شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"يسبون ناشطات سياسيات بعملي"… تونسيات يعملن في مهن هشّة ومُحتقرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 10 يناير 202103:26 م

بأصابع نحيفة أرهقتها كدمات الدهر وسلبتها نضارتها، تعجن منيرة عجينة "السكّر" (الحلاوة) بخفّة أكسبتها إياها خبرة حوالي 10 سنوات من امتهان "إزالة الشعر"، لزبونات أغلبهنّ يفدن عليها من نفس المنطقة التي تقطن فيها، وأخريات يأتين من مناطق مجاورة، لأن سمعة منيرة تسبقها.

تسكن منيرة (47 عاماً) في حي التضامن، أحد أكثر الأحياء اكتظاظاً وفقراً في محافظة أريانة. هي أم لثلاثة أطفال، أكبرهم فتاة تبلغ 16 سنة، تعيلهم وحدها، بعد دخول زوجها السجن في قضية سرقة واعتداء بالعنف.

"بالكاد أتمكّن من إعالة أطفالي الذين تكثر طلباتهم كلّما كبروا في السن، دفع الإيجار، فواتير الماء والكهرباء وفاتورة الكريدي (الدين) لدى البقال، حتى أنني أظلّ أكثر من شهرين أحياناً لا أزور فيهما زوجي في السجن، لأن زيارته تستوجب مني أخذ قفّة مليئة بما لذ وطاب من الأطعمة، علب السجائر وبعض الأوراق النقدية، وإن ذهبت دونها فإنّي أتعرض منه لوابل من السخط والشتائم، حتى وهو خلف القضبان"، تقهقه منيرة بصوت عالٍ لتداري تنهيدة مشحونة بالأسى.

تزوجت منيرة في الـ 26 من عمرها، وظنّت أنها بزواجها قد تخلصت من الخصاصة والفقر اللذين كانت تعاني منهما في منزل والديها، بمنطقة حاسي فريد التابعة لمحافظة القصرين.

 بعض الناشطات السياسيات اللواتي خذلن من انتخبهن يُلقّبن بـ'الحارزات' وكأن 'الحارزة' أصبحت مسبّة جاهزة تلقى على كلّ من ينظر إليها بشكل دونيّ، سواء أكانت عاهرة أو نائبة شعب"

وتعدّ حاسي فريد أفقر منطقة بكامل الجمهورية التونسية، حيث تبلغ نسبة الفقر فيها، وفق دراسة أعدها المعهد الوطني للإحصاء ونشرها في أيلول/ سبتمبر الماضي، بعنوان "خارطة الفقر في البلاد التونسية"، 53.5%، أي أن أكثر من نصف سكانها يعيشون الخصاصة، ولا يتوفر لهم الحد الأدنى من وسائل العيش الكريم، وعائلة منيرة واحدة منهم.

النقاية

تزوجت منيرة وانتقلت للعيش في حي التضامن، ظناً منها أن أبواب الجنة ستفتح لها، لكن "تجري الرياح كما لا تشتهي السفن"، فحيّ التضامن، وإن كان يبعد بضعة كيلومترات فقط عن العاصمة، فإنه يعتبر أحد أفقر أحيائها، وتبلغ نسبة الفقر فيه 12.4%، وفق معهد الإحصاء، وإن كانت تعدّ نسبة منخفضة مقارنة بحاسي فريد، فإنها تعدّ جدّ مرتفعة بالنسبة لمدينة تابعة لإقليم "تونس الكبرى".

"كان ينفق ما يتقاضاه على الكحول وسهرات الأنس مع ندمائه".

أنهت منيرة تدليك العجينة إلى أن أصبحت طيّعة بين أصابعها، ومررتها بخفّة على ساق زبونتها (صديقة لي)، وهي تقول لرصيف22: "في البداية، لم يتقبل أحد عملي كـ 'نقّاية'، ونُعتُّ بأشنع النعوت، من 'عاهرة' و'مش بنت أصل' و'خامجة'، وغيرها من الأوصاف التي من شأنها أن تحبط أي شخص عن مواصلة القيام بما هو بصدده، لكنني لم أُلقِ لكلامهم بالاً، فسهامهم أهون عليّ من عيش أبنائي في خصاصة وحرمان، لاسيّما وأن والدهم، الذي كان يمتهن المرمّة (البناء مقابل راتب يومي)، كان ينفق ما يتقاضاه على الكحول وسهرات الأنس مع ندمائه".

تتقاضى منيرة حسب المنطقة التي تمت إزالة الشعر منها في جسد زبونتها، وتأخذ مقابل تنظيف كامل الجسد 30 ديناراً (11 دولاراً)، لكن نادراً ما يأتيها زبونات لإزالة شعر أجسادهن كاملاً.

تتابع: "أغلب اللاتي يأتين يردن تنظيف الساقين أو اليدين، أتقاضى مقابل اليدين 10 دنانير (3.7 دولارات) ونفس السعر بالنسبة للساقين، أما الوجه والمنطقة الحميمة فكلّ منهما مقابل 5 دنانير (1.8 دولاراً)".

وعلى الرغم من انخفاض التعريفة التي تشتغل بها منيرة، فقد أكدت أن عدد زبوناتها قلّ كثيراً مع ظهور مراكز تجميل متطورة، تعتمد تقنيات حديثة في إزالة الشعر، من ليزر وغيره، وفق تقديرها.

"أقضي أياماً أحياناً دون أن تزورني أي زبونة، خاصة في فصل الشتاء، مع ندرة الأعراس والحفلات يركد الطلب على إزالة الشعر، فأختار في الشتاء العمل في 'الحمّام' إذ يكون أجري أقلّ، وأضطرّ لدفع حصة من مدخولي لصاحب الحمّام".

يتفق صاحب الحمّام مع النساء اللاتي يفدن للعمل هناك على نسبة مئوية معينة من مداخيلهن اليومية يدفعنها إليه، ولا يوجد أيّ معيار معيّن يتبعه في ذلك، وهو وحده الذي يقدّر هذه النسبة، لذلك تكون مختلفة من حمّام إلى آخر، فمهنة "النقاية" تعتبر إحدى المهن الهشّة غير المنظمة قانونياً، وهو ما يجعل النساء اللاتي يمتهنها يقبلن بما يشترطه صاحب المحلّ دون نقاش، طالما ليس عندهن بديل.

وليست "النقاية" وحدها التي تخضع لسلطة صاحب الحمّام، إذ نجد أيضاً "الحارزة" (وهي امرأة تشتغل في تنظيف وتدليك أجساد النسوة اللاتي يستحممن بالحمّام). وتتقاضى الحارزة دينارين (0.74 دولاراً) على كلّ امرأة تنظفها، وفق ما ذكرته زكية (54 عاماً) لرصيف22.

الحارزة

تشتغل زكية "حارزة" بأحد حمّامات مدينة طبربة، منذ ما يناهز 30 سنة، ورثت هذه المهنة عن والدتها التي لم تترك لها من متاع الدنيا سوى مهنة هشة تقتات منها، وأخاً من ذوي الاحتياجات الخاصة تعيله.

وطبربة، التي لا تبعد سوى 30 كيلومتر عن تونس العاصمة، تعدّ أفقر المناطق الموجودة بمحافظة منوبة، وتبلغ نسبة الفقر بها، وفق خارطة الفقر التي نشرها معهد الإحصاء، 15.2%.

زكية فضلت مهنة الحارزة على الفلاحة: "في الهمّ عندك ما تختار".

وتفتقر طبربة إلى مواطن الشغل باعتبارها منطقة فلاحية بالأساس، يلجأ أغلب ساكنيها إلى الزراعة، وتمتهن أغلب النساء هناك أشغالاً فلاحية موسمية مقابل أجر منخفض جداً، لكن زكية فضلت مهنة الحارزة على الفلاحة: "في الهمّ عندك ما تختار"، تقول بيقين.

فضلت تكريس حياتها لإعالة أخيها الذي يقضي اليوم في كرسي متحرك ينتظر عودتها من الحمام، لتحمّمه بدوره، تطعمه بعض اللقيمات وتقضي ما تبقى من اليوم معه، يشاهدان التلفاز بينما تقشّر له المكسّرات وتطعمه إياها بيديها.

"لم أتزوج بقرار مني"، تقول زكية، "لم أكن لأقبل أن يعيّرني رجل، بصفته زوجي، في أيّ يوم كان بمهنتي، يكفيني ما أتلقاه في الشارع من احتقار وازدراء: هاي جات الحارزة، هاي مشات الحارزة، وكأنّ ليس لي اسم ألقّب به".

تروي زكيّة لرصيف22 كيف كانت قبل عقود تخجل من أن يعرف الناس أنها ابنة الحارزة فلانة، كانت دائماً تحاول مداراة هويتها، لكنّ الأقدار شاءت أن تمتهن ذات المهنة التي لطالما خجلت منها.

"لم يكن بيدي حيلة. لازمت والدتي الفراش آنذاك، ولم يكن هناك من يعيلنا، لاسيّما وأن لي أخاً معاقاً يحتاج أدوية كثيرة، فاضطررت مكرهة للحلول مكان والدتي، لأنه لم يكن من السهل أن أجد مهنة أخرى من جهة، ولأني لو لم أحلّ مكانها كان بديهياً أن تشغله امرأة أخرى، وسنكون حينها في وضع أصعب".

تضحك ملء شدقيها، وكأن القصة التي ترويها تخصّ بطلة في فيلم أو مسلسل، وتقول: "لن تتخيلي مدى صعوبة أيامي الأولى في المهنة. أيّ نظرة عابرة تجاهي، سواء أكانت تقصدني أم لا، كنت أراها احتقاراً وامتعاضاً، فكنت أستشيط غضباً. ذات مرة اشتبكت مع امرأة في محطة الحافلات بسبب حديثها باستعلاء عن الحارزات، لم أعِ بنفسي إلا وأنا أنتف شعرها، وانتهى بنا المطاف يومها في مركز الأمن".

ولئن اختلف الوضع الآن من ناحية تقبّل زكية لنظرة المجتمع إليها، إذ لم تعد تلقي بالاً لرأي الناس فيها بعد مرور كل هذه السنوات، فإن ذلك لا يعني أن المجتمع قد لان تجاهها، تقول: "أشدّ ما آلمني هو أن بعض الناشطات السياسيات اللواتي خذلن من انتخبهن يُلقّبن بـ'الحارزات' وكأن 'الحارزة' أصبحت مسبّة جاهزة تلقى على كلّ من ينظر إليها بشكل دونيّ، سواء أكانت عاهرة أو نائبة شعب".

"اشتبكت مع امرأة في محطة الحافلات بسبب حديثها باستعلاء عن الحارزات "مدلكات أجساد النساء أثناء استحمامهنّ"، لم أعِ بنفسي إلا وأنا أنتف شعرها"

وأشدّ ما تخشاه زكية أن يتم غلق الحمام الذي تشتغل به، ولا تجد عائلاً لها ولأخيها: "قبل سنة تقريباً، راجت أنباء عن فرضية هدم الحمّام وبناء منشأة صناعية مكانه، نظراً لتضاؤل مرتاديه. نزل عليّ الخبر كالصاعقة ولم أدرِ ما أصنع حينها، لكن لم يحدث شيء بعد، وآمل ألّا يعدو ما راج من أنباء مجرد إشاعات".

وبالتوازي مع مهنتها كـ"حارزة"، تعمل زكية وسيطة من خلال توجيه النساء اللاتي يبحثن عن "حنّانة" إلى قريبة لها، وتأخذ عمولة بسيطة على كلّ زبونة ترسلها.

الحنانة

سميرة (46 عاماً)، تشتغل "حنانة"، تطلي يدي وساقيْ زبوناتها بالحناء، وتنقشها بـ"الحرقوس"، وهي مادة سوداء شبيهة بالحبر، تصنع من مواد طبيعية ورائحتها فواحة. تقطن مدينة البطان في محافظة منوبة، تقول لرصيف22: "تكثر المقبلات عليّ في الصيف وموسم الأعراس، لكن في الشتاء بالكاد أحصّل 5 زبونات، لذلك أختار في الخريف والشتاء إعداد الخبز وبيعه، وفي الربيع والصيف أتفرّغ للحنّاء".

تتقاضى سميرة على زينة اليد أو الساق الواحدة 5 دنانير (1.8 دولاراً)، أما إذا كانت زينة للعروس فهي تتقاضى عليها 100 ديناراً (37 دولاراً) إذ تختلف الزينة، وتشمل نقوشاً أخرى في الجسد إضافة إلى الساقين واليدين.

"أخاف أن ينتهي بي المطاف بلا زبونات".

"لم تعد عرائس اليوم تستهويهنّ الحنّاء والنقوش، السنة تلو الأخرى ينخفض عدد المقبلات عليّ. ورغم قناعتي بالرزق الذي يكتبه لي الرزاق إلّا أنّي أخاف أن ينتهي بي المطاف بلا زبونات، في ظلّ تراجع الإقبال على الحناء، وزوجي مجرد عامل فلاحيّ بالكاد يكفينا راتبه أسبوعين بالكثير".

"النقاية" و"الحارزة" و"الحنانة" لسن سوى نماذج مصغرة عن نساء كثيرات، يشتغلن مهناً هشة دون وجود قانون يحميهن، ويضمن حقوقهنّ المادية والاقتصادية والاجتماعية.

ووفق آخر تقرير نشره المعهد الوطني للإحصاء حول "مؤشرات التشغيل والبطالة للثلاثي الثالث لسنة 2020"، بلغ عدد النساء اللاتي يشتغلن في أعمال غير منظّمة، 301.5 ألف امرأة، أي ما يعادل نسبة 32.4% من النساء المشتغلات. ورغم ما تعانيه النساء اللاتي يمتهنّ مهناً غير منظمة من استغلال وانتهاك، فإنهن يتحملن ذلك للهرب من براثن البطالة، التي بلغت نسبتها خلال الثلث الثالث من عام 2020، 16.2%، 22.8% منها في صفوف الإناث.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image