أتت ثورة 17 تشرين الجامعة في لبنان، في لحظة مفصلية، سياسية واجتماعية واقتصادية، مع توافد اللبنانيين إلى الشارع اعتراضاً على السياسات الحكومية، وعلى عقود من الفساد المنظم والنهب المقونن قادتها الطبقة السياسية كلها. اكتظت الشوارع على مساحة الوطن بالمحتجين، جلهم يرفع راية موحدة هي العلم اللبناني، في مشهدية أعادت الاعتبار لنضالات الشعب اللبناني على مدى التاريخ.
بعيداً عن الشق السياسي والاقتصادي لمنجزات الثورة، طفت على السطح مجموعة من الانتصارات المجتمعية والوطنية - الاجتماعية الصغيرة، لعل أبرزها هو إعادة الصلة بين اللبناني وهويته الوطنية المرتبطة بالنشيد والعلم، ففي السابق، وبفعل الاحباط السياسي والاقتصادي، حصل نوع من النفور بين اللبنانيين وهويتهم ورمزيتها، وتراجع حس الانتماء لصالح حلم الهجرة، وأصبحت هذه الرموز شكلاً من أشكال السطوة وسوء الأداء لمؤسسات الدولة المهترئة، حتى استعادتها ثورة اللبنانيين في الشارع كهوية جامعة، نزل تحت رايتها العامل والمهني والطالب.
هذه المصالحة الوطنية بين اللبنانيين ونشيدهم سمحت بتحريره من قيود البروتوكول الإداري، فما عاد حبيس الاحتفالات التي يقودها رجال السياسة، بل أصبح نشيد إباء تصدح به حناجر الثوار في كل الساحات، وشعاراً يعلو فوق نشاز الهتافات الطائفية، عندما تنتقل المواجهة إلى الشوارع المتقابلة.
هذه النشوة الوطنية الجديدة تدفع بنا للبحث في أصل النشيد اللبناني وتطوره وتبدله ليواكب الأحداث، فقد مر النشيد الوطني بمراحل طمستها كتب التاريخ لصالح سرديات رسمية جرى التوافق عليها في ذلك الحين، إذ إنه، وقبل نشيد "كلنا للوطن"، مرّت عدة أناشيد كانت بمثابة السلام الوطني اللبناني بشكل غير رسمي، مع العلم أنها عُزفت في العديد من المناسبات، والجدير بالذكر أنه من الواضح جداً تأثر النشيد الحالي الرسمي "كلنا للوطن" لرشيد نخلة بكل ما سبقه، مستعيراً منها كلمات وصور شاعرية وشعرية.
نشيد فرقة الشرق 1916
أثناء عودتهم إلى لبنان، كان للعسكرين، اللبناني والسوري المنضوين تحت راية الحلفاء، نشيد عسكري خاص، يرددونه أثناء تجوالهم في القرى وصولاً إلى أماكن تجمعهم، وجرى تكراره من قبل سكان القرى حيث لاقى إعجابهم.
بني وطني أسود الحرب هيا/ ووقت فخاركم أبداً تهيا/ وعلو راية الأرز العليا/ سناها قد بدا نوراً بهيا/ عليكم بالثبات لدى المواقع/ ولا تخشون دمدمة المدافع/ فإن الحرب عن وطن يدافع/ بدم أو بمال يا أخيّا.
أرزتي منيتي 1918
تنافس شعراء لبنان في تأليف الأهازيج الوطنية، بخاصة تلك التي تتغنى بالمجد والأرز، ومنها ما استساغته فرقة موسيقى متصرفية جبل لبنان، في عهد آخر المتصرفين، ممتاز بك، وحولته إلى لحن غنائي كان يعزف ويغنى في ساحة سراي بعبدا الكبير. ومنها قصيدة "أرزتي منيتي" للشاعر نعوم أفرام البستاني الذي كان من أصحاب امتيازات الصحف، وبشكل أبرز صحيفة "يومية دير القمر".
ليس من المعلوم متى وضع البستاني هذه القصيدة بالتحديد، إنما تلحينها وعزفها جرى على عدة مراحل وبعدة نسخ:
أرزتي منيتي/ علمي الباسق/ مجده بغيتي/ صانه الخالق.
وهنا مثال عن كيف استوحى رشيد نخلة من كلماته فيما بعد، فنرى الكلمات والمعاني تتكرر، بحيث استبدل "صانه الخالق" بـ"صانه ربه".
أول تسجيل معروف للنشيد الوطني اللبناني تم حفظه على أسطوانة أتى بصوت الفنانة التونسية حبيبة مسيكة في استديوهات بيضافون في برلين عام 1928
"بنات الأرز غنين معالي أرزنا العالي"... مقترح نشيد قدمه شبلي الملاط في عام 1921 ليبرز دور المرأة في النضال السياسي والاجتماعي
لبنان لا تخشى الردى 1920
عام 1920، ويوم إعلان دولة لبنان الكبير في احتفال قصر الصنوبر، كان هناك ضرورة لعزف سلام وطني إلى جانب نشيد دولة الانتداب، عُهد بهذه المهمة إلى الأب الأديب مارون غصن، الذي كان قد برز من سلك الكهنوت بامتلاكه حساً أدبياً رفيعاً، بحكم كونه مدير الإكليريكيين وأستاذ المعاني والبيان في مدرسة الحكمة، الأب غصن الذي سبق أن كتب إحدى أفضل المقطوعات الشعرية اللبنانية بعنوان "أنين الجياع"، أبدع في حياكة قصيدة "لبنان لا تخشى الردى"، ليلحنها الموسيقي بشارة فرزان وتعزف كسلام وطني لبناني، وإن بشكل غير رسمي، تكرر بعدها عزف النشيد في العديد من المناسبات، وفي سراي القشلة في بيروت، وبقي لحناً ونشيداً وطنياً غير مكرّس حتى اعتماد النشيد الوطني اللبناني.
لبنان لا تخشى الردى/ فكلنا تقلد ليوم الوغى المهند.
بنات الأرز غنَين 1921
خلال انتفاضة 17 تشرين 2019، برزت أصوات نسوية وأخرى من المجتمع المدني منادية بتعديل بسيط على النشيد الوطني اللبناني بشكله الحالي، من "منبت للرجال" إلى "منبت للنساء والرجال"، لتبادر بعدها صحيفة النهار إلى تسجيل هذا المقطع بصوت كارول سماحة.
قبل ذلك بكثير، وفي عام 1921، تقدم شاعر الأرز شبلي الملاط، ليبرز دور المرأة في النضال السياسي والاجتماعي، في مقترح نشيد عزف في العديد من الاحتفالات بعنوان "بنات الأرز":
بنات الأرز غنين معالي أرزنا العالي/ فما منا ولا فينا سوى أسد ورئبال.
نشيد دماء الأمجاد 1923
لعبت الحماسة العسكرية اللبنانية دوراً كبيراً في تطور الأناشيد الوطنية، ومنها ما وضعه الضابط الركن في مدرسة الجندرما "الدرك" الملازم محمد جواد، الذي نظم لحناً عسكرياً استعملته مختلف القطعات العسكرية في ذلك الوقت، كنشيد رسمي:
إنا أبناء الأرز لنا وطن محبوب نهواه/ فالروح له تهدى ثمنا والموت يلذ لاعلاه/ بدمي أفدي وطناً فيه سفكت من قبل دما الأمجاد.
خطبة الشيخ ابراهيم المنذر 1924
في إحدى اجتماعات مجلس النواب، قام النائب الشيخ ابراهيم المنذر واعتلى المنصة وقرأ في الحضور رسالة جاء فيها:
"لا يخفى ما للأغاني الوطنية من تأثير في النفوس. وليس في العالم أمة راقية، أو أمة تسعى للرقي، ما لم يكن لها نشيد وطني، يحفظه أبناؤها كباراً وصغاراً، وينشدونه في مظهر قومي وكل ناد أدبي".
كلام المنذر استدعى تصفيقاً مطولاً من الحضور، وتناولته الصحافة والناس في المقاهي على مدى أيام مترقبين قرب صدور النشيد الوطني اللبناني، غير أن انتظارهم طال، إذ لم يبصر نشيد "كلنا للوطن" النور إلا بعد سنتين.
كلنا للوطن 1926
مع انتخاب شارل دباس رئيساً للجمهورية اللبنانية، ارتأت حكومة العهد أن يكون للبنان نشيد رسمي، فصدر للغاية مرسوم جمهوري عنوانه "مسابقة لاختيار النشيد الوطني اللبناني"، وشُكلت لجنة رسمية لاختيار النشيد، وتم حصرها بالشعراء اللبنانيين المقيمين والمغتربين، ترأس اللجنة وزير المعارف العمومية والفنون الجميلة نجيب أميوني، وكان من أعضائها الشيخ ابراهيم المنذر الذي عاش ليرى حلمه يتحقق، ومعه جميل بك العظم، وعبد الرحيم قليلات، وشبلي الملاط وعبد الله البستاني وآخرين، أما الشق الآخر من المسابقة فكان لاختيار لحن للنشيد المختار.
فاز النشيد الذي وضعه الشاعر رشيد نخلة بالمسابقة في تشرين الأول من العام 1926، ثم أجريت المسابقة الأخرى للحن، وتم اختيار لحن وديع صبرا، مدير المدرسة الموسيقية الوطنية في بيروت (الكونسرفاتوار)، كاللحن الفائز، ليصدر بعدها المرسوم الجمهوري بتاريخ 12 تموز 1927 معلناً عن النشيد الوطني اللبناني، وليعزف اللحن لأول مرة على مسرح نادي مدرسة الحكمة المارونية، غير أن ذلك الحفل لم يسجل، والمفارقة هنا أن أول تسجيل معروف للنشيد الوطني اللبناني تم حفظه على اسطوانة، أتى بصوت الفنانة التونسية حبيبة مسيكة، في استديوهات بيضافون في برلين عام 1928.
بعد اكتمال النشيد، طبع على كتيب من الورق الفاخر يحمل علم الانتداب، وممهوراً بتوقيع رشيد نخلة ووديع صبرا، وبيع في الأسواق بخمسة قروش ليتمكن الناس من شرائه وحفظه، وهكذا أمسى للبنان نشيداً وطنياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه