"ليس من السهل مواجهة الحياة من جديد، بنفس النظرة ونفس الانتظارات قبل السجن وبعده"، تقول خديجة (اسم مستعار)، محدّثة رصيف22 عن معاناتها بعد مغادرة سجن النساء بولاية منوبة.
خديجة (34 عاماً) دخلت السجن في قضية أخلاق (هكذا روت لنا دون الدخول في تفاصيل قضيتها)، تقطن في حي التضامن التابع لولاية أريانة الواقعة في شمال غربي العاصمة تونس، في منزل لا تتجاوز مساحته 20 متراً مربعاً، يحتوي على غرفة واحدة ومطبخ يفتح بابه على الحمّام.
"قضيت سنة في السجن، ولما خرجت وجدت نفسي في سجن جديد، عائلتي نبذتني ولم تقبلني، مكثت معهم شهراً أو شهرين بعد خروجي من السجن، لكنني لم أستطع تحمّل إذلالهم المتواصل لي، ونظراتهم التي تقول لي مراراً دون حاجة إلى كلمات: عاهرة... عاهرة".
"بالنسبة لهم، كلّ ما تلمسه يديّ نجس".
تصمت خديجة وتتجه إلى المطبخ لتعدّ كوبين من الشاي، ثم تتابع: "كانوا يرفضون حتى أن يأخذوا من يديّ شربة ماء، بالنسبة لهم، كلّ ما تلمسه يديّ نجس".
معاناة خديجة لم تتوقف عند عائلتها، إذ كانت كلما خرجت إلى الشارع بالكاد تستطيع رفع رأسها، بسبب الكم الهائل من الشتائم والسباب الذي تتعرض له يومياً، فضلًا عن التحرّش الدائم بها: "بالنسبة لهم أنا سهلة المنال، ومتاحة للجميع... ذات مرة كنت عائدة مع مغيب الشمس، بعد رحلة بحث طويلة عن عمل، وكانت زقاق الحي مقفر، فجأة خرج أحدهم من أحد الأزقة، وحاول تغيير وجهتي رغماً عني، فما كان مني إلا أن غرزت أظافري في وجهه بكلّ ما أوتيت من قوة وغضب، وهربت، فأخذ يصيح بملء صوته: يلعن *** أمك يا قحبة".
بعد تلك الحادثة، عزمت خديجة على مغادرة الحي الذي كانت تقطن فيه دون رجعة، وقررت الاستقلال عن كل ما له صلة بماضيها، لكن الرياح سارت عكس ما تشتهي سفنها، إذ لم تتمكن من إيجاد عمل يمكّنها من استئجار مسكن ودفع فواتير الكهرباء، واختارت ككثيراتٍ مثلها امتهان الدعارة غير المقننة، لتكون عرضة لدخول السجن مجدداً.
"ربما هذا ما أرجوه الآن... فالسجن أرحم من هذا الكون"، تختم خديجة.
يرفض أرباب العمل توظيف السجينات السابقات، دوناً عن نظرائهنّ الذكور، والشرطة تلاحقهن دون توجيه اتهام، والجيران يعاملونهنّ كعاهرات، تقول إحداهنّ: "حتى عائلتي كل ما تلمسه يدي نجس بالنسبة لهم"
وينصّ الفصل 231 من المجلة الجزائية، على أن النساء "اللاتي في غير الصور المنصوص عليها بالتراتيب الجاري بها العمل، يعرضن أنفسهن بالإشارة أو بالقول أو يتعاطين الخناء ولو صدفة، يعاقبن بالسجن من ستة أشهر إلى عامين، وبخطية من عشرين ديناراً (7 دولارات) إلى مائتي دينار (74 دولاراً)".
وتجد السجينات السابقات صعوبة في العثور على عمل، فأرباب المهن غالباً ما يطالبون، من ضمن الوثائق التي يشترطونها لانتداب أُجَرائهم، بالبطاقة عدد 3، للتثبت من مدى "نصاعة" الملفّ الجنائي لهم.
والبطاقة عدد 3، وفق التعريف الذي تم تضمينه في الفصل 365 من مجلة الإجراءات الجزائية: "تشتمل على بيان المحاكمات التي لم يقع محوها باسترداد الحقوق، أو التي لم يأذن في شأنها الحاكم بتأجيل تنفيذ العقاب، إلا إذا صدر في هذه الحالة الأخيرة عقاب جديد يقضي بحرمان الشخص المعني بالأمر من الانتفاع بالتأجيل".
الوحدة
أمينة (48 عاماً) قضت عشر سنوات في السجن، إثر سرقة مصوغات من منزل مؤجّرتها.
"كنت أقوم بكلّ الأعمال في منزلها، أنظّف، أغسل، أطهو، أربّي أطفالها وأطعمهم، أعتني بحديقتها، وأطعم كلبها بل وأنزّهه أحياناً، وأذهب للإدارات لدفع فواتيرها... كل ذلك مقابل 250 ديناراً في الشهر. طالبتها بزيادة أجري لكنها رفضت، وكنت في حاجة ماسة للمال من أجل معالجة ابني المريض، فلم يبقَ أمامي سوى أن أسرق"، تقرّ أمينة.
وينصّ الفصل 263 من المجلة الجزائية على أنه يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام، مرتكب السرقة، من مستخدم أو خادم لمخدومه، أو لشخص موجود بدار مخدومه.
تشتغل منظفة، بدوام غير مستقرّ ودون عقد عمل.
أمينة، بعد مغادرتها السجن، وجدت نفسها وحيدة بعد أن طلقها زوجها وحرمها من تربية ابنها. اختارت أن تشتغل منظفة، بدوام غير مستقرّ ودون عقد عمل، مقابل أجر زهيد للغاية، لأن عقود العمل تستوجب وثائق رسمية، والوثائق الرسمية تفضح ملفها الجنائي.
"أجد صعوبة كبرى في التعايش مع واقعي الجديد، بالكاد مضى عامان على مغادرتي السجن، لكنني أجد نفسي سجينة أحكام المجتمع، مكبلة اليدين. أحياناً أقبل العمل طيلة 12 ساعة في اليوم مقابل 5 دنانير فقط (1.85 دولاراً)"، تقول أمينة متنهدة: "المجتمع لا يرحم ولا يعطي لأمثالي فرصة ثانية، بل إنه يدفعنا إلى اقتراف أخطاء أكبر من السابق... ما الذي يمنعني اليوم من السرقة مجدداً بربّك؟".
حياة تشبه الأفلام
لا تختلف معاناة خديجة وأمينة كثيراً عن معاناة سارة (31 عاماً)، التي قضت أكثر من 7 سنوات في السجن بتهمة ترويج المخدرات، وغادرت منذ 4 سنوات، لكنها لا تزال إلى اليوم تعاني من خلفيات دخولها السجن.
"لن أبرّئ نفسي، وأقرّ بأنني أخطأت سابقاً عندما كنت أروّج للمخدرات، كنت صغيرة وأغوتني المغامرة، وأردت عيش حياة تشبه الأفلام، لكنني الآن تغيرت وأريد طيّ صفحة الماضي والمضيّ قدماً. إلا أن واقعنا، شئت أم أبيت، يحول دون ذلك".
تزفر سارة، وتضيف لرصيف22: "انتقلت للعيش في منطقة جديدة، وغادرتُ كلّ ما كان يربطني بماضيّ، ورغم ذلك، كلما تقوم قوات الأمن بحملات مراقبة وبحث عن مروّجين محتملين للمخدرات، يداهمون مقرّ سكني أينما كنت، على فرضية أنني من الممكن أن أكون عدت للترويج من جديد".
المداهمات الأمنية المتكررة لحياة سارة، لم تؤثر على حياتها هي فحسب، بل ألحقت ضرراً كبيراً بعائلتها، فعقب إحدى المداهمات، أصيب والدها بجلطة أقعدته، فضلاً عن أن كل مداهمة جديدة تجعلها لقمة سائغة في أفواه جيرانها الجدد، ما يدفعها للانتقال من جديد في كل مرة، وهكذا دواليك.
الوصم للسجينات الإناث
الخبير في علم الاجتماع، ممدوح عز الدين، يؤكد لرصيف22 أن "كل شخص يدخل السجن معرّض للوصم الاجتماعي"، مضيفاً: "لا زالت عقليتنا تعتبر أن السجن هو (خارج المجتمع)، وتعتبر أن السجن يضمّ الناس الذين يرفضهم المجتمع".
ويتابع في السياق ذاته: "الوصم الاجتماعي يرتبط بكل من يدخل السجن حتى لو كانت المدة التي قضاها قصيرة، ومهما كانت القضية التي حُوكم لأجلها"، مستطرداً: "الوصم يمسّ السجينات الإناث أكثر من المساجين الذكور، لأن العقلية المجتمعية هي للأسف عقلية أبوية وذكورية، ترى أن الأنثى يجب أن تكون دائماً تحت سلطة الذكر، والخروج عن سلطة الذكر هو نوع من أنواع التمرد عليه، وشكل من أشكال الانحراف القيمي باعتباره خارج القيم الذكورية، قبل أن يكون انحرافاً اجتماعياً باعتبارها انخرطت في (الجريمة)".
"ذات ليلة خرج أحدهم من أحد الأزقة، وحاول تغيير وجهتي رغماً عني، فغرزت أظافري في وجهه بكلّ ما أوتيت من قوة، وهربت، فصاح: يلعن *** أمك يا قحبة"
وعن تداعيات ذلك، يقول الباحث في علم الاجتماع: "غالباً ما يكون عدد النساء السجينات أقلّ بكثير من عدد الرجال المساجين، لكن لو نقارن الوصم الاجتماعي نجد الإناث يتضرّرن أضعاف الرجال، وتبعات ذلك تتجلى أُسرياً، فمثلاً لو كانت السجينة أماً، فهي تحرم من تربية أبنائها، بما أنها أصبحت من المنظور المجتمعي (منحرفة)، فتُسقَط عنها مهمة التربية، وتصبح غير مؤهلة لأن تكون قدوة لأبنائها. أما على مستوى الاندماج في المنظومة الاجتماعية والمهنية، تلقى السجينة المحررة صعوبات كبيرة في الانخراط من جديد فيهما، لأنها امرأة و(سجينة سابقة)".
"المرأة عندما تخطئ فإن خطأها لن يغتفر".
ويوضح عز الدين في هذا الإطار: "في المفهوم التونسي، هناك مثل يقول (الحبس للرجال) وأن الرجل مهما أخطأ فإنه عندما يخرج من السجن سيصلح من نفسه، وإمكانية مسامحته وغفران أخطائه ممكنة، لكن المرأة عندما تخطئ فإن خطأها لن يغتفر، وتسقط قيمتها بنظر المجتمع، يُنظر إليها نظرة تحقيرية ودونية، تصبح محل وصم اجتماعي وحظوظها في الاندماج من جديد في المجتمع صعبة، وتصبح صورتها مشوهة ومن الصعب إعادة ترميمها، كعود الكبريت الذي إذا اشتعل مرة، ينتهي دوره".
"هذه هي صورة المرأة في المجتمعات ذات العقلية المشرقية الذكورية"، يردف الخبير الاجتماعي، مؤكداً أن "الرجل التونسي، والشرقي عموماً، لديه ازدواج في الشخصية: هو من ناحية يحاول الدخول في الحداثة وتبنّي القيم الحداثية، التي تحرّر المرأة من كل مكبلات المجتمعات التقليدية، لكنه في المقابل، عندما يتعلق الأمر بـ (المرأة القريبة)، أي الزوجة، الأم، الأخت أو ابنة العم، يتذكر حينها أنه رجل (شرقي) ذو عقلية مبنية على الصرامة والشدة والمراقبة الدقيقة لسلوكها وتصرفاتها، وأي سلوك فيه شكّ، يصبح نوعاً من أنواع الوصم ضدها"، وفقاً لتقدير عز الدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...