شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"لن أترك وظيفتي بسبب مجتمع ذكوري تافه"... تونسيات يعملن حتى بعد منتصف الليل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 22 نوفمبر 202003:29 م

عند الساعة الثامنة مساء ترتدي منال (28 عاماً) ملابسها، تضع آلة التسجيل في حقيبتها ثم تنطلق لتغطية إحدى الفعاليات الثقافية، فهي تعمل صحفية بإذاعة محلية، وقد كلفها مدير عملها بتغطية بعض الأحداث الليلية، من مهرجانات وأنشطة وسهرات فنية.

منال مولعة أيما ولع بعملها، ولا يهمها إن كان ليلاً أو نهاراً، لكنها مستاءة من نظرات المجتمع للنساء العاملات بالليل، فهي تتلقى شتى أنواع التنمّر، والتساؤلات الاستنكارية من الجيران، حتى إن إحدى جاراتها تراقبها كلما خرجت من البيت ليلاً، وتنتظر عودتها.

تقول منال لرصيف22: "تضايقني كثيراً عيون المراقبة التي تحيط بي، كلما خرجت ليلاً للعمل، فلا أسمع سوى همس وهمز ولمز وكأنني ارتكبت جرماً، حتى إن صاحب البيت سألني يوماً عن سبب خروجي الليلي الذي حدثته عنه إحدى الجارات، ولم يصدقني إلا عندما استظهرت ببطاقتي المهنية".

"نأكل الخبز المرّ"

تفرض بعض المهن مزاولة العمل ليلاً في قطاعات حيوية، كالطب والتمريض والإعلام والشرطة وغيرها، والتي يزاولها الرجال والنساء على حد سواء، لكن النساء العاملات بالليل لا يجدن أنفسهن في نفس الكفة مع زملائهن الرجال، فميزان المجتمع التونسي غالباً ما يميل لكفة الرجل.

تقول سهير (30 عاماً) تعمل ممرضة بأحد المصحّات بتونس، إنها تتعرض لأنواع من التنمر بسبب مهنتها، تعمل ليلاً وتعود صباحاً، لم تقع عينها على أحد إلا ويرشقها بنظرات حادة تصفها بالعبثية. تقول: "نحن نعمل لنأكل خبزاً كما يقول المثل، لكنه خبز مر".

"أخي الأكبر ينتظر عودتي في الثانية ليلاً، ليلقي عليّ درساً في الأخلاق، ويقدح في عملي، ويتوعد بأن يجعلني أتركه، وغالباً ما ينتهي نقاشنا بشجار أو ضرب أحياناً"

"في الأيام العادية أحرص على العودة باكراً إلى منزلي، لكن في فصل الصيف أضطر للعمل ليلاً لتغطية فعاليات المهرجانات الصيفية في العاصمة تونس وخارجها، فأعود إلى البيت الساعة الثالثة أو الرابعة فجراً"، تقول زينة، صحفية بموقع إلكتروني، لرصيف22.

تضيف زينة: "أشعر بالخوف والخجل وأنا أنزل من سيارة العمل أمام منزلي، لأنني أعرف أن جارتي تراقبني كالعادة، وتسترق النظر من وراء نافذتها، فهي لا تعرف أنني أعمل صحفية، ولكنها تعلم جيداً أنني فتاة عزباء تعيش وحدها وتعود إلى المنزل متأخرة".

تتابع زينة، وعلامات الاستنكار على محيّاها: "ليست جارتي فقط من تراقبني، فشباب الحي الذي أسكنه يبقون عادة ساهرين أمام منازلهم إلى ساعة متأخرة، وكلما نزلت من سيارة العمل أسمعهم يتهامسون ويقهقهون، حتى إن أحدهم قال لي يوماً: تعالي أكملي السهرة معنا... وهو يضحك بصوت عال".

"لن أتزوج امرأة عاملة"

تنظر بعض الشرائح الاجتماعية في تونس، خاصة المغرقة في النزعة المحافظة، إلى عمل المرأة بصفة عامة أنه عيب، وأن مكانها الطبيعي هو المنزل والطبخ وتربية الأطفال، فما بالك إن كان هذا العمل ليلاً، بل ويصل الأمر ببعض الذكور إلى اعتبار عملها هو سبب تفشي البطالة في البلاد.

يقول حاتم (27 عاماً) نادل بمقهى: "إن مكان المرأة الطبيعي هو المنزل، فقد سيطرت على جميع مواطن الشغل في البلاد، من صحة وتعليم ومؤسسات عامة وخاصة، وهو ما ساهم في ارتفاع ظاهرة البطالة في صفوف الرجال، جعل حياتهم صعبة وباتوا غير قادرين على تأمين وبناء حياة أسرية".

وأضاف، معبراً عن رأي ذكوري شائع في تونس: "كل الرجال، خاصة الجامعيين، عاطلون عن العمل بسبب النساء اللواتي احتللن كل أماكن العمل، وزاد خروجهنّ للعمل ليلاً من تدهور الأمور إلى الأسوأ".

ويشدد حاتم قائلا لرصيف22: "أرفض أن أتزوج بامرأة تعمل، لا نهاراً ولا ليلاً، لا يتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا".

رأي حاتم وموقفه من عمل المرأة بشكل عام، خاصة عملها ليلاً، هو نموذج مصغر عن شريحة كبيرة من مجتمع ذكوري، لم تتعد نظرته لقيمة المرأة باب البيت، ولا يعترف بحقوقها ولا حرياتها ولا مساواتها معه، كعنصر فعال ومهم في الأسرة والمجتمع.

"أخي الأكبر ينتظر عودتي"

لا تواجه المرأة العاملة في الفترات المسائية فقط نظرات شباب الحي والجيران، ولكن داخل بيتها تقع معركة أخرى مع ذكور عائلتها.

تقول حنان (34 عاماً)، تعمل معدة برامج تلفزيونية، ويتطلب عملها الحضور ليلاً، لرصيف22: "أعمل ليلتين فقط في الأسبوع، لكني في كل مرة أحس بضغط كبير، فأخي الأكبر ينتظر عودتي في الثانية ليلاً، ليلقي عليّ درساً في الأخلاق، ويقدح في عملي، ويتوعد بأن يجعلني أتركه. وغالباً ما ينتهي نقاشنا بشجار أو ضرب أحياناً. أعاني الأمرين، لكني لم ولن أستسلم لمجتمع ذكوري تافه، وأترك عملاً طالما حلمت به".

"يعتقد بعض الجيران والأقارب أن عملي ليلاً هو تمرد على العادات والتقاليد، وأنني خالفت تربية أهلي لي"، تقول ليلى (29 عاماً) من سوسة، تعمل في مطعم ليلي، وعلامات الإحباط على محيّاها، وتضيف: "أريد فقط أن يوضع هؤلاء في محلي، وأن يصل بهم الأمر إلى عدم قدرتهم على دفع إيجار البيت أو فاتورة الكهرباء والماء وثمن دواء والدي المقعد، لنرى حينها هل سيهتمّون إن كان العمل ليلاً أم نهاراً، وكما يقول المثل: ما يحس الجمرة كان إلي يعفس عليها".

"عمل المرأة الليلي مرفوض"

يشير سامي بن نصر، مختص في علم النفس الاجتماعي إلى تغير حدث في نظرة المجتمع الذكوري التونسي لعمل المرأة بشكل عام، ففي الماضي كانت غالباً ما تكون سلبية، يقول: "في مسألة العمل مثلاً كان عمل المرأة مرفوضاً اجتماعياً، حيث كانت تعتبر "مسترجلة" أو "فاجرة" و "ليس عليها رقيب"، ومع مرور الوقت تقلصت تلك النظرة السلبية للمرأة العاملة بصفة عامة، بسبب الواقع الاقتصادي الصعب الذي فرض عمل المرأة".

"كلما نزلت من سيارة العمل بعد منتصف الليل، أشعر بعيون جاراتنا تراقبني، وأسمع شباب الحي الساهرين يتهامسون، قال لي أحدهم: تعالي أكملي السهرة معنا، وضحك بصوت عالي"

ولكن تلك التغيرات لم تطل كل شيء، فلا يزال العمل الذي يتطلب حضور المرأة ليلاً، والمهن الليلية بالأساس، لا يلقى قبولاً. يقول: "تبدأ نظرات الاحتقار وعدم الثقة بالنساء العاملات بالليل باعتبار الليل هو الفترة الزمنية الأسهل للمخالفات، على غرار التحرش والجرائم وغيرها، لكن الإشكال يظل قائماً حتى وإن توفرت وسائل الحماية، في ظل عقلية التشكيك وقلة الثقة وسوء الظن التي يتسم بها المجتمع التونسي".

وعن تأثير ذلك على صحة المرأة النفسية، وتقديرها لذاتها وعملها، يقول بن نصر: "العمل الليلي مرفوض اجتماعياً، نعم هو ليس جريمة يعاقب عليها القانون، تماماً كالرفض الاجتماعي للنساء المدخنات، ولكن هذا الرفض جريمة في حق المرأة لما له من أثر نفسي، فهي تحس بعدم تكافؤ الفرص بينها والرجل، وتتقلص ثقتها بنفسها، خاصة إذا حرمت من العمل، فتلك أكبر عقوبة، لأن العمل ليس لغرض مادي فقط إنما هو أهم مجال لتحقيق الذات. ثم أن الاتهامات الباطلة والتشكيك في سلوكياتها، وكرامتها له تأثير نفسي حاد على المرأة، ونحن نأمل أن تتغير نظرة المجتمع لعمل النساء ليلاً كما تغيرت النظرة للمرأة العاملة بصفة عامة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard