ساعة كاملة أمام المرآة تقف هناء، متأمّلة وجهها، تضع مساحيق التجميل، التى لا تجدها كافية لإخفاء ما تظن أنه "عيب" في وجهها، ما يجعلها تضع طبقات من "كريم الأساس"، وهي مادة من مساحيق التجميل، تعمل على خلق طبقة من لون مختلف على الوجه، لتمنحه شكلاً وتخفي ما به من ندوب أو بثور أو "حب الشباب".
ولكن هناء تستخدم هذا الكريم لتخفي "وحمة"، وهي علامة لونها بني، لا يتعدى حجمها في وجهها حجم حبة الترمس، ولكنها ترى أن كل من ينظر في وجهها ينظر إلى تلك البقعة.
تستيقظ هناء محمد (29 عاماً)، موظفة تسكن في محافظة الجيزة المصرية، يوميًا قبل أن يحين وقت عملها بساعة لتزين وجهها.
منذ طفولتها وهي تحمل هذه العلامة في وجهها، تغذي مشاعر انعدام ثقة في نفسها، وتوسوس لها نفسها بأنها لا بد أن تخفيها.
"وحمة على وجهي"
وعندما تباشر وظيفتها، تتطلع لحقيبتها، تأتي بالمرآة الصغيرة، وتنظر ما إذا كانت هذه "الوحمة" ظاهرة أم لا، وإذا كانت ظاهرة تخفيها مرة أخرى، وهكذا، ما يجعلها دائمة التوتر، بل يصل الأمر بها في بعض الأحيان إلى أن تسأل صديقاتها عما إذا كنا قد لاحظن "الوحمة" في وجهها أم لا؟ وهل منظرها يفسد وجهها؟ ما الطريقة التي تخلصها من وجودها؟ وغيرها من التساؤلات التى تقسو بها هناء على نفسها، خاصة أن "وحمتها" تلك "ليست مشكلة على الإطلاق"، بحسب الدكتور النفسي محمد مهدي.
"هناك أشخاصاً يتحول عدم تقبلهم لمظهرهم إلى شيء مرضي".
"طبيعي ألا يرضى بعض الناس عن مظهر جسدهم أو عن جزء من أعضاء جسدهم ولكن هناك أشخاصاً يتحول عدم تقبلهم لمظهرهم إلى شيء مرضي، يؤثر على حياتهم اليومية، نومهم، عملهم أو حتى يدخلهم في موجة اكتئاب لدى الكثير منهم، وفي هذة الحالة يتحول الأمر لمرض نفسي، نطلق عليه "اضطراب التشوه الجسدي" body dysmorphic disorder"، يعلق مهدي لرصيف22.
تقول هناء: "نظرات من حولي تقتلني، أظن أن كل شخص من زملائي في العمل أو أصدقائي بالمدرسة في السابق ينظر إلي نظرة مشفقة على حالي. قمتُ بشراء أغلى أدوات التجميل كي تخفي عيوب وجهي، لدي علامة أرى أنها مرئية بشكل كبير مع تأكيد أمي وأخواتي وأبي أنها لا تُرى على الإطلاق، ولكنني لا أصدقهم، هم أهلي يقولون ذلك من باب مجاملة".
تأثير مساحيق التجميل على وجه هناء كان بالغ السوء أيضاً، تقول: "مساحيق التجميل جعلت وجهي يظهر بسن أكبر، وفي النهاية أيضاً لا تجعلني سعيدة، ما أشعرني بأن الأمر يزداد سوءاً، ولكن ليس لدي حل آخر".
"أنا بشع، ما هذا الجسد، لا يصح أن يكون جسدي مثل هذا الجسد"، هذا ما يقوله راضى يومياً لنفسه أمام المرآة
الحل الآخر بالنسبة لمهدي، هو نفسي، يقول: "سيتم في هذه الحالة الجمع بين العلاج المعرفي السلوكي، وبين مضادات التكتئاب، يوجد عدد من مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs) الفلو كستين، هو الأكثر استخدامًا لعلاج اضطراب التشوه الجسمي، مما يستغرق الأمر حوالى 12 أسبوعاً، لتحسن الوضع، ومنع العودة للمرض مرة أخرى".
ويتابع مهدي: "هناك بالطبع بعض الآثار الجانبية الشائعة لأخذ مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، ولكنها غالباً ما تزول تلك الآثار في غضون أسابيع قليلة، سيتم ذلك عن طريق تقليل الجرعة ببطء بمرور الوقت للمساعدة في التأكد من عدم عودة الأعراض (الانتكاس)، ولتجنب أي آثار جانبية للتوقف عن تناول الدواء (أعراض الانسحاب)، مثل القلق".
ويكمل: "إذا لم يؤد العلاج باستخدام كل من العلاج المعرفي السلوكي، ومثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية إلى تحسين أعراض اضطراب التشوه الجسمي بعد 12 أسبوعاً، فقد يتم وصف نوع مختلف من مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية أو مضاد آخر".
"أنا بشع"
يشعر راضي عامر منذ صغره أن اسمه على غير مسمى، لكونه قضى حياته غير راض مطلقاً على شكل جسده، ودائماً يرى نفسه زائداً في الوزن، متأثراً بما كان في مرحلتي الطفولة والمراهقة، أما الآن فقد أصبح الأمر مختلفاً، والكل حوله يرى أنه وصل إلى الوزن المتناسق.
"أنا بشع، ما هذا الجسد، لا يصح أن يكون جسدي مثل هذا الجسد"، هذا ما يقوله راضى يومياً لنفسه أمام المرآة.
يرفض راضي زيارات أصدقائه له، لا يخرج معهم خوفاً من تعرضه للتنمر من جانبهم، على جسده، وشكله غير المتناسق من وجهه نظره، إذ يبلغ طوله اليوم 170 سنتيمتراً ووزنه 50 كيلوغراماً، ولا يزال يحاول أن يفقد المزيد من الغرامات، على الرغم من تحذير الأطباء.
يقول راضي (35 عاماً)، ينحدر من محافظة أسوان جنوب مصر، لرصيف22: "تعرضت للتنمر منذ صغري من جانب زملائي بالمدرسة، وعندما كنت أشكو لأهلي كانت أمي تؤكد أن المظهر والقيمة الاجتماعية للشخص يبدآن من مظهره الخارجي، فقررت أن أفقد وزني، منذ هذا الوقت لا أحب جسدي مطلقاً، وأرى أنه السبب في فشلي في حياتي العاطفية حتى الآن، بالإضافة إلى كونه السبب في نفور الأشخاص مني، وعدم تقديرهم لي على الإطلاق".
وبصوت يغلب عليه الحزن قال: "زرتُ العديد من أطباء التغذية، وقمتُ بإجراء عملية تكميم معدة حتى فقدت كيلوغرامات عديدة من وزني، مع الالتزام بالنظام الغذائي المحدد من قبل الأطباء، ومن ثم فقدت شهيتي، وبدأت المعاناة في النوم والقلق المستمر من مظهر جسدي، الذي أخجل منه، ولا أقبل الخروج مع أصدقائي، وما زلت أعتزل في غرفتي أغلب الأوقات".
"أنفي كبير ومعوج"
"خضعت للعديد من العمليات، ولا يزال أنفي كبيرا، ومعوجاً، ومؤخرتي صغيرة"، تحكي نهى علي، تسكن في محافظة القاهرة (28عاماً)، لا تعمل، حكايتها مع أطباء التجميل التي بدأت منذ بلوغها عمر 18 عاماً، حتى وصلت للسن المسموح فيها إجراء عملية بالأنف.
وبالفعل خضعت نهى للعملية، ولكن لم تعجبها النتيجة، ما جعلها تعكف عن إجراء عملية لتكبير المؤخرة، واكتفت بالوصفات الطبيعية، والتمارين الرياضية الشاقة للوصول لما تريد.
تقول نهى: "دائماً أرى أن أنفي معوج، ولا أرى فيه أي شيء جميل، مما جعلني أرفض العمل على الرغم من المرتبات المغرية، عُرضت علي وظيفة في أحد البنوك، ولكني رفضت، وعلى الرغم من زعل أهلي لرفضي، لم يمنعني هذا من عدم الانسياق إلى ما يريدون، واستكمال مسيرتي في تعديل شكلي أولاً".
"كيف أذهب للعمل وأنفي بهذا الشكل، ومؤخرتي بهذا الحجم، أحلم بأنف صغير مناسب لوجهي، ومؤخرة كبيرة، ولكن للأسف هذا لم يحدث، ولن يحدث"
وتضيف: "كيف أذهب للعمل وأنفي بهذا الشكل، ومؤخرتي بهذا الشكل، أحلم بأنف صغير مناسب لوجهي، ومؤخرة كبيرة، ولكن للأسف هذا لم يحدث، ولن يحدث، فعلى الرغم من خضوعي لعملية تجميل ناجحة من وجهة نظر الأطباء، ولكنها فاشلة، فلم تستطع أن تصل لما أهدف إليه، والآن أحاول أن أعدل ذلك عن طريق مساحيق التجميل، فهي تعدل بعض الشيء وليس كله".
يقول الدكتور محمد مهدي: "المريض يلجأ إلى عدة أساليب لإخفاء ما يراه عيباً مما يخلق هذا الهوس ضغطاً نفسياً وعصبياً عليه، وقد يؤثر سلباً على وظائفه اليومية، كما تسيطر عليه الأفكار التشاؤمية، وقد يكون ذلك مرتبطاً بنوع من الصدمات تعرض لها في الطفولة أو تنمر من قبل أحد الاصدقاء، أو أحد أفراد عائلته مُصاب باضطراب القلق، كما أنه تتساوى نسبة إصابة الرجال والنساء بالمرض، وغالباً ما يعانيه الشخص في عمر المراهقة، إذ وفقًا للدراسات الحديثة فكل خمسين شخصاً يعاني منهم واحد التشوه الجسدي الوهمي".
عن العلاج، يقول مهدي: "يتبع مع المرضى أسلوب العلاج السلوكي المعرفي بالإضافة للأدوية الخاصة بالاكتئاب، وذلك بحسب الحالة إذ تعمل على تخفيف أعراض المرض، وكذلك يتم التحكم بالضغط النفسي المرتبط بالسلوكيات، وتعليم المرضى النظر لأنفسهم بطريقة خالية من الأحكام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com