شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عندما اعتقد أبي أنني من أدخل فيسبوك إلى البلد

عندما اعتقد أبي أنني من أدخل فيسبوك إلى البلد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 17 سبتمبر 202003:55 م


ما الذي يعنيه أن يقوم والدك بعمر الـ 70 بتقطيع الفاكهة لك وكأن هذا كل ما يملكه ليخبرك به أن الحب الذي لم يبح لك به طوال ربع قرن من عمرك، وجد طريقة للإفصاح عنه الآن، طريقة تجعلك تعيد التفكير في كل ما خططت له لمستقبلك مرة جديدة. 

سفرك بعيداً عنهم، زياراتك القليلة لهم، روتينهم القاتل الذي يجعل من مجيئك حدثاً مهماً لم تكن له أي قيمة في يوم من الأيام، العمر الذي يمضي يؤكد أن الحب الذي يملكونه تجاهك يجعلك مسؤولاً عن استقباله، ولو على حساب أي تفصيل آخر في حياتك. الأهل هم السبب في بقائك وعدم سفرك في اختيار أي فرصة تخرج منها بأقل الخسائر تجاههم. كثيرة هي العقبات، تكاد لا تحصى، لكن العقبة التي يصنعها الأهل هي لعنتهم التي لا يستطيعون التحكم بها، يتلونها عليك دون أن يعرفوا أثرها.

من حيث اللعنات عبر الزمان، كان هنالك أشياء يتم الوقوف عندها مطولاً، منها ما هو من الضروري البحث فيها، ومنها لم يقدم تجاهنا أي شيء ذي قيمة.

وعندما يتقدم العمر بك، تبدأ بالتفكير بخياراتك، تعود بها للأسباب التي كانت تبنى عليها، بداية من ميولك الرياضية وانتهاء بقراراتك المستقبلية، موسيقاك المفضلة، أو ربما أبسط التفاصيل، كطريقة تجاوزك الشارع.

الأهل هم السبب في بقائك وعدم سفرك في اختيار أي فرصة تخرج منها بأقل الخسائر تجاههم. كثيرة هي العقبات، تكاد لا تحصى، لكن العقبة التي يصنعها الأهل هي لعنتهم التي لا يستطيعون التحكم بها، يتلونها عليك دون أن يعرفوا أثرها

هل فكرت في العائلة كـ "لعنة"؟! 

 لطالما قالوا لنا في سنوات مدرستنا، أنّ "العائلة هي المصدر الأول للتلقي". كانت رؤوسنا تبنى بالإيجابية تجاه هذه المؤسسة التي تتشكل جميع قوانا داخلها، ولا مجال للخطأ فيها، وكأنها أحد الكتب السماوية، لكنها غير منزلة أو صادرة عن أحد، بل هي مجموعة أفعال تكتسبها، مشتركة في أغلبها بين جميع الناس، تختلف في الانتماء.

أو لربما ارتباط هذا المفهوم بالأشياء والأفعال السيئة، لذا قد تجعل من العائلة قيمة بعيدة عن أي شي سيء، كونها الصورة الإيجابية الوحيدة في الحياة.

أبي لا يعرف شكل فيسبوك

الساعة الثالثة ظهراً موعد مجيء والدي من العمل، الغداء، قيلولة الظهر، الرياضة، نشرة أخبار الثامنة والنصف، جولة في التلفزيون والنوم أخيراً. 

هذا هو برنامج أبي لمدة ثلاثين عاماً قضاها موظفاً في إحدى مؤسسات الدولة في سورية، هذا هو الروتين الذي اختاره أبي ليخرج بأكبر قسط راحة كان متخيلاً له.

خلال الثلاثين عاماً هذه، تغيرت وتبدلت أمور كثيرة، تخرج أخوتي الثلاثة من جامعاتهم، اكتسبوا صفات جديدة، حرب تموز، غزو العراق، عدة دورات لكأس العالم، العديد من الأحداث والتواريخ، ومع ذلك لم يتغير أبي يوماً. 

دخل فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي لحياتنا السورية، بعد أن كانت محظورة نتيجة لمخاوف من تأثيرات قد تسببها هذه التطبيقات.

 انتشر "البروكسي" في سورية، عناوين مختلفة، أسماء كثيرة وصور عديدة. كانت بداية فيسبوك في سورية مرتبطة فقط بانقسام سياسي حول ما يجري. كان أبي يتابع كل محلل تبثه القنوات... تقديرات وتحليلات أشبه بالخيال... تحذيرات من فيسبوك. أتذكر عند كل كلمة تصدر في أي مكان عن فيسبوك كانت نظرة أبي تنتقل سريعاً لي، وكأنه كان يعتقد أنني أنا من أدخلته إلى البلد، لكثرة الساعات التي كنت أقضيها في مقاهي الإنترنت، أستخدم الأسماء المستعارة وأبحث في خفايا القضايا. 

يوماً بعد يوم، أصبح استخدامي القليل للتلفاز دليلاً أكيداً لأبي أن ما يجري في فيسبوك هو بسببي. حديث المحللين واتهاماتهم كانت تمر من أبي إليّ. كل هذا لم يشعر أبي ولو بلحظة واحدة بالفضول للتعرف على هذا التطبيق. بيومنا هذا أصبح كل فرد في بلدنا لديه فيسبوك، أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة الكائن السوري، إلا أبي... استمر في روتينه. لم يأبه لحديث زملائه عن ماذا أنشر وعن نشاطاتي. كان يحاول الحفاظ على التطبيق الأمثل بالنسبة له، وهو قوله في بداية أي مكالمة يجريها بـ"إي" بدلاً من "ألو".

 عديدة الهموم وعديدة اللعنات. لكن يبقى الأهل، ولعنتهم هي أكثر الأشياء قدرة على تحطيمك ومدك بالمشاعر في آن واحد. كل من ابتعد عنهم لم ينجُ بالعاطفة ولكن نجا بنفسه فقط

أعتقد أن أبي هو أكثر الأشخاص الذين قد فهموا معنى المثل الشعبي "إن كبر ابنك خاويه" بطريقة مختلفة، حيث لم يضع نفسه تحت ضغط أن يكتب لي تعليقاً يمدحني به، أو أن يتصل بي ليقدم لي تهنئة بعيد ميلادي، والكثير من السلوكيات التي تجعل مسؤولية مشاركته لكل تفاصيلنا وقصص نجاحانا وفشلنا عاتقاً وواجباً عليه.  

لقد قدّموا لنا كل شيء بطريقة غير مباشرة: الحب، الدعم وحتى الرفض، ولكنهم أيضاً، بطريقة غير مباشرة، جعلوا منا خائفين من كل خطوة نمضي بها في حياتنا بعيداً عنهم.

نحن جيل كبرت أحلامنا قياساً للأثر الذي تتركه على أهلنا. قليلة هي المرّات التي كنّا أنانيين فيها. تنمو وكل تفكير في عقلك يصب في إيصال صورة تجعل هذه العائلة مكاناً للفخر، ولو على حساب نفسك.

 لربما تلك اللعنة جعلت منا أشخاصاً نهوى السقوط، نهوى التخلي عن أي حلم يجعلنا في مدى بعيد عنهم.

 نكاد نغرق في أشياء صعبة المنال. لا غريب في أن ترى الشيب يأكل منك في سن مبكرة. عديدة الهموم وعديدة اللعنات. لكن يبقى الأهل، ولعنتهم هي أكثر الأشياء قدرة على تحطيمك ومدك بالمشاعر في آن واحد.

 كل من ابتعد عنهم لم ينجُ بالعاطفة ولكن نجا بنفسه فقط.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard