ثمة تغيرات كثيرة طرأت على بيوتنا هذه السنة (2020)، إذ لم يعد تحويلها إلى مكان آمن مجرد رفاهية أو اختيار شخصي في زمن الجائحة التي أقعت ملايين البشر في مساكنهم دون أن يبرحوها. في هذا الواقع، اضطر الجميع لخلق سفينة نجاة صغيرة ودافئة بمساحة العائلة، يجتمع فيها الكبير والصغير، علّ المتمسكين بالحياة أن ينجوا من خلالها.
مع بداية العام الجديد، وأعياد الميلاد بدّل بعض أقباط مصر دلالة بيوتهم، فبعدما كانت ملجأً للعُزلة السلبية، أصبحت مساحة للعمل، والالتقاء بالأصدقاء أو لتبادل الزيارات الأسرية الحميمة، وتم تجهيزها كأماكن للاحتفالات بالمناسبات السنوية، وتسجيل الذكريات والتفاصيل الفريدة، التي شاركها المحتفلون مع أصدقائهم على منصات التواصل الاجتماعي، مؤكدين أن الاضطرار إلى الوجود في مكان واحد قد يكون فرصة ذهبية لاختبار مشاعر أسرية، كانت منسية بفعل الانشغالات.
"أجمل عيد"
تعيش السيدة أمينة أباظة في القاهرة نمط حياة لا يشبه الكثيرين، لا تقتصر صداقاتها على البشر فقط، كونها صاحبة جمعية "سبير"، التي تعد أول ملجأ لرعاية حقوق الحيوان في مصر، تضطر إلى التنقل بين منطقتي سقارة حيث تعيش الحيوانات وبين بيتها في الزمالك، حيث يعيش زوجها رجل الأعمال رؤوف، بالإضافة إلى المساعدين: عماد السكرتير، والسيدة سيسي مديرة المنزل، وسيد الطباخ، وكلبين، وقطة.
"كان أجمل عيد مر علينا"، هكذا قالت أمينة لرصيف22، موضحة أن فترة البقاء في المنزل جعلت العيد بسيطاً وغير مكلف، لكنه دافئ وإنساني، وأصبح التواصل أكثر قرباً وصدقاً حتى مع نفس الأشخاص الذين اعتادت رؤيتهم.
"الفارق الوحيد أنّ كبار السن أصبحوا أكثر رضىً باقترابنا منهم، وإقامتنا فترة طويلة معهم"
"أحضرنا هدايا بسيطة جداً، لا تتطلّب التسوق والكثير من البحث، أجندات صغيرة من المكتبة، قطع من الشوكولاته، ومظروفات جهزناها أنا وزوجي وكتبنا عليها اسم كل عامل مساعد معنا"، تضيف أمينة.
خلطة سحرية وصفتها لنا أمينة لإضفاء أجواء البهجة على العيد، الذي احتفلت به مع الكنيسة الغربية مساء يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر، تقول: "تذكارات بسيطة كانت كفيلة برسم ابتسامة لا تُنسى على وجوه الجميع، أعددنا أطعمة ومشروبات، وتورتة ملونة بالأحمر لتناسب أجواء الكريسماس، وأضأنا شجرة الميلاد".
"في صحة العام الجديد"
في بوزنان ببولندا تستمر احتفالات الكريسماس ثلاثة أيام متتالية، بدأت يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر وتنتهي في 25 منه، والاحتفال في المنزل هو ما ألفه الشاب الثلاثيني مينا عادل، المصري المنشأ، والمهاجر مع زوجته البولندية فيرونيكا، وابنهما الصغير كيرستوفر.
يقول مينا: "تعودت قضاء العيد في بيت أهل زوجتي، وإخوتها وأبنائهم، وهذا العام بكل ما فيه لم نجعله يختلف كثيراً عن الأعوام السابقة، كنا نشعر ببعض الخوف من التجمع مع كبار السن، لكننا قررنا في النهاية ألا نضيّع فرصة كهذه دون طقس التجمع العائلي".
عادة مميزة في السفرة البولندية التي تلتف حولها العائلة، يضعون 12 طبقاً، على عدد أشهر العام، ويبدأون بتناول الطعام تزامناً مع ظهور أول ضوء نجمة في منتصف كل ليلة من الليالي الثلاث، يقول مينا لرصيف22: "لا مانع من شرب القليل من النبيذ المعتق في وداع عام وصحة استقبال آخر جديد".
البقاء في المنزل، والالتفاف حول مشاهدة القداس في القنوات الدينية المسيحية كانت وسيلة مينا وأسرته للاستمتاع بالعيد بدلًا من الذهاب إلى الكنيسة، في النهاية لم يختلف الأمر كثيراً، بل كانت نفس المشاعر الإيجابية والإنسانية للعيد موجودة هذا العام، الفارق الوحيد أن "كبار السن أصبحوا أكثر رضىً باقترابنا منهم، وإقامتنا فترة طويلة معهم".
التكنولوجيا وأزمة التواصل
يلتف الشاب الثلاثيني، مايكل صفوت، مدرس الموسيقى، وزوجته دينا سمير، مدرسة الفنون، وابنهما الصغير يوحنا بداية كل عام (منذ سنوات الزواج الأولى) في بيت خال مايكل، ومثلهم مثل الأقباط المسيحيين من طائفة الأرثوذكس الذين تمتد أيام صومهم حتى يوم 7 كانون الثاني/ يناير، يمتنعون عن اللحوم ومشتقاتها، يتناولون وجبات السمك والجمبري والأرز والطحينة بداية العام الميلادي الجديد، ويؤجلون الديك الرومي وأصناف اللحوم إلى مساء 6 كانون الثاني/ يناير.
"الجائحة جاءت لتغير هذه المفاهيم".
"الجائحة جاءت لتغير هذه المفاهيم، وتعطي بعداً آخر لشكل الاحتفالات"، يقول مايكل في منطقة النزهة الجديدة في القاهرة لرصيف22.
ويضيف مايكل، موضحاً: "كنا نجتمع في بداية رأس السنة من كل عام عند خالي، كونه الأكبر سناً في العائلة، ونقضي يوماً عائلياً ملتفين حول سفرة السمك والطعام الشهي (الصيامي) المسموح به في صوم الميلاد، لكن في عام الكورونا لم نجتمع خوفاً على كبار السن في العائلة وهم الأغلبية".
كبار السن في عائلة مايكل ودينا لا يكترثون لمثل هذه الاحتياطات الوقائية، ولا ينشغلون بنصائح نشرات الأخبار، وتحذيرات الأطباء، يقول مايكل: "لديهم تصالح روحاني مع الحياة، فهم يرغبون في لقائنا أياً كانت الظروف"، ويضيف: "لكننا كشباب في العائلة قررنا ألا نجتمع العام الماضي في بيت خالي خوفاً على صحة الكبار، وفي الغالب لن نجتمع هذا العام أيضاً".
حلت البدائل الإلكترونية مثل برنامج زووم كبديل عن التجمعات الواقعية، يقول مايكل: "اجتمعنا العام الماضي أونلاين، لقضاء وقت ممتع مع كبار العائلة، نحكي فيه عن السُفرة التي جهزتها كل أسرة، وحاولنا تعويض غيابنا الحقيقي من خلال التكنولوجيا الحديثة، والكاميرات التي تنقل كل شيء".
يعتبر مايكل أن التكنولوجيا ووسائل الاتصال بمثابة "نعمة حقيقية" في عصر الجائحة، فهي المنفذ الذي يبقي الأفراد قريبين على الرغم من المسافات والإجراءات التي أبقت الجميع في البيوت فترات طويلة.
وجه أجمل للبقاء في المنزل
تحتفل ميرهان وليم، مهندسة مدنية، ومدرسة مساعدة بكلية الهندسة قسم التشييد، هذا العام مع زوجها رامي عياد مهندس الكهرباء، بالعام الأول لطفلهما دانييل، "الاحتفال له طعم مختلف، كل تركيزنا هو على ترك ذكريات حلوة لأول كريسماس لدانييل"، تقول ميرهان. وتضيف: "العام الماضي احتفلنا بشكل طبيعي، لم نشعر بأن الظروف اختلفت، قضينا وقتاً مع العائلة، ووقتاً آخر في نزهة خارج البيت، أما هذا العام فنحن حريصون على البقاء في البيت، لكن كل تفكيرنا في إسعاد طفلنا، لذا أحضرنا له ملابس بابا نويل، والتقطنا له مقاطع مصورة مع شجرة الكريسماس، ونجهز لتحضير سفرة جمبري وسمك".
عادة لم تتغير في حياة ميرهان سواء قبل الجائحة أو بعدها، وهي مشاهدة فيلم "home alone"، تقول: "الفيلم بمثابة الراعي الرسمي للاحتفالات بالكريسماس"
هناك عادة لم تتغير في حياة ميرهان سواء قبل الجائحة أو بعدها، وهي مشاهدة فيلم "home alone". تقول: "الفيلم بمثابة الراعي الرسمي للاحتفالات بالكريسماس، وبالطبع سأكون حريصة على أن نلتف حوله لمشاهدته مع طفلنا الصغير".
أما غلق أبواب الكنيسة، وعدم إمكانية الذهاب إليها هذا العام لن يكونا أزمة كبيرة في ظل حرص الأسرة على إضافة أجواء روحانية للاحتفال بالعام الجديد، والتجمع الساعة الثانية عشرة ليلاً قبل بداية الساعات الأولى من عام 2021، حول صورة للعذراء وهي تحمل السيد المسيح، وأنوار خافتة مع إشعال شموع صغيرة، والوقوف للصلاة على مرور العام الماضي بسلام، تقول ميرهان: "سنصلي هذا اليوم لتكون 2021 سنة التعويضات والفرح والسلام للجميع، وأن يمد الله يده لشفاء المرضى ويحن على المتضايقين".
لن تنسى ميرهان معايدة جدّي دانييل وجدّتيه هاتفياً، والدردشة حول طرق احتفاء الجميع في بيوتهم مع الاطمئنان على صحة الكبار، الذين منعتهم الإجراءات الوقائية من حضور المناسبة السعيدة كما كان يحدث كل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...