يخيم الفقر في غزة ضيفاً ثقيلاً، يتحرش بتفاصيل الحياة فيها، ويبالغ في وأد أحلامها. ويعيش المواطن هذا الفقر، ويضطر للتعايش معه، حيث لا خيار آخر، فالحال "واقف" كما يحلو للغزيين أن يصفوا أحوالهم الاقتصادية والمعيشية الخانقة، في ظل حصار إسرائيلي مفروض على قطاع غزة منذ العام 2006، وانقسام فلسطيني متزامن مع هذا الحصار.
وقد كشفت وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة العام الماضي، أن نسبة الفقر والبطالة في القطاع ارتفعت إلى ما يقرب من 75%، وقالت الوزارة إن مؤشرات الفقر في غزة هي الأعلى على مستوى العالم.
طفلان وحقيبة واحدة
بدأ العام الدراسي في غزة منذ أسابيع، وبدأت معاناة من نوع آخر، ولكل بيت غزي قصته الخاصة، ومأساته، ربما يعتاد الفقراء على أوضاعهم، ولكن في كل مناسبة يتجدد الإحساس بألم هذا الفقر، الذي وصل بإحدى الأسر في شمال قطاع غزة درجة أن يتشارك الأخ وأخته حقيبة مدرسية واحدة، فما إن يعود الأخ من مدرسته ظهراً، حتى تكون أخته في انتظاره على أحر من الجمر لتأخذ منه الحقيبة الوحيدة التي يمتلكونها، وهي حقيبة قديمة بالية.
يتشارك الأخ وأخته حقيبة مدرسية واحدة، فما إن يعود الأخ من مدرسته ظهراً، حتى تكون أخته في انتظاره على أحر من الجمر لتأخذ منه الحقيبة البالية الوحيدة
سامية عوض الله (40 عاماً)، ربة بيت أسرة أنهكها الفقر، وتجول بين زواياها، مخلفاً وضعاً كارثياً، حيث تعيش الأسرة التي تتكون من خمسة أفراد (ثلاثة أطفال ووالديهم) وضعاً اقتصادياً قاسياً، في منزل لا تتجاوز مساحته الخمسين متراً، لا باب لدورة المياه، ولا جدران صحية، ولا أثاث، ولا أرضية تقيهم حر الصيف أو برد الشتاء، كما أن السقف عبارة عن "زينكو" قديم عفا عليه الزمان.
تسكن في هذا المنزل ربا، الطالبة في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة تابعة لوكالة الغوث (الأونروا) فرع شمال غزة، تنتظر أخاها رامي، الطالب في الصف الثاني الابتدائي، كي يعطيها حقيبة المدرسة، لتذهب بها إلى مدرستها بعد الظهيرة، وأحياناً تتأخر على الطابور المدرسي وتتعرض للعقاب.
تقول سامية والدة ربا لرصيف22: "لدي ولدان وابنة، وضعنا المادي صفر، زوجي مريض، فهو لا يرى بسبب مشكلة في شبكية العين. منذ خمس سنوات أصبح غير قادر على الرؤية بإحدى عينيه، الأمر الذي دفع صاحب السيارة التي كان يعمل عليها إلى الاستغناء عنه، بالإضافة إلى كونه يعاني من مرض السكر وارتفاع ضغط الدم".
وتضيف ونبرة الحزن تسيطر على ملامحها وصوتها: "نعيش على المساعدات والصدقة، أحياناً أضطر إلى بيع أكياس الحليب أو قنينة السيرج لأصرف على أولادي وأوفر لهم احتياجاتهم، خاصة مصروف المدرسة".
يدب الخلاف بين رامي وربا على الحقيبة التي يعتبرها كل منهما ملكاً له.
ويدب الخلاف كثيراً بين رامي وربا على الحقيبة التي يعتبرها كل منهما ملكاً له.
ويضطر كل من رامي وربا للذهاب إلى المدرسة مشياً على الأقدام مسافات كبيرة، حيث أن الذهاب عبر تاكسي يعد من الرفاهيات هنا، بل والكماليات التي لا داعي لها، فالأهم أن يتوفر لهم أدنى مقومات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن.
ولا تتوقف فصول المعاناة بل تمتد بأذرعها الخبيثة إلى المدرسة، حيث ترى ربا صديقاتها بمراويل جديدة، والتي تنظر إليهن نظرة حسد في مقارنة لا ذنب لها فيها، الأمر الذي يصاحب نفسية ربا حين تعود إلى البيت، فتخبر أمها والشكوى في عينيها عن ذلك الموقف.
تقول سامية أم ربا: "يومياً أرى الحسرة في ملامح طفلتي، التي تريد أن تكون مثل زميلاتها، فهي طفلة محرومة من أمور حياتية كثيرة، والسبب الفقر. فما العمل، خاصة وأن الشتاء على الأبواب، حيث تفاصيل جديدة من المعاناة، تتعلَّق باللبس، والذهاب للمدرسة دون شمسية بينما الأقدام عارية؟".
وتضطر الأم إلى إحضار رامي بنفسها من المدرسة خوفاً عليه، سواء من التأخر على أخته أو من أي مكروه قد يحدث له، خاصة وأنها توصيه بالعودة إلى البيت بأسرع وقت ممكن، كي تتمكن أخته من الوصول إلى المدرسة في الوقت المناسب للطابور كيلا تعاقب جراء التأخير.
كما وتعاني ربا التي تزن (25 كيلو) من سوء التغذية الواضح للعيان، وهي طفلة خجولة، حساسة، يتملكها خوف من الغرباء ولا تفضل الحديث كثيراً.
وحيدة ومنطوية وصامتة
عن التأثير النفسي لما تعيشه ربا، تقول علا رستم (43 عاماً)، مدرسة ربا بأنها لاحظت أنها "منذ بداية الفصل الدراسي دائماً وحيدة ومنطوية وصامتة وتبكي لأتفه الأسباب، ولذلك قررت استدعاء والدتها، وبعد لقائي بوالدتها أدركت حجم المعاناة التي تعيشها ربا مع عائلتها لدرجة أنها تتبادل الحقيبة مع أخيها، فهي حالة إنسانية شديدة الخصوصية، توليها المدرسة الكثير من الرعاية والاهتمام في حال توافر المساعدات".
وتضيف رستم لرصيف22: "لدي ما يقارب الأربعين طالباً، أربعة منهم فقط لديهم حقائب مدرسية جديدة، أما الباقي فكلها حقائب الفصل الدراسي السابق، وهذا الأمر مؤذٍ جداً لنفسية الأطفال ومدى تركيزهم في الفصل، ناهيك عن قدوم الكثير من الطلاب إلى المدرسة مشياً على الأقدام وبلا مصروف أو إفطار، وكل هذا يقلل من تحصيلهم الدراسي للأسف".
وكانت المُدرّسة قد لاحظت أن ربا "تقضي وقت الحصة كله وهي تنظر إلى غيرها من الطالبات اللواتي يرتدين زياً جديداً أو حذاء جديداً أو حافظة مياه، وبالتالي ودون وعي منها، تسرح بعيداً عن جو التعليم"، على حد قول رستم.
"ربا تقضي وقت الحصة كله وهي تنظر إلى غيرها من الطالبات اللواتي يرتدين زياً جديداً أو حذاء جديداً أو حافظة مياه"
يعلق الأخصائي النفسي والاجتماعي، أحمد خليل، قائلاً لرصيف22: "الوضع الاقتصادي السيئ للعائلة يؤثر سلباً على الأطفال في مرحلة المدرسة، وذلك في عدة محاور: المحور الأول محور النمو، فعدم توفر الاحتياجات الأساسية للطفل، وخاصة المأكل والمشرب، يؤثر بشكل سلبي على نمو الطفل ونمو خلايا الدماغ عنده، مما يؤثر على مستوى التفكير والذكاء لديه".
ويضيف خليل: "أما المحور الثاني محور التعليم، فإن فقدان الطفل لأدنى احتياجاته الأساسية من ملابس مدرسية وشنطة ومصروف يجعل الطالب مشغولاً بمن حوله ويفكر بأقرانه، وبذلك يتدنى دافع التعلم عند هذا الطفل. وفي بعض الأحيان نجد حالات التسرب المدرسي، وعمالة الأطفال ممن لديهم انعدام في المستوى الاقتصادي، ورغبتهم في تلبية احتياجاتهم كغيرهم من الطلاب بغض النظر عن الوسيلة".
ويحذر المرشد النفسي غانم سعيد من أن فقدان الطفل لاحتياجاته تعزز في نفسه قابليته للسلوكيات الخاطئة، يقول لرصيف22: "في الجانب النفسي، تظهر لدى هؤلاء الأطفال سلوكيات خاطئة، كالسرقة والعدائية تجاه الآخرين".
بعد هذا كله، أي مستقبل ينتظره الطالب في غزة، وهو محروم من أبسط حقوقه الحياتية والإنسانية، في مرحلة عمرية يعدها الناس في مختلف بقاع العالم بأنها الأهم والأفضل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...