الفن أداة تعبير الحضارة الإنسانية
من الصادم ذلك الموقف السلبي الذي اتخذته مجموعات من الرأي العام، وبعض المحطات التلفزيونية والأصوات الإعلامية، من ظواهر الفنون في الساحات الثورية اللبنانية. إن هذا الموقف الرافض أو المتعجّب من وجود الفنون في الساحات، يدل على جهل تام بطبيعة ودور الفنون في الثقافات والمجتمعات. حيث إن التعريف البديهي للفن هو أنه الأسلوب الأولي والأساسي في تعبير التجمعات البشرية عن أفكارها، آلامها، مطالبها، وتطلعاتها. الفن هو أداة التعبير الأولية لدى أي تجمع بشري، فكيف إذن يمكن رفض وجود الفنون في الساحات الجماهيرية؟ إن فنون الرقص والموسيقى والغناء وكتابة الهتافات، هذه الإنتاجات الفنية هي المنتظر والمتوقع لأي مراقب لتلمس ما يريده أي حراك أو ثورة.
منذ 3 آلاف عام حاول الفيلسوف اليوناني أفلاطون تخيل جمهورية فاضلة، يوتيوبيا، لكنه ارتكب خطيئة كبرى جعلت من جمهوريته الفاضلة موضع نقد عبر التاريخ، بل واعتبرت أنها جمهورية قمعية، وذلك حين أقصى منها الشعراء والفنانين. وبالتالي، يعلمنا التاريخ أنه، وحتى بالمدينة الفاضلة، فإن غياب الفن سيحولها إلى مكان ديكتاتوري وقمعي وغير قابل للعيش. إلى هذه الدرجة، يلعب غياب الفن أو حضوره دوراً محورياً في تخيل العالم المثالي.
عن الآلات الموسيقية والسلاح
في سلسلة مقالات بعنوان "المدن المحرومة من الموسيقى" تابعت التجربة الثقافية لعدد من المدن في المنطقة، التي عانت من أنظمة فرضت تحريم الموسيقى والرقص، مثل: كابول مع حكم طالبان، الموصل والرقة مع حكم داعش، ومدينة الصدر في العراق، التي عالج فيلم "الفرقة، 2017، الباقر جعفر" تحريم الموسيقى فيها. ومن خلال المقارنة بين تجارب هذه المدن المحرومة من الموسيقى، اكتشفت أن تحريم الآلات الموسيقية ترافق مع ظهور بديل عنها، وهو السلاح. أي أن تحريم الآلات الموسيقية ترافق مع انتشار السلاح في كل حالات المدن التي حرمت من الموسيقى.
عن الاحتفالية
يتهم البعض الحراك الثوري في الساحات اللبنانية بتهمة "الكرنفالية - الاحتفالية". لقد أمضى الناقد الروسي ميخائيل باختين حياته، وهو يبين أن الكرنفال هو انتصار الساحة العامة على المؤسسة الدينية والسلطوية، انتصار للفرح والرقص وانقلاب المعايير على القيم الدينية التراجيدية والقيم السلطوية الجدية. إن الكرنفالية- الاحتفالية هو إنجاز شعبي بامتياز ضد القيم والأعراف والتقاليد القائمة. تسعى الاحتفاليات الشعبية إلى قلب المعايير واستعمال الفنون كالغناء والرقص لإلغاء الهرمية والتراتبية لصالح الجسد والسخرية. كتب الموسيقي اللبناني مازن السيد-الراس منذ أيام: "مسألة الاحتفالية مانها المشكلة، مافيه تعارض بين اللهو بالساحات وبين تحقيق الأهداف التي خرجت كرمالها الناس عالشارع".
من الغريب أنه، ومنذ سنوات قريبة، كان الإعلام اللبناني والنخب الثقافية معجبة ومقدرة للفنون التي تخرج عن الثورة السورية. والثورة السورية التي يمكن اعتبارها من أكثر الثورات التي ووجهت بالقمع، من الرصاص الحي إلى ملاحقة النشطاء إلى منازلهم، إلا أن الكرنفالية أو المهرجانية لم تغب عنها، فمازالت صور الرقص والغناء والموسيقى في الثورة السورية ماثلة في الأذهان، تلك القادمة من باباعمر في حمص وساحات حماه، والأغاني القادمة من كوباني، ورقص الدبكة في الكثير من المناطق السورية المتفرقة. لن يكون هناك أكثر جدية ودموية من الثورة السورية ومع ذلك أنتجت الفنون الراقصة الموسيقية وكل المظاهر الاحتفالية. وقد ترافق غياب الاحتفاليات عنها تسلح الثورة وتحولها إلى العنف.
قال المراسل التلفزيوني من ساحة الشهداء رامز القاضي في الدفاع عن الاحتفالية في الثورة اللبنانية: "رغم أن الجمهور يرقص ويغني إلا أن ذلك لا يلغي بأنهم متألمون وموجوعون". لا تعارض بين الآلام والأوجاع والمطالب الشعبية وبين الرقص والغناء. المثال الأكثر شهرة هي موسيقى البلوز والموسيقى الأفرو أمريكية التي كانت تعبيراً عن آلام العبودية الإفريقية التي فرضتها عليها القوى الاستعمارية والاستغلالية، فلماذا نتقبل التعبير الإفريقي عن الآلام والعذابات عبر الفنون من غناء ورقص ونحرّمه على الجمهور اللبناني في الساحات اليوم؟
من الصادم ذلك الموقف السلبي الذي اتخذته مجموعات من الرأي العام، من ظواهر الفنون في الساحات الثورية اللبنانية فهو يدل على جهل تام بطبيعة ودور الفنون... الفن هو أداة التعبير الأولية لدى أي تجمع بشري، فكيف إذن يمكن رفض وجود الفنون في الساحات الجماهيرية؟
في سلسلة مقالات بعنوان "المدن المحرومة من الموسيقى" تابعت التجربة الثقافية لعدد من المدن في المنطقة، التي عانت من أنظمة فرضت تحريم الموسيقى والرقص... من خلال المقارنة بين تجارب هذه المدن المحرومة من الموسيقى، اكتشفت أن تحريم الآلات الموسيقية ترافق مع ظهور بديل عنها، وهو السلاح
لماذا تستخدم الثورة اللبنانية هتافاً يحمل تمييزاً ضد العضو الأنثوي؟ الفن كما هو خلّاق في السلم والتعبير، فكذلك توجد فنون هدامة مثلما حدث في الثورة السورية مع أغنية تدعو للقتل والعنف، "بالذبح جيناكم"، هنا استعمل الفن لتوليد العنف والقتل، ونتج عنها رد من الطرف المقابل، الذي أنتج أغنية للرد تقول: "أنا وياك، أنت بدورة وأنا بدورة، بدنا ننـ*** لهالثورة"
سلمية = فنية
عبر التاريخ، لائحة النماذج الثورية التي استعملت الفنون في التعبير عن أفكارها لا نهائية، لدرجة أنه يمكن القول إن أية ثورة هي ثورة ثقافية، وبالتالي هي ثورة فنية أيضاً. وها هي الثورة اللبنانية تنادي "سلمية" = "فنية" بالآن عينه. فكما أشرنا سابقاً لا بديل عن التعبير الفني إلا التعبير العنفي، لذلك يمكن اعتبار "الفنية" هي الخيار الذكي للثورات "السلمية".
في العام 2007، كتبت كل من ليزلي يالن وسينثيا كوهن: "يمكن للأعمال الفنية والثقافية، أي الأشكال التي ترتبط مباشرة بعالم الفن، مثل الرسم والنحت، والرقص، أو تلك التي تستنبط من الطقوس التقليدية والسرد الشفاهي والفنون الشعبية المستمدة من المجتمعات المحلية، أن تقوم بالتوسط في أثناء التوترات بين الحاجة إلى العدالة التاريخية والحاجة إلى مستقبل أفضل"، وفي السلفادور أشركت الفنانة كلوديا برناردي أفراد المجتمع من جميع الأعمار والانتماءات السياسية، في مشاريع جدارية، حيث وفرت عملية صنع الفن الفرص لديمقراطية صنع القرار والمشاركة الإبداعية في التعبير عن الصراعات.
يؤكد المختصون في العلاقة بين الفن والقضايا الاجتماعية على خاصيتين يمتلكهما التعبير الفني، الخاصية الأولى تدعى "العدسات المتعددة"، والتي تعني أنه يمكن للفن التعبير عن دوافع متناقضة للإنسان في وقت واحد مثل الانتقام والغفران، الخيار الفردي والكرامة الجماعية، الغضب والفرح. تكتب الباحثة راما نجمة في هذا الخصوص: "إن الانخراط بشكل جماعي في الفن، كالغناء أو المسرح، كثيراً ما يدفع المشاركين للاعتراف المتبادل ببعضهم البعض كبشر، بدلاً من التأكيد على الهويات الاجتماعية والثقافية أو الاقتصادية التي يوسمون بها"، ويقول عازف الإيقاع الغاني Djanie: "إذا لعب شخصان مختلفان على الطبل لفترة من الوقت تصبح أنفاسهما متزامنة، وبذلك يختبر الناس ترابطهم مع بعضهم البعض".
وهذا يؤدي للحديث عن الخاصية الثانية للتعبير الفني والتي تسمى "الخيال الأخلاقي"، الذي يُعرّف بأنه القدرة على تخيل وتوليد استجابات ومبادرات تكسر في نهاية المطاف سيطرة أنماط ودورات مدمرة. يقول علماء الفلسفة الأخلاقية إن الخيال الأخلاقي هو ملكة تمكننا أن نضع أنفسنا مكان الآخر، وأن نحس ما يحس به، وأن نفهم موقفاً بكل ما فيه من عمق، حينها نتمكن من تصور وجهات نظر مختلفة، وهذا ما يساعد عليه الفن.
الفنون بدلاً عن العنف في النضال الثوري
يسمى هذا التوظيف للفنون باللاعنف الاستراتيجي، وهي طريقة تهدف إلى زيادة الوعي بالظلم الاجتماعي أو إيصال صوت المهمشين في حالات النزاع. مثلما استخدمت لتاريخ طويل الجداريات العامة في جنوب افريقيا لشن الصراع اللاعنفي ومناهضة البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أيضاً، في كفاح جنوب إفريقيا من أجل التحرر من الفصل العنصري، قدّم الفنانون شكلاً مبدعاً ومبتكراً هو "التوي توي" وهو في جزء منه رقص، وفي جزء آخر مقاومة مدنية تجاه العنف المباشر. تركت عروض "التوي توي" أثراً لا يمحى في المظاهرات، ووصف رجال الشرطة البيض بعد ذلك في شهاداتهم كيف أخافهم حشد من المغنيين السود مع أصوات طرق أقدامهم القوية على الأرض، وهم يتقدمون كأنهم يمتلكون زمام السلطة، وكانت رقصة "التوي توي" أحد أسباب تعاطف الشرطة مع المحتجين الذين أظهروا قوة لا عنفية متماسكة ضد التهديد التقليدي.
راقصة جامع الأمين
من ساحة الشهداء في بيروت، انتشر فيديو يحمل هذا العنوان، وهو لفنانة رقص شرقي ترقص فوق سيارة بين المتظاهرين. هذا العنوان "راقصة جامع الأمين" لم يكن سابقاً يحلم أي روائي أو قاص أو فنان أن يجعله عنواناً لعمله الفني مهما بلغت به الجرأة التخييلية والفنية، وهاهو الواقع يفرضه ويثبته من خلال الحدث الثوري، إنه عنوان ثوري بامتياز.
واجهت ظاهرة وجود راقصة شرقية بين المتظاهرين استنكاراً واستهجاناً من العديد من المثقفين ومن وسائل الإعلام، ما يؤكد أولاً: على أن حضور الجسد شبه العاري ما يزال تابو في الثقافة العربية حتى في اللحظات الثورية، ولذلك يجب التأكيد على حضور الثورة الجسدية والجنسية في كل الثورات العربية، وثانياً: يظهر التساؤل أمام هؤلاء المنتقدين: هل الرقص الشرقي فن أم لا؟ ولماذا يستعمل أحياناً كميزة ثقافية للحضارات الشرقية، وبينما في أحيان أخرى يتم السخرية والاستحياء به ومحاولة إخفاء حضوره؟ على هؤلاء المنتقدين تركيز جهودهم إذاً، بدلاً من التهجم على الراقصة في ساحة الشهداء، على إلغاء فن الرقص الشرقي من قائمة الفنون التراثية في التاريخ العربي خاصةً، والشرقي عموماً، ما سيتطلب منهم جهوداً جبارة مقارنة مع مجرد انتقاد راقصة والتشهير بها. الرقص الشرقي ممارسة ثقافية وفنية موجودة في تاريخ المنطقة والشعوب العربية ويعرفها الجميع، وتوظف في الأعراس والاحتفالات فما الذي يجعل منها مفاجأة ومدعاة للاستغراب من البعض اليوم في ساحات الثورة والتعبير الفني.
عن البذاءة والشتيمة في التعبير الفني الثوري
من أخطر ما يمكن أن تقوم به الثورات هو الوصاية الأخلاقية على أساليب التعبير التي تخرج عنها، ومع ذلك، أرغب بالتطرق إلى البذاءة والشتيمة في الظواهر الفنية للثورة اللبنانية.
عن البذاءة: لقد نادت الكثير من الثورات الفنية مثل الدادائية، بالبذاءة كجزء من أسلوب ثورتها الفنية والتعبيرية. لكن الأغنية التي انتشرت في التظاهرات اللبنانية التي تبدأ بـ" هيلا هيلا هيلا هيلا هو" وتنتهي بشتيمة لوزير الخارجية جبران باسيل تحمل في طياتها تمييزاً ضد العضو الأنثوي، "الكـ*". فكيف لثورة تطلب المساواة بين الرجل والمرأة وهي تعتبر العضو الأنثوي نقيصة أو شتيمة. إن استعمال تعبير "كـ* أمو" هو تأكيد على أن الفرج الأنثوي هو سلبي، نقيصة، وشتيمة، وهذا يحد أفق الثورة اللبنانية، ويشير إلى أنها لن تطال الثقافة الذكورية البطريركية، بل إن مثل هذه الأغنية تكرس الهيمنة الذكورية في اعتبار "الكس" شتيمة.
عن الشتيمة: ترددت أغنيتان في الثورة اللبنانية هي "كول ***" وأخرى "خود" مع رفع الإصبع الأوسط. ليس التطرق إلى هاتين الأغنيتين من باب الوصاية الأخلاقية، ولكن من باب مناقشة أسلوب التعبير. فالشتيمة في الحوارات هي دليل فراغ فكري، الشتيمة هي نهاية للنقاش، وخاتمة لإمكانية الجدل. لأنه، وبإمكان الطرف الآخر أيضاً أن يرد بالشتيمة ذاتها: "خود أو كول خرا"، وبالتالي ينتهي الحوار والجدل ويتحول إلى عنف لفظي فارغ. لذلك أعتقد أن الشتيمة ليست خياراً تعبيرياً موفقاً أو ذكياً، خصوصاً في ثورة تحاول النقد وتشكيل وعي ثقافي وسياسي لدى مناصريها. الشتيمة تولد الشتيمة والبذاءة تولد البذاءة، حتى لو كانت عبر الفن والأغنية، فلا ننسى أن الفن كما هو خلّاق في السلم والتعبير، فكذلك توجد فنون هدامة مثلما حدث في الثورة السورية مع أغنية تدعو للقتل والعنف، "بالذبح جيناكم"، هنا استعمل الفن لتوليد العنف والقتل، ونتج عنها رد من الطرف المقابل، الذي أنتج أغنية للرد تقول: "أنا وياك، أنت بدورة وأنا بدورة، بدنا ننيكا لهالثورة".
وأخيراً، على الكل أن يشارك في الثورة من موقع اختصاصه، فيقدّم السياسيون الآراء السياسية، والاقتصاديون الآراء الاقتصادية، والفنانون دورهم الفني الذي يبرعون به. فكلما شارك الفنانون والمثقفون في الحراك الثوري كلما وجدوا في الحراك الثوري ما يعبر عن أفكارهم وتطلعاتهم. وليس على الجميع أن يشكل رأياً سياسياً واقتصادياً الآن، فلكل اختصاصه، وبراعة الفنانين في توظيف فنونهم في الدفاع وفي التعبير عن نبض الحراك والأهم عن آرائهم الشخصية الذاتية بشكل أساسي.
ربما، أهم ما حمله الربيع العربي هو الوعي السياسي للمجتمعات العربية، وأجمل ما حمله الربيع العربي هو التعابير الفنية الباقية في أذهاننا من الثورة المصرية، السورية، السودانية. فلماذا يحرم اللبنانيون الآن على ثورتهم ما أعجبوا وذهلوا به من ثورات الربيع العربي؟ أم أنه لا يمكن التعلم من تجارب الثورات الأخرى، لأن لكل مجتمع ثورته، وبالتالي تجربته الخاصة مع التعبير الفني الثوري؟
العملان الفنّيان في المقال للفنانة مريم سمعان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...