شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لا أريد أن أكون أماً، لكن الأمومة تطاردني

لا أريد أن أكون أماً، لكن الأمومة تطاردني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 21 يناير 202105:41 م

أنظر إليها وهي جالسة على الأرض بجوار فراشي، كانت تشاهد برنامجها المفضل على يوتيوب، وشعرت بي أتقلّب في فراشي، فطوّقت رقبتي بذراعيها، وابتسمت بوجهها الطفولي الذي تحمل ملامحه كل ملامحي وكأنها "حتة صغيرة وقعت مني"، كما يقول أبوها. لا! ليست ابنتي، هي ابنة أخي، نورين.

الاتفاق بيني وبين زوجي كان واضحاً: لا أطفال حتى إشعار آخر، في حين أن كلاً منا لم يقترب ولو خطوة من إصدار هذا الإشعار حتى الآن.

قرار بداخلي ظل يتكوّن ويكبر بأنني لا أريد أن أكون أمّاً، ليس لأنني لا أحب الأطفال، بل لأنني أحبهم أكثر من اللازم، وليس لأنني أخشى ألا أكون أمّاً جيدة، بل لأنني مدركة أنني سأكون أمّاً جيدة أكثر من اللازم، وسأمنح هذا الطفل كل وجداني وحياتي، حتى لن يتبقى لي أو لزوجي شيئاً، ما سيجعلني أطالب هذا الطفل بالتعويض بعد أن يكبر، لأكون في النهاية أماً فاشلة من وجهة نظري.

 ولكن القدر كتب لي أن أختبر إحساس الأمومة، ولو بدرجة من الدرجات، من خلال علاقتي بنورين، وهي العلاقة التي أعادت تشكيل فكرتي وقناعاتي حول الأمومة بشكل عام.

في المجتمع الذي نعيش فيه، أن تكوني أمّاً فهو بمثابة اعتراف بالتخلّي عن متعتك الشخصية، اهتمامك وشغفك، والأم التي تخرج للحياة لتطارد أحلامها وتطلب المساعدة في تربية الأطفال، سواء من خلال المساعدة المحترفة أو من الأهل، تتعرّض للنقد دائماً، وإذا مارست أي طقس خارج المنزل يدخل إلى قلبها المتعة دون أن تصحب الطفل معها، فهي أم "أنانية" بنظر هذا المجتمع، فالمرأة هي التي تترك العمل والهواية بعد الإنجاب وليس الرجل، ولا ينظر لهذا التخلّي على أنه تضحية من الأساس، لأنه "الطبيعي". كل تلك الأسباب وما يصاحبها من انتقادات أخرى لهذه الأم ووضعها تحت المنظار، كانوا بمثابة حاجز خرساني بيني وبين الرغبة في الإنجاب.

ضِف إلى ذلك علاقة غاية في التعقيد والسُمّية عشتها مع أمي حتى كان عمري 28 عاماً، حينما أدركت ما تعرّضت له أمي كأنثى في نفس المجتمع، من تنمّر وإيذاء جسدي على يد أخوتها الذكور الخمسة، وما تعرّضت له بعد ذلك من تحمل كامل للمسؤولة في تربيتنا، أنا وأخي، مع غياب أبي الكامل بسبب عمله كطبيب، لأخرج من فخ غضبي وسخطي الدائم عليها، إلى مسامحتها على عصبيتها الدائمة، خوفها غير المبرر وتضييقها علي في مراهقتي ومحاصرتي. سامحتها عندما أصبحت أنثى مثلها تحت منظار هذا المجتمع، أعاني نسبة قليلة مما عانته هي، لتتحول صداقتنا من الشجار الدائم والعراك، إلى صداقة وطيدة، حتى أصبحت صديقتها المقربة التي أحكي لها كل شيء عن كل شيء، حرفياً.

في المجتمع الذي نعيش فيه، أن تكوني أمّاً فهو بمثابة اعتراف بالتخلّي عن متعتك الشخصية، اهتمامك وشغفك، والأم التي تخرج للحياة لتطارد أحلامها وتطلب المساعدة في تربية الأطفال، سواء من خلال المساعدة المحترفة أو من الأهل، تتعرّض للنقد دائماً

تزامن هذا مع وصول نورين إلى الحياة، وقتها كان أخي مسافراً للعمل، وكانت زوجته تقيم معنا أنا وأمي قبل زواجي، كنت أنا من أتابع معها مواعيد الطبيب، وكنت من تحسّس بطنها عندما تحركت نورين أول مرة في رحمها، وراعيت نورين معها بعد الولادة، والعام الأول من ولادة نورين كان بمثابة غسيل لروحي من هموم كثيرة، الطاقة التي كانت تمنحها لي وأنا أحملها بين يدي، كانت طاقة نقية وبريئة بالرغم من قوتها وتأثيرها الجامح.

أحياناً وأنا أحملها، كنت أسمع صوت أمعائها وهي تتمدد سامحة بدخول الهواء، كانت تكبر على يدي حرفياً، ولكن حتى تزوجت وبعد زواجي بفترة، كانت علاقتي بنورين مازلت تنحصر بعلاقة العمة بابنة أخيها، حتى تعرّض زواج أخي لعثرة قوية، وانفصل عن زوجته، واختارت الزوجة أن تكون نورين مع أمي وأخي 90% من الوقت تقريباً، ولأن والدي متوفٍ، فأنا أقضي نصف الأسبوع تقريباً مع أمي حتى بعد زواجي.

خلال هذا الوقت الذي عشته مع نورين في منزل أمي، وهي دون وعي منها تحاول استبدالي بأمها، تستميت للنوم بجواري ليلاً، وعندما تعرّضت لحادث تسبب في كسر قدمي، ولم يكن من المسموح لها أن تنام جواري، كانت تجلس على الأرض بجوار فراشي حتى يغلبها النوم، فتذهب إلى فراشها، وفي الصباح تأخذ رأسي تضعها على صدرها إذا رأتني أبكي أو أتألم.

على مدار ثلاثة شهور كاملة عشتهم في منزل أمي لأني كنت بحاجة لرعاية، شعرت فيها للمرة الأولى أنني أم لتلك الفتاة الصغيرة الحنونة العنيدة الذكية، تشعر بالغضب عندما تحدثني أمي عن ضرورة إنجابي، فهي لا تريد لأحد أن يشاركها فيّ، وتغضب أكثر عندما تدرك أنني سأعود لمنزلي بعد أن أتعافى، تتعلق برقبتي وتقول: "هاجي معاكي". كل هذا الحب لم أجد أمامه سوى الاستسلام لخوض تجربة الأمومة بكل تفاصيلها، فلم أختر هذا الشعور، هو الذي اختارني ومنحني تلك العلاقة الرائعة، والتي أحصد فيها يومياً ما قدمته لها في أعوامها الأولى من حنان وحب صادقين.

الأمومة شيء معقد بنظري وشديد الخطورة، وعلم النفس والمجتمع دائماً ما يُرجع الأمراض النفسية التي يعاني منها الشخص الناضج لعلاقته بأمه، هذا عبء خطير على كل امرأة تحلم بالإنجاب.

والمرأة عندما تحلم بالإنجاب، يجب أن تقع في فخ الاختيار بين الأمومة وأشياء أخرى كثيرة، هذا الفخ الذي لا يقع فيه الرجل أبداً، فهو من حقه أن يستمر في طريقه كما هو، دون أي تغيير، بالإضافة إلى استمتاعه بالأبوة، بينما الأم، التي عادة ما تتهم بالعصبية والهستيريا، لا يسألها من حولها عن سبب هذا الغضب والسخط الدائمين، لا يدركون ما تعانيه من خسارة وتقلب هرموني وإحباطات جنسية، وصراع مع تقبل شكل جسدها الجديد، بل يتجاهل معظم من حولها كل ذلك، مع أول لحظة يُرى فيها الطفل ملابسه غير نظيفة، أو شعره غير مهندم: "انتي أم انتي؟!". هذا السؤال الاستنكاري الذي تُقذف به كل أم تقصّر في عملها كما يقصّر أي إنسان في أي مهمة، وكأن الأم كيان خارق، يجب أن تراعي الطفل، وأن تمارس عملها أحياناً لمساعدة الزوج اقتصادياً، ومراعاة متطلبات منزلها، وتكون جميلة حتى لا تفقد رونقها الأنثوي في نظر زوجها. لا أندهش أن زوجة أخي اختارت أن تترك ابنتها لأخي.

متطلبات الأمومة في نظري مخيفة، عندما أفكر في الإنجاب أشعر بالخوف الحقيقي وجميع أعراضه الجسدية، أشعر أني فاشلة بالفعل في أنظار الناس من قبل أن يصل الطفل

متطلبات الأمومة في نظري مخيفة حقاً، عندما أفكر في الإنجاب أشعر بالخوف الحقيقي وجميع أعراضه الجسدية، أشعر أني فاشلة بالفعل في أنظار الناس من قبل أن يصل الطفل، إذا كنت أنا شخصياً، بعد ما فعلته أمي معها في حياتها وما قدمته لي من رعاية، كبرت وأنا ألومها، واحتجت سنوات لأدرك ما عانته من ضغوط.

"أميرة ماما"، كما تناديني أحياناً نورين، وتلك المشاعر المؤقتة التي تمنحها لي، هي ما سأكتفي به من الأمومة، لأنه رغم إدراكي لمفهوم الأمومة ومكامن ضعفه المقبولة، أو التي يجب أن تكون مقبولة، لم أجد الشجاعة لأخوض تلك التجربة مع طفل من رحمي.

 ولكن لمن خاضت تلك التجربة أحب أن أقول: الهوس بالأمومة ليس الحل، والهروب ليس حلاً أيضاً. ليس عليك أن تفني نفسك في مهام الأمومة حتى آخر قطرة في نفسك، وليس من المعقول أن تتخلّي عن التجربة في منتصفها، فهناك خيط لن ينقطع بينك وبين الطفل الذي أنجبته، وما تزرعينه من تجاهل وإهمال تحصدينه لاحقاً، وما تزرعينه أيضاً من هوس وحصار ومطالبة بالتعويض، تحصدينه سموماً في نفس هذا الطفل، نتيجة إغراقه في إحساس دائم بالذنب.

 الانغماس في التضحيات ليس حلاً، والتملّص التام منها ليس حلاً أيضاً، والحب هو الضمان الوحيد لأن تجمعك علاقة جيدة بطفلك، وما قد ترينه عيوباً في شخصيتك قد يقع طفلك في غرامها لمجرد أنك غلفته بالحب الكافي والحنان، وليس بالقدرات الخارقة التي يطالبك بها كل من حولك، وبمجرد أن تدرك كل أم ذلك، ربما لن تفكر أي أم بالتخلي عن مهامها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard