شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
جزائريون بين فرحة

جزائريون بين فرحة "الإحساس بالانتماء"، ومخاوف عودة "النظام"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 11 يونيو 201907:15 م
Read in English:

Algeria at the crossroads: how civil society is transforming the country after Bouteflika

يصحو المصور الجزائري عماد طيايبة كل صباح فاتحاً عينيه على عالم لم يألفه، استبدلت صور بوتفليقة برسومات وألوان جديدة، والشوارع أكثر نظافة، وكثير من الناس ملامحهم مرتخية، ومرتاحة.

يقول طيايبة أن الشباب في الحي الذي يسكن فيه بمدينة سيدي مبارك في شرق الجزائر يتقاسمون الأعباء المالية، والجهود البدنية لتنظيف وتجديد الحي.

ويفسر طيايبة في تصريحات لـ"رصيف22" تلك الروح الطارئة على المجتمع الجزائري: إن الناس في مسعى علاقتهم الجديدة بالفضاء العامّ، الذّي كانوا ينتهكونه سابقاً (كإلقاء القمامة، وإهمال الشوارع)، تعبير منهم على امتعاضهم من نظام الحكم المشرف عليه، راحوا الآن ينزعون أو يطمسون كلّ ما يرمز للسّلطة السّابقة، مثل صور الرّئيس وشعارات الحزب الحاكم، ويستبدلونها بصور ورسومات جديدة تعبّر عن أفكارهم وأحلامهم وطموحاتهم".

يرسم المصور طيايبة المشهد الجزائري الجديد أكثر: "في السّابق كان هذا الشّاب نفسه يُرغم على الوقوف يوميّاً لتحيّة العلم في المؤسّسات التّربويّة، لأنّ ذلك كان بأمر من الحكومة، أمّا اليوم فقد اقتحم مقارّ البلديات والمؤسّسات الحكوميّة، واسترجع هذا العلم لأنّه بات يراه رمزاً لوطن أصبح مالكَه لا ملكاً للنّظام".

الاستجابة الشّعبيّة لدعوات التّغيير الاجتماعيّ، التّي أطلقتها قوى المجتمع المدنيّ، بدءاً من الجمعة الثّالثة للحراك الذي أسقط الرئيس السابق بوتفليقة، باتت تحظى بالقبول بين الناس أكثر، وبينما رفع الشعار السياسي "يتناحو قاع" أي فليتنحوا جميعا، رفع آخرون شعار "نترباو قاع" أي فلنتحل بالتربية جميعا، في مشهدين متوازيين يصبغون المرحلة الحالية: المطالبة بالتغيير السياسي، والحالة الاجتماعية التي تدعو إلى المبادرات والترابط الاجتماعي.


يشرح أستاذ الفلسفة، بشير ربّوح، لـ"رصيف 22" حالة الجزائرين التي تركها عليها بوتفليقة: أسوأ ما قامت به المرحلة البوتفليقيّة تصحير النّفسيّة العامّة للجزائريّين، بما برمجهم على الاستقالة المعنويّة من تبنّي مشروع مجتمع أو الدّعوة إليه.

"كنت إذا سألت أحدهم: "كيف حالك؟"، أجابك بعبارة "ما كاين والو"، أي ليس ثمّة شيء يرجى"، حالة يصفها ربوح بلغته الفلسفية "مقام عدميّ"، ينخر المجتمع أكثر مما فعله الاحتلال والإرهاب، لأنّه يخلق "حالة زهد في تعمير المكان، لاستفحال حالة عدم الثّقة فيه".

هذا ما يبرّر انتشار الهجرة غير النظامية بين الشباب الجزائري، بحسب ربوح، حتّى بات الواحد منهم يقول إنّه "يفضّل أن يأكله الحوت في البحر، في حالة ركوبه قارب الهجرة، على أن يأكله الدّود في القبر، في حالة بقائه في الجزائر".

ولكن الصورة قد تغيرت الآن، يقول ربّوح: "ما أن انطلق الحراك الشّعبي، قبل ثلاثة أشهر، حتّى أكّدت الجهات المعنيّة تراجع عدد المهاجرين غير الشّرعيين، الذّين يعرفون في القاموس الشعبيّ الجزائريّ بـ"الحرّاقة". بل إنّ بعض الشّباب، الذين تمكّنوا من الهجرة سابقاً، عادوا إلى الجزائر، حتّى يشاركوا مواطنيهم الحلم بجزائر جديدة".

وقد اعتادت الحكومة ألا تكشف عن العدد الحقيقيّ لـ"الحرّاقة" رغم أنّها تعترف بالظّاهرة. وقد خصّصت لها حكومة بوتفليقة، قبل استقالته بأسابيع، يوماً دراسيّاً تناول مسبّباتها والحلول الكفيلة بالحدّ منها. كما احتضنت الجزائر في أغسطس 2018 النّدوة الدّولية حول الهجرة غير الشّرعية، بتفويض من برلمان الاتحاد الأفريقيّ.

وحسب تقرير صدر عام 2017 عن المفوّض السّامي المكلّف بشؤون اللّاجئين في الأمم المتّحدة، فإنّ الجزائر احتلّت المرتبة الخامسة، من بين الجنسيّات الأكثر هجرة إلى أوروبّا، بمعدّل 6٪ بعد سوريا والمغرب ونيجيريا والعراق.

وكشف بيان تابع لوزارة الدفاع الجزائرية 30  مارس الماضي عن تراجع محاولات الهجرة غير الشرعية من شواطئ الجزائر لأوروبا، ولم تتجاوز المحاولات 120 شخصا بالتزامن مع الحراك، بينما وصلت في فترات سابقة إلى "معدلات قياسية".

لجان السعادة

في مدينة برج بوعريريج، التّي تبعد 200 كيلومتر عن الجزائر العاصمة شرقاً، بادرت نخبة من النّشطاء إلى إطلاق مبادرة أسمتها "لجان السّعادة في الأحياء السّكنية"، على غرار لجان السّعادة في الإمارات، تهدف إلى إعادة الترابط والحميمية بين سكّان الحيّ الواحد، للتكافل الجماعيّ في حل مشاكل الحيّ.

يقول محمّد حنّاشي أحد المنخرطين في هذه المبادرة إنّ الأحياء السّكنيّة الجزائريّة باتت أقرب إلى المراقد "المقابر" منها إلى فضاءات إنسانيّة واجتماعية وحضاريّة، "والدّليل أنّ معظمها بات يحمل رقماً هو عدد وحداته السّكنية، فيقال مثلاً حيّ 450 مسكناً وحيّ 1000 مسكن، في مسعى لتصحير الذّوق والحياة العامّين، حتّى أنّ الجار لا يعلم عن جاره شيئاً، ولا يتقاطع معه إلا في سلالم العمارة".

نجد من بين اقتراحات هذه المبادرة الطموحة جدا، إلى الدرجة التي تطرح تساؤلات حول إمكانية تحقيق أهدافها،العمل على تنظيف الحيّ وتزيينه وتشجيره. والإشراف على الحراسة. وبعث مبادرات رياضيّة وثقافيّة وفنّيّة. ورعاية المواهب. وتنظيم رحلات سياحيّة وترفيهيّة وعلميّة. والقيام بدروس لمحو الأمّية. ووضع برنامج خاصّ بالمسنّين والمتقاعدين. وإنجاز روضة خاصّة بالأطفال. وإصلاح مرافق الحيّ. ومضاعفة الإضاءة وصيانتها. وخلق توأمات مع أحياء أخرى في مدن أخرى، وتنظيم مواعيد إخراج القمامة من البيوت، واستعمال حاويات تجميع كاتمة للرّوائح.

كما تعمل هذه المبادرة المدنيّة، التّي اتّخذت لها شعار "مواطنة ـ إنسانيّة ـ تكافل" على نشر ثقافة القراءة، بزرع مكتبات صغيرة في البيوت والمقاهي وساحة الحي، وإحياء ثقافة الزيارات بين الجيرة كما اعتاد القرويون، والاعتناء بالأرض من جديد، وزرع ثقافة المبادرة بين السّكّان، والخروج من عقليّة انتظار كلّ شيء من المؤسّسات الحكوميّة، والتفتّح على المؤسّسات الخاصّة لرعاية بعض المبادرات، التّي تقتضي تمويلاً.

كما تقترح المبادرة التّنسيق مع إمام الحيّ ليكون درس الجمعة منسجماً مع الحاجات الاجتماعيّة إلى إصلاح معيّن في التّفكير والسّلوك، مع عرض مبادرات ذات جدوى اجتماعيّة حقيقيّة، على لجنة المسجد لتمويلها من صندوق الزّكاة، بالموازاة مع التّنسيق مع إدارات المؤسّسات التّربويّة، التّي يدرس  فيها أبناء الحيّ لبعث مبادرات ثقافيّة وتربويّة، وتبني جلسات حوار دوريّة بين الأسر والمعلمين والتّلاميذ.

أي باختصار ممارسة ما كانت تقوم به الدولة اجتماعيا، أو تقاعست عنه، وتوجهها في النهاية لصالح نظامها السياسي، وإعادة توجيهها لخدمة الناس أنفسهم، بما يحسّن من تفاعلهم الاجتماعي، وترابطهم، وشعورهم بالانتماء.

مخاوف الانقسام، وعودة النظام

نشر الشّاعر رشيد بلمومن، بعد الجمعة الـ16 للحراك، منشور على "فيس بوك" قال فيه: "بدأت أخاف على بلادي". اتصلت به وسألته عن خلفية خوفه، فقال إنّ الحراك لم يعد مسعى موحّدا مثلما بدأ.

"في السّابق كان هذا الشّاب نفسه يُرغم على الوقوف يوميّاً لتحيّة العلم في المؤسّسات التّربويّة، لأنّ ذلك كان بأمر من الحكومة، أمّا اليوم فقد اقتحم مقارّ البلديات والمؤسّسات الحكوميّة، واسترجع هذا العلم لأنّه بات يراه رمزاً لوطن أصبح مالكَه لا ملكاً للنّظام".

"لقد كان الصراع بين الشعب والعصابة الحاكمة، فاستطاع أن يخلخل مفاصلها ويمنحنا إحساسا بالقدرة على التغيير، أما الآن فقد بات الصراع بين شطر وآخر من الشعب، من زاوية مساندة أو معارضة اقتراحات المؤسسة العسكريّة، التي رفضت حلا خارج الدّستور".

سألته إن كان يستمدّ شيئا من الأمل في المبادرات الاجتماعيّة، التي تمخّض عنها الحراك؟، فأبدى تخوفه من تأثره بما وصفها بـ"النكسة السياسية" التي أصيب بها الحراك. يشرح فكرته: "هل كان الشاب الجزائريّ سينخرط في مبادرات ومشاريع ذات منفعة عامّة لولا أن الجمعات الخمس الأولى منحته شعورا بقدرته على التّغيير السياسي؟ أخشى أن يحمله شعوره الجديد بالخيبة، في ظلّ استرجاع السلطة المدنية والعسكرية لأنفاسها، على أن يتخلّى عن روح المبادرة، ويبرمج نفسه مرة أخرى على الحلم بالهجرة". يختم: "لا تتعنّت الوجوه الحاكمة في تعاملها مع مطالب الحراك لتستمرّ في السّلطة فقط، بل لتكسر الهمّة الجديدة للشارع الجزائريّ أيضا، لأنها هي الأرضية التي يقوم عليها التّغيير".


في مدينة سطيف شرقيّ الجزائر العاصمة، لفت انتباهي تجمع لشباب كانوا يقومون بتزيين الجدران برسومات ضمّت مناظر طبيعيّة وجموعا تحمل العلم الوطني ووجوها لشخصيات ثورية منها تشي غيفارا والعربي بن مهيدي أحد أبرز شهداء ثورة التّحرير. وكان التّشنّج غالباً على كلامهم وحركاتهم. استطلعت عن الأمر، فعلمت أنّ أحدهم رفض أن يدفع نصيبه من تكاليف عمليّة التّزيين، كما تمّ الاتّفاق عليه. والمبرّر حسبه أنّه فقد الرّغبة في أن يبقى في الجزائر.
"كنت إذا سألت أحدهم: "كيف حالك؟"، أجابك بعبارة "ما كاين والو"، أي ليس ثمّة شيء يرجى"، حالة يصفها ربوح بلغته الفلسفية "مقام عدميّ"

سألته عن السّبب، فقال إن انخراطه في عملية تزيين الحي كان نابعا من إحساسه بأنّ النظام الفاسد سيزول، "لكنني تأكدت الآن من كونه سيبقى أقوى مما كان عليه، ما دام نصف الشعب بات معارضاً لنصف الشعب، دفاعا عن النظام الفاسد نفسه". سأله أحد الشّباب: "هل نحن مطالبون بتزيين وتنظيف محلّ إقامتنا لأجلنا أم لأجل النّظام؟ ردّ: فقدت الثّقة في كل شئ".

ويقف الحراك الجزائري في مفترق طرق، حيث تريد الحركات التي أطاحت ببوتفليقة ألا يكون للمؤسسة العسكرية دور في المرحلة الانتقالية، ولا لرموز النظام السابق، بينما أصر الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح الخميس الماضي أن الوضع الحالي يلزمه الاستمرار في قيادة البلاد.

وفي النهاية، بغضّ النّظر عما سيؤول إليه الحراك الشّعبيّ في الجزائر إلّا أن الروح الجديدة التي تقمصت الجزائريين ملحوظة، ويبرز التساؤل: هل يمكن لتلك الروح أن تسفر عنها أحزاب أو منظمات مدنية يمكن أن تكون فاعلة سياسياً، أم تلقى الجزائر مصير دول سبقتها، وتنطفئ تلك الروح، ويتحول الربيع إلى خريف استبدادي مرة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image