"في العامين الأخيرين، كنت أحسّ بحركية كبيرة، وكانت أجواء الاحتفال رائعة، كُنا نشتغلُ بتعب وكد ليلاً ونهاراً لنوفر المال للسفر نحو تاغيت وبني عباس بمُحافظة بشار (ولاية جزائري تقع في الجنوب الغربي) أو المُحافظة الجديدة تيميمون وجانت وتمنراست، كنا نغادرُ أفواجاً مُهندسين وأطباء، للاحتفال بالليلة الشيطانية"، يتذكر وليد (شاب جزائري في العقد الرابع من عُمره) احتفاله العام الماضي برأس السنة الميلادية بكثير من الأسى والحنين.
"ممنوع منعاً باتاً"
يروي وليد، الذي يقطنُ في حي "لاس فيغاس" الشهير في منطقة حيدرة بأعالي العاصمة الجزائرية، لرصيف22: "أذكرُ ليلة السادس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عندما كُنتُ أحزم حقائبي، لم أستطع أن أنام تلك الليلة من شدة الفرح بقضاء الليلة الأولى من العام الجديد، رفقة أصدقائي في صحراء في مدينة "تاغيت"، مليئة بالكثبان الرملية، متموجة، ذهبية اللون، مائلة إلى الاحمرار".
وقد أعلن رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية تاغيت بالصحراء الجزائرية، عن إلغاء كل النشاطات المتعلقة بالاحتفال برأس السنة الميلادية، كما تم إلغاء كل الحجوزات من قبل الوكالات السياحية تفادياً لانتشار وباء كورونا.
في ظل إلغاء الدولة لاحتفالات أعياد الميلاد، وعلو صوت المحافظين، الذين يحرّمونها، يحتضن وليد كتاب "يوم رائع للموت" وحيداً، منتظراً حلول منتصف الليل
وقال رئيس المجلس في بيان تناقلته وكالات إخبارية: "في إطار مواصلة الإجراءات الخاصة بمحاربة وباء كورونا، ومن أجل الحد من انتشار هذا الوباء الفتاك، يبلغ إلى جميع من يهمه الأمر بأن النشاطات ذات الطابع الجماهيري المعتاد تنظيمها عند نهاية كل سنة، ممنوعة منعاً باتاً".
عيد ميلاد حزين
يؤكد وليد، الذي كان يتحدث ولديه حنين إلى الماضي الجميل، إذ لم يكن كورُونا موجُوداً، "أن ظروف الاحتفال مُغايرة، ففي كُل يوم نسمع عن موت أحدهم صديق قريب أو بعيد ما يجعلنا نُودعُ 2020 على فُراق الأحباب، فرائحة الموت تُزكم الأنُوف في المنازل التي ضربها كورونا، وتحرق العيون، وتُلجمُ الصُدور".
ويُتابع: "حتى شوارع الجزائر العاصمة التي كانت السنة الماضية تكتسي اللونين الأحمر والأخضر على غرار شارع ديدوش مُراد"، المتفرع من كنيسة "القلب المُقدس"، ويمتدُ من مبنى البريد المركزي، أحد أبرز معالم الجزائر العاصمة والكنيسة، ويمر على مبنى الجامعة المركزية، وساحة موريس أودان يُخيم عليها صمت فتاك، الكُل يسير بسرعة وحذر خوفاً من الإصابة بالوباء، وترقباً لتقارير وزارة الصحة حول آخر إحصائيات ضحايا وباء كوفيد 19.
يعني هذا أن السماء لن تتلون بالألوان عندما تدق الساعة مُعلنة انتصاف الليل.
حتى الفنادق التي تعج عادة في هذه الليلة بشباب من كلا الجنسين لإحياء حفلة رأس السنة، التي تُعدُ الموسم الأكثر ربحاً للفنادق والفنانين، ستكون خاوية بسبب تزامن الاحتفالات مع قانون الحجر الصحي، المعمول به حالياً، والذي يفرض حظر التجوال من الثامنة مساءً إلى الخامسة صباحاً، ويعني هذا أن السماء لن تتلون بالألوان عندما تدق الساعة مُعلنة انتصاف الليل وحلول السنة الميلادية الجديدة، التي ستفتح فيها البشرية صفحة جديدة، فكُلُ شيء سيتوقف في هذه الليلة بحلول الساعة الثامنة مساءً حتى صباح الفاتح من يناير/ كانون الثاني.
وأثارت هذه القرارات غضب ناشطين في هذا المجال، خاصة أنهم كانوا يعولون على عطلة نهاية السنة لتعويض الخسائر الكبيرة، التي تكبدوها بسبب جائحة كورونا، وتعليق الرحلات الجوية الدُولية، مُنذُ قرابة تسعة أشهر، ما عطل حركة تنقل السياح الجزائريين والأجانب.
وبدت المحال الكُبرى وسط العاصمة الجزائرية خاوية. يقول حليم (35 عاماً) وهو صاحب متجر لبيع القطع والتحف الأثرية في شارع موريس أودان، أن محلهُ شاهد على أحد أسوأ المواسم التي تنتعش فيها التجارة.
ويضيف، وهو جالس على كرسيه الخشبي أمام باب محله العتيق: "أقضي طوال اليوم مكتوف اليدين، أنتظر ولوج سياح محليين، لكن لا يوجد زوار إطلاقاً رغم تزامن هذه الفترة مع حلول العام الجديد".
وبسبب إلغاء جميع الاحتفالات والتجمُعات في رأس السنة بسبب كورونا، قرر السيد مُحمد (60 عاماً)، التمسك بالاحتفال رُفقة عائلته الكبيرة رُغم القُيود المفروضة، ويقول لرصيف22 إنه سيحتفل بحلول العام الجديد رفقة عائلته، فزوجته ستحضر طبق الكسكس بالخضر باللحم والخضر، الذي سيجمعُ أفراد العائلة على طاولة واحدة، ويُناسب الليالي الماطرة التي تشهدها الجزائر هذه الأيام.
ويُتابع مُحمد: "قُمت بحجز طلب لاقتناء كعكة لابيش وشجرة الميلاد المُضاءة، وكتبت فوق قصاصاتها أحلاماً وأمنيات وآمالاً، ونحن ننتظر وصول أولادنا وأحفادنا للاحتفال معاً بحلول العام الجديد، نتقاسم الأمنيات والأحلام والنصائح، وسط جو عائلي (بعيداً عن الصخب) يدعو للبهجة، والفرح بتوديع سنة 2020، التي كانت صعبة بكل المعايير، وفتح صفحة جديدة قد لا يكون كورونا موجوداً فيها".
"الأفران لا تبيع كعكات العيد"
وبقدر ما شكلَ قرار إلغاء الاحتفالات برأس السنة غصّة عند الذين اعتادوا الاحتفال بهذا اليوم، أثار القرار بهجة الذين لا يحتفلون بهذه المُناسبة، وهُو ما يُؤكدهُ محمد آدم، وهو شيف مُتخصص في صناعة الحلويات. يقول لرصيف22: "هذه الاحتفالات لا علاقة لها بعادات وتقاليد الجزائريين، ولا يجنون منها شيئاً".
وبدا عدد كبير من أفران المُعجنات التي زرناها في الضاحية الشرقية بالجزائر العاصمة خاوياً، وكأننا لسنا على أبواب سنة جديدة، حتى تلك التي تزيّنت بشجيرات يتيمات، وكعكعات الميلاد، فعدد زوارها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة لعدة أسباب، يذكرُ منها محمد آدم ارتفاع أسعار كعكة "لابيش"، الأكثر انتشاراً في مُعظم محال بيع الحلويات بالجزائر، إذ بلغ سعرها 7500 دينار (ما يقارب 100 دولار)، فقطاع عريض من الجزائريين يعيشون ظرُوفاً معيشية صعبة، بسبب جائحة كورونا، وتهاوي قيمة العملة المحلية، التي تشهد تآكلاً مطرداً في قيمتها في التعاملات الرسمية أمام العملات الأجنبية الرئيسية، لا سيما الدولار واليورو.
ويعتقدُ آدم أن الاحتفال برأس السنة الميلادية "عادة مستوردة من الحضارة الغربية، والأصل هو احتفال المسلمين بالمناسبات الدينية المعروفة على غرار شهر رمضان وعيد الفطر والأضحى".
الأفران لن تبيع الكعك، والسماء لن تتلوّن بالألوان عندما تدق الساعة مُعلنة انتصاف الليل، ولن يتبادل الناس التهنئة في الشوارع
ويقول آدم، معبراً عن رأي شائع وسط محافظين متدينين في الجزائر: "لا يجوز شرعاً الاحتفال برأس السنة، ولا حتى التهنئة بهذه المناسبة، لأنه لا نعلم لها أصلاً عن "السلف الصالح"، ولا شيئاً من السنّة يدل على شرعيتها".
ويرى آدم أن نطاق الاحتفالات بهذه المناسبة قد تقلص كثيراً في السنوات الأخيرة، خاصة في المناطق المُحافظة، فالحياة تكون جد عادية عشية حلول السنة الجديدة، حتى الأفران لا تبيع كعكات الميلاد، ولا أحد يُهنئ الآخر بحلول عام جديد.
ومع اقتراب حلُول السنة الجديدة، ظهرت مُجدداً دعوات (يقودها رجال دين ومتدينون محافظون) على مواقع التواصل الاجتماعي، تُحرم الاحتفال بهذه المناسبة، وتعتبر إحياءها "بدعة وتقليداً للغرب"، ويدعون الناس إلى الصلاة والدعاء.
يقول نقيب الأئمة الجزائريين جلول حجيمي لرصيف22: "القربات، والطاعات في هذه الفترة مهمة للغاية (في إشارة إلى وباء كورونا)، ونحن بحاجة ماسة إلى تجسيدها في أرض الواقع".
ويُضيفُ: "نحن في حال نازلة عظمى تأثر بها العالم بأجمعه، وكلما كانت القرابات والطاعات فإن للدعوات خصوصيات في استجابة الدعاء ورفع البلاء".
لا يتفق وليد مع هذا الرأي، ولكنه خطط بديلاً عن الاحتفال المعتاد في هذه الليلة، أن يقضيها وحده في غرفته، يقول: "سأكون تلك الليلة في غرفتي المُتواضعة، أحتضن روايتي المُفضلة "يوم رائع للموت"، منتظراً أن تدق ساعة منتصف ليل الخميس لحلول السنة الجديدة، بعد أن ألغت السُلطات الجزائرية احتفالات نهاية السنة في الصحراء الجزائرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...