ربما تكفي جولة تفقدية واحدة في أسواق قطاع غزة، لملامسة استحواذ تجارة بيع الأدوات المنزلية على حصة كبيرة من السوق، ولن يفوتك ملاحظة الإقبال الكبير من النسوة الغزيات على شراء الأواني بمختلف أنواعها، سواء كان بمناسبة أو بدون مناسبة.
اللافت في الأمر أن هذه الظاهرة مناقضة تماماً للحالة المعيشية الصعبة لأغلب سكان القطاع المحاصر، وتدهور أوضاعه الاقتصادية.
الشراء كهواية
وسط الرفوف المتكدسة بالأواني المنزلية، مختلفة الأشكال، الأحجام والتصاميم، المعروضة بشكل فني في أحد المحال التجارية في غزة، وجدت تهاني عيسى (33 عاماً) ضالتها أخيراً. قررت شراء أطباق الطعام المزخرفة، أكواب المشروبات وأدوات الزينة.
تقول تهاني لرصيف22: "لدي هوس كبير بشراء الأدوات المنزلية، وأقوم بتجديدها كل شهر، حتى إن لم توجد مناسبة معينة، دائماً ما تغريني عند مشاهدة عرضها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فأخصص جزءاً من مصروفي الشهري لشرائها".
تصف تهاني شراءها المتكرر للأواني المزخرفة بـ "الهواية"، رغم أنها قد لا تكون بحاجة لكل ما تشتريه فعلياً: "ليس كل أنواع الطعام المقدمة على المائدة مناسبة لما أتبضعه".
"أشتري الكثير من الأواني، ولا أستخدمها، أشعر أن حالتي النفسية تتغير كثيراً للأفضل بعد كرة مرة، فالشراء بالنسبة لي هواية وترفيه"
وتحرص تهاني على تجديد أدوات المطبخ بشكل دائم، ما يسبب خلافاً مع زوجها، وتتعرض أحياناً للتوبيخ منه، على اعتبار أن هنالك أولويات بالنسبة لهم، لا سيما أن متوسط دخلهما لا يتجاوز 200$ شهرياً، فبالكاد يكفي لسد قوت يومهم، وهما يعيلان طفلين صغيرين.
وتقوم بعض المحلات التجارية بحملات إعلانية بين الحين والآخر، هذا ما قد يدفع النساء للشراء. ولمواقع التواصل الاجتماعي دور في تشجيع النساء على شراء أدوات المطبخ، خاصة ممن يحرصن بشكل يومي على مشاركة الأصدقاء يومياتهن، فالأمر لا يقتصر على كونه داخل جدران المنزل، فقد يكون للمباهاة على السوشال ميديا.
وفي أوج الحصار، انتشرت محلات الأدوات المنزلية بكثرة، وفي السابق، قبل بضعة أعوام، لم تكن ظاهرة كما يعهدها الآن سكان القطاع، حتى أنها باتت ملاذ الفقراء ومحدودي الدخل.
ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ معدل ساعات العمل الأسبوعية للعمال والموظفين 35.4 ساعة أسبوعياً، وبلغت عدد أيام العمل شهرياً 22.1 يوم عمل، فيما بلغ الحد الأدنى للأجر 647 شيكل (ما يعادل 200 دولار)، وارتفعت نسبة البطالة إلى 49%.
"سريع الملل"
يقول أحد البائعين في أحد محال الأدوات المنزلية ومشتقاتها، محمد زيادة، والمعروفة بـ "سمارت باي"، والتي لاقت شهرة واسعة بالقطاع، لرصيف22: "اهتمام النساء بهذا القطاع واضح بشكل ملموس، على عكس سنوات فائتة، وهذا يعود لرخص ثمن الأدوات المنزلية، فلم تعد حكراً على أحد، وهنالك حالة من الإشباع لدى السوق بها، بسبب استيرادها بكثرة من الأسواق الصينية بثمن قليل".
وأوضح أن "بعض الأواني المنزلية يصل ثمنها 1- 3 شيكل، مثل فنجان القهوة الواحد، وهنالك أدوات مطبخ أخرى رخيصة الثمن، تستخدم بشكل أولي، كالملاعق، السكاكين، أكواب النسكافيه والتحف، كذلك الأواني الزجاجية والبلاستيكية ذات الأشكال والأنواع المختلفة، هذا يجعلها مناسبة لجميع شرائح المجتمع".
"الكثير منهن يلجأن للشراء بغرض التباهي".
أسس محمد مشروعه التجاري قبل خمس سنوات، وأرجع رخص ثمن تلك الأدوات إلى استيرادها من مصنعها الأصلي مباشرة من الصين، ما ساعد على إيجاد أصناف متنوعة، هذا بدوره خلق منافسة قوية، ليس بين البائعين فحسب، بل لدى النساء، يقول: "الكثير منهن يلجأن للشراء بغرض التباهي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو في المناسبات، والعديد منهن لديهن ولع حقيقي، فلا يكاد يمر يومين أو أكثر حتى تزور المحل للتسوق، وإن كانت قد قامت بشراء نفس القطع".
حول تغير نمط شراء أواني ومعدات المطبخ، يوضح: "كانت النساء تعتمدن على الأدوات المنزلية التي ورثنها عن أمهاتهن أو جداتهن، لكن مع التطور التكنولوجي والمجتمعي نجد أن هذه الظاهرة لم تعد موجودة، فالجيل الجديد سريع التغيير وسريع الملل من أي شيء قد يوحي له بالقِدم".
"الشراء نشاط ترفيهي"
تعتبر غيداء أبو نحلة (26 عاماً)، تعمل في إحدى مراكز التجميل في القطاع، وتتقاضى راتباً يقارب الـ 500 شيكل، ما يعادل 150 دولاراً شهرياً، شراء الأدوات المنزلية جزءاً من روتينها المعتاد، قد لا يمر يوم على عودتها من العمل دون أن تذهب للتسوق، لشراء بعض التحف وبعض أدوات المطبخ، كأباريق الشاي المزخرفة ذات التصاميم المختلفة، كذلك أطباق الطعام التي تستهويها، وأحياناً قد تلجأ للاستدانة من زميلاتها حتى تقوم بالشراء.
لكن هل تستخدم غيداء جميع الأدوات التي تقوم بشرائها يومياً؟
تقول غيداء: "لا أنكر أنني غالباً لا أستخدمها، تحديداً الأطباق، فلا أضعها على طاولة الطعام، لا حاجة لها، أكتفي بوضعها في المطبخ كمنظر، وأحياناً تستخدم على مائدة الطعام في المناسبات، وهذا قليل".
وترجع غيداء السبب إلى حالتها النفسية، إذ تقول: "حالتي تتغير كثيراً بشكل إيجابي بعد كل مرة أذهب فيها لشراء حاجة منزلية معينة، حتى إن لم أستخدمها، فقط لأن تصميمها لفت نظري، فالشراء بالنسبة لي نشاط ترفيهي".
"لتبقى جديدة دائماً"
تعتاد مريم المصري (38 عاماً) على متابعة شراء كل ما هو جديد، فيما يتعلق بأواني المطبخ، تحديداً فناجين القهوة، قدور الطعام وأكواب الشاي، لكنها لا تقوم باستخدامها، "لتبقى بحلتها الجديدة دائماً"، حسب قولها.
وتكتفي مريم بترتيبها بشكل مناسب في المطبخ، تحديداً المصنوعة من الزجاج، وبعض أدوات الزينة والتحف، التي تقدمها كهدايا أثناء الزيارات الاجتماعية.
"إقبال النساء على شراء أواني المطبخ بكثافة، مرتبط بحالتهن النفسية وليس الوضع الاقتصادي، فهي تربت على أن بيتها مملكتها، وأنشطتها محدودة، والتسوق يسد فراغاً، ويشعرها بسعادة متوهمة"
وتفسر عدم استخدامها لأدوات المطبخ التي تشتريها، قائلة لرصيف22: "أقدم أنواعاً معينة من الطعام، لا تنسجم مع بعض الأطباق والأواني، لا سيما التي تُظهر تصاميم خاصة، يجب أن تتطابق مع نوعية الطعام المقدم، لذا لا أضعها غالباً على المائدة".
وتعيل مريم سبعة أفراد من أبنائها، أنهت دراستها (بكالوريوس تربية قسم رياضيات) لكنها مصطفة في طوابير البطالة، بالمقابل يعمل زوجها موظفاً لدى حكومة قطاع غزة.
"متعلقة بحالة نفسية أكثر من كونها مرتبطة بوضع اقتصادي".
تعلق الأخصائية النفسية والاجتماعية، سهى بشير، على سلوكيات هوس الشراء تلك، بأنها "متعلقة بحالة نفسية أكثر من كونها مرتبطة بوضع اقتصادي، وطبيعة الظروف التي تعيشها النساء في قطاع غزة، قد تدفعهم لهذا النشاط رغم حالة العوز عند الغالبية".
تربت المرأة الغزية، بحسب بشير، بأن منزلها هو "مملكتها الصغيرة"، ما يساهم في دفعها لـ "شراء أغراض متنوعة، سواء متعلقة بالمطبخ، الديكور أو التحف، لاسيما إذا تلقت ترحيب وإعجاب من أسرتها، فهذا يشعرها بالسعادة".
إضافة إلى أن الأنشطة الاجتماعية للمرأة في قطاع غزة محدودة، بحسب بشير، "وبالتالي قد تجد في الذهاب لمحلات الأدوات المنزلية التجارية متنفساً لها، خاصة المتاجر التي تقوم بحملات عروض بشكل دائم، وهذا النشاط يسد فراغاً معيناً لديها أو حتى للتخفيف، ولو بشكل متوهم، وقد يخلق سعادة لكنها مؤقتة وليست حقيقية".
كل تلك العوامل، ساهمت في تشكيل دوافع أقرب للهوس بالشراء عند النساء، والأمر قد يذهب لمدى أبعد عند بعضهن، إذ "يلجأن لاستدانة أموال أحياناً لشراء الأواني المنزلية، رغم أنهن لن يستخدمن ما يقمن بشرائه، أو قد يكن لسن بحاجة له، لكنهن بذلك يشبعن رغبة معينة لديهن"، تنهي بشير حديثها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...