه الذي نسلّم عليه لنألفه ونأنس إليه، فكل ذي رئتين هو أخ بالضرورة
هامش
إحدى معاني كلمة "نَفَسْ" في اللغة العربية هي الأخ، الشبيه الذي نسلّم عليه لنألفه ونأنس إليه، فكل ذي رئتين هو أخ بالضرورة، ما يجعلنا الآن أمام قرار تنفيذي بالوحدة والعزلة، لتكون كل نفس أسير(ة) ذاتـ(ه)ـا، يلوكها ويكررها و"يتنفسها"، وهنا يظهر أحد معاني نَفَس: الغيب، كل لمجاهل ذاته، وحيد كيونس في الحوت، محمي من كل شيء، يحدق بموته بانتظار نجاة لا دور له فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع