في 20 آب/ أغسطس الماضي، ضبطت الشرطة 800 لتر من الكحول المصنعة محلياً داخل شاليهات وسط قطاع غزة، بينما برّر أصحابها في ذلك الوقت استخدامها لأغراض التعقيم الطبي حصراً.
تداول الغزيون الخبر بطريقة ساخرة، لكن العودة لأكثر من 1400 عام تقدّم صورة مختلفة تماماً عن الكحول في غزة، إذ كانت الأخيرة من المدن المعروفة في العالم القديم بجودة نبيذها وتطوّر صناعته.
ذكرت مراجع تاريخية عدة، وبلغات مختلفة، مدينة غزة كمكان لصناعة نبيذ مميّز عن باقي المدن القديمة. من تلك المراجع كتاب المؤرخ الفلسطيني عارف العارف بعنوان "تاريخ غزة" الذي ذكر المدينة باعتبارها "أكثر المدن الاستراتيجية في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت مركزاً تجارياً يربط القارات الثلاث ببعضها"، كما "صدّرت النبيذ عبر طرق برية لمناطق دول الشام ومصر وبعض الدول المجاورة الأخرى، إلى جانب الطرق البحرية عبر موانئها التاريخية كميناء الأنثيدون الذي تأسس في عهد الحضارة اليونانية الهلنستية، وميناء مايوماس الذي تأسس في العهد الروماني".
النبيذ أنعش اقتصاد غزة القديمة
نشرت مجلة "الأكاديمية الوطنية للعلوم" (NAS) الأمريكية بحثاً، في آب/ أغسطس الماضي، بعنوان "إعادة زراعة نمط الكروم في مرتفعات النقب العتيقة من البيانات الأثرية"، كشف أن الإنتاج التجاري لنبيذ غزة الفاخر هو الأساس الاقتصادي للمنطقة العتيقة في غزة حتى النقب، جنوبي فلسطين التاريخية.
ذكر معدو البحث مجموعة من البيانات الأثرية تدل على عولمة اقتصاد الإنتاج القديم في تلك البيئة جنوبي فلسطين المحتلة، مشيرين إلى صعود زراعة الكروم المحلية في القرن الرابع حتى نهاية السادس ميلادي، فيما رجحوا أن يكون الانخفاض بعد هذه القرون ناتجاً عن انكماش السوق الناجم عن الطاعون وتغير المناخ، وليس بسبب الفتح الإسلامي الذي كان يحرم صناعة النبيذ.
وفي بحث تاريخي مكثف، وجد الباحثون حول زراعة الكروم في الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية في المنطقة أن أحد الرموز الشهيرة لتجارة النبيذ الدولية في العصور القديمة كان نبيذ غزة الذي ذكره العديد من الكتاب المعاصرين في القرنين الرابع والسابع، وتم تصدير النبيذ الأبيض الحلو من موانئ غزة وعسقلان عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط في جرار كانت معروفة باسم "جرة غزة".
ويوضح، في السياق، عالم الآثار الفلسطيني أيمن حسونة أن مدينة غزة اشتهرت عبر التاريخ بالتجارة، ولم تكن فقط ميناء استيراد للبضائع وتصديرها، بل كانت تنتج بضائع وتصدرها، ومن ضمنها زيت الزيتون باعتباره من أجود أنواع الزيت حتى الآن، كما كانت تمتاز بتصنيع وتجارة النبيذ، وتصدره الى معظم دول العالم القديم في ذلك الوقت.
ويستدل بذلك أنه عُثر على جرار تصنيع غزة المعروفة بـ"جرة غزة"، في العديد من موانئ حوض البحر الأبيض المتوسط مثل ميناء قرطاج القديم في تونس وميناء طرابلس في لبنان ومرسيليا في فرنسا وسواحل إسبانيا وألمانيا حتى بريطانيا، وهي تشير إلى الرواج التجاري للمنتج الغزي آنذاك.
نبيذ غزة الأبيض
كان حسونة ضمن فرق التنقيب عن الآثار في غالبية المواقع المكتشفة في قطاع غزة، كما شارك البحث مع البعثات الدولية التي حضرت لقطاع غزة مع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1995، وعثرت على العشرات من أنواع الجرار الفخارية القديمة التي كانت تصنع في غزة، والتي كان تخزن في غالبيتها النبيذ الذي كان يُصدَّر للخارج.
أجرى حسونة بحثاً للدكتوراه عام 2010 بعنوان "الفخار القديم المكتشف في غزة - دراسة تقنية وتحليلية"، وتعمق بالبحث أكثر بعد أن لاحظ ذكر مراجع في القرن الأول والرابع الميلادي جودة نبيذ غزة، حتى اعتبره بعضها أجود نبيذ في العالم.
في بحث تاريخي مكثف، وجد باحثون أن أحد الرموز الشهيرة لتجارة النبيذ الدولية في العصور القديمة كان نبيذ غزة، وتحديداً النبيذ الأبيض الحلو الذي تم تصديره من موانئ غزة وعسقلان عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط، في جرار كانت معروفة باسم "جرة غزة"
ومن بين ما عثر عليه حسونة خلال بحثه كانت معلومات عن أن نبيذ غزة كان يباع في أسواق روما بأسعار باهظة، ضاهت أحياناً أسعار نبيذ روما نفسها، وقام بالتقصي على هذه الجودة خلال دراسته، من خلال إشارة أحدهم إلى أن نبيذ غزة كان مصنوعاً من العنب الأبيض، وهو ما لم يكن مألوفاً في ذلك الوقت.
يقول حسونة لرصيف22: "الكروم في غزة وقتها كان لها مناخ غريب، إذ زرعت في مناطق رملية شبه صحراوية، وبالتالي تغذى العنب من المياه الأرتوازية الطبيعية، كذلك كان العنب يُعشّق برائحة البحر، لأن معظم مزارع الكروم تلك كانت قريبة من شاطئ البحر، ومن هناك جاء تميز هذا النبيذ الأبيض".
وكان حسونة قد رصد أربعة أشكال لـ"جرة غزة"، بينما ازدهر كل شكل في مرحلة من المراحل، ما بين القرن الثالث والقرن السابع الميلادي. وعلى قوله، كان يتم تطوير شكل الجرار بحسب تقنية النقل والسفر عبر القوارب، وكانت معظمها تأخذ الشكل المخروطي المُدبّب، حتى يسهل تثبيتها بقوارب النقل، فلا تأخذ حيزاً من خلال القاعدة.
وفي النقل البري، كان شكلها يراعي ضرورة وضعها على الدواب في حبال حلقية، وحتى لا يؤذي جسم الدابة من خلال المشي وتقلل عملية احتكاك الجرار الفخارية.
يصف حسونة تلك المرحلة بـ"مرحلة الأوج التجاري"، لكن تلك الصناعة توقفت في القرن السابع الميلادي، بعد قدوم الإسلام لغزة في زمن الخلفاء الراشدين، تحت قيادة عمرو بن عاص، فبدأت غزة تدريجياً تفقد مركزها التجاري.
النبيذ ممنوع في غزة
في الوقت الحالي، لا وجود لتجارة المشروبات الكحولية داخل غزة، حتى أن دخولها بشكل رسمي مع مواطنين من غزة يُعتبر أمراً مستحيلاً، لكن مروان (58 عاماً)، وهو اسم مستعار لمسيحي مقيم في غزة من الطائفة الأرثوكسية، يصنع النبيذ في منزله منذ 20 عاماً.
تعلم مروان صناعة النبيذ المنزلي بعد أن تقلص بيعه عقب أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وتحديداً بعدما حرق منتمون لجماعات إسلامية محلات بيع مشروبات الكحول، كذلك مسارح وصالات سينما، في ذلك الوقت.
آخر مرة اشترى فيها مروان نبيذاً داخل غزة كان عام 2005 من أحد المحلات المعروفة التي كانت تبيعه لزبائن خاصة فقط، لكن بشكل غير معلن، في وقت كانت النسبة الأكبر في المجتمع ترفض تجارة المشروبات الكحولية بشكل علني.
"الكروم وقتها كان لها مناخ غريب، إذ زُرعت في مناطق رملية شبه صحراوية، وبالتالي تغذى العنب من المياه الأرتوازية الطبيعية، كما كان يُعشّق برائحة البحر، ومن هنا جاء تميز النبيذ الغزي الأبيض"... عن أيام عُرفت فيها غزة بتصنيع وتصدير أجود أنواع النبيذ
يقول مروان إن دخولها انقطع تماماً عام 2007، لكنه ينوه أن في غزة من يصنع سراً النبيذ وأنواع أخرى من المشروبات الكحولية، وهم من المسيحيين والمسلمين على السواء.
ويعلق مروان قائلاً: "ربما ينزعج البعض من سكان غزة عندما أقول أمامهم إنني أشرب النبيذ، وهو معروف أن نسبة الكحول فيه قليلة مقارنة بين مشروبات الكحول الأخرى"، مستدركاً "مع ذلك، بالنسبة لي الأمر مختلف، أحترم وجهة نظرهم وبعضهم يحترمون وجهة نظري، فالنبيذ يمنحني قوة وطاقة بشكل يومي وأصنعه في المنزل، كما أن لدي أصدقاء مسلمين نشربه مع بعضنا، لكن لا نصل لمرحلة السكر بالمطلق".
القانون الفلسطيني والكحول
شرب الكحول بشكل عام، سواء النبيذ أو غيره، غير مجرم في النظام القانوني العادي الفلسطيني، كما يشير المحامي والباحث القانوني عبد الله شرشرة، إذ لم ينص قانون العقوبات الفلسطيني لعام 1936 على تجريم شرب الكحول أو معاقرة المُسكرات، في حين أن قانون المؤثرات العقلية الصادر عام 2013، لم يعتبر الكحول من المؤثرات العقلية.
في المقابل، هناك نص قانوني في قانون العقوبات الثوري الفلسطيني لعام 1970، ينص على "عقوبة الحبس أو الغرامة 10 جنيهات في حال وُجد شخص في حالة سكر ظاهرة في مكان عام مباح للجمهور، ويتم تشديد هذه العقوبة إذا كانت حالة السكر مقترنة بالشغب"، لكن هذا النص القانوني من الناحية الدستورية، وفق ما يوضح شرشرة، لا يجوز تطبيقه على المواطنين المدنيين.
أما لجهة بيع الكحول، فإن قانون بيع وصنع المسكرات لعام 1927، وهو ضمن"القانون الوضعي البريطاني المطبق في زمن الانتداب على فلسطين"، نص على عدم جواز أن يقتني شخص ما جهازاً للتقطير أو يتعاطى صنع المسكرات ما لم يكن حاملاً رخصة، وبطبيعة الحال لا يمكن منح مثل هذه الرخص حالياً، نظراً للأيديولوجيا التي يحملها النظام السياسي في قطاع غزة، كما ينوه المحامي والباحث القانوني.
ويقول شرشرة: "في العادة عندما يتم ضبط الكحول، تُصادَر وتُتلف، لكن يتم التغاضي عن ذلك في التعامل مع الفلسطينيين المسيحيين في قطاع غزة، أو الأجانب القادمين إلى الضفة الغربية عبر معبر بيت حانون، خاصة عندما تكون الكميات بسيطة، إذ يتم التعامل معها بالطريقة نفسها التي يتم التعامل فيها مع حاملي السجائر أو التبغ عبر المعابر الحدودية، أي السماح بكميات بسيطة ومصادرة أي كميات مبالغ بها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...