يتعلّق قطاع واسع من الجزائريّين، خاصّةً الجيل الجديد منهم بالقنوات التّلفزيونيّة الأجنبيّة، عربيّةً وفرنسيّة، حتّى إذا حلّ "سيِّدنا رمضان"، كما يقول الجزائريون تعظيماً لهذا الشهر، برمجوا أنفسهم على القنوات الوطنيّة، إذ توجد خمس قنواتٍ حكوميّة وقرابة عشرين قناةً مستقّلّة.
وتحظى القنوات في الفترة التي تلي موعد الإفطار إلى منتصف الليل، بأعلى نسبة مشاهدةٍ، تتفاوت في استقطاب أنظار الجزائريين، الذين يُلحقون شغفهم بمشاهدة الأعمال الفكاهيّة والدراميّة خلال هذه السويعات بنكهة رمضان نفسه، فتجدونهم يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عن "الشوربة" و"البوراك" و"الزّلابيّة" و"قلب اللّوز"، فينتفي الفرق بين سؤال "واش كليت؟" وسؤال "واش تفرّجت؟".
وقد خسرت الكاميرا الخفيّة جمهورها في السّنوات الخمس الأخيرة، بسبب غرق نسبةٍ كبيرةٍ منها في السذاجة والتقليد واستعمال العنف، في مقابل المسلسلات الدراميّة التي كسبت ثقة شرائح غير قليلةٍ من المشاهدين الجزائريّين، وجعلتها محلّ تنافس القنوات الحكوميّة والمستقلّة لاستقطاب أكبر عددٍ من المشاهدين.
وفي رمضان هذا العام تصدر المشهد عملاً، أثار جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وبات حديث الكثيرين في المنازل بين العائلات، وفي المقاهي بين الأصدقاء، بما لا يضعه في مقارنة بأي عمل درامي أو حتى تلفزيوني آخر، مسلسل"أولاد الحلال".
"أولاد الحلال" ينتصر لـ"الهامش"
تدور أحداث المسلسل، الذي تبثّه قناة "الشروق" الخاصّة، في حي الباهية الفقير في مدينة وهران المعروفة بعاصمة الغرب الجزائريّ أو"باريس الصغيرة".
ويتناول العمل قصّة شابين أخوين يتيمين (مرزاق/ عبد القادر جريو)، و (زينو/ يوسف سحيري)، نشآ معاً في دار أيتام، بعد أن قتل أبوهما أمَّهما، فأتيا إلى حي الباهية بحثاً عن أختهما، التي يعتقدان أنها تعيش في الحي الذي تعود إليه أصولهما، فيتحوّلان عند السّكان إلى رمزٍ للنخوة والشجاعة ونقاء الضمير، رغم كونهما يمارسان السطو، وغارقان في السكر، والصفقات المشبوهة مثل الآخرين.
بالموازاة مع قصصٍ أخرى ذات صلة بمسار قصّتهما، ممَّا جعل حلقات المسلسل أكثر تشويقاً.
"الشعب الجزائري وجد نفسه أمام مسلسل يعيد الاعتبار للهامش الشعبي، الذي ألغته الأعمال الدرامية في عصر بوتفليقة لدواعي سياسية بالأساس"
يقول الإعلامي عمار لشموت لـ "رصيف 22" إنّ مسلسل "أولاد الحلال" عَمِلَ على كَسْرِ هيمنة الفضاء العاصميِّ، في الأعمال الدراميّة، بالدخول إلى أمعاء ثاني أكبر مدينةٍ جزائريّة، وكسر هيمنة الأحياء الرّاقية ذات الهواجس البرجوازيّة، بالانفتاح على الهواجس الشعبيّة للأحياء الفقيرة والبائسة، وكسر هيمنة اللهجة العاصميّة باعتماد اللهجة الوهرانيّة ذات العمق الشعبيّ، التي أفرزت أجيالاً من مغنّي الرّاي.
ويلفت عمار لشموت إلى تغير طرأ على مزاجية الجزائريين بعد "الحراك الشعبي"، يقول إنَّ الشارع الجزائري، الذي غيّر كثيراً من المعطيات لصالح إعلاء "فخامة الشعب"، وزحزحة "فخامة الرئيس" ومحيطه الفاسد، وجد نفسه أمام مسلسلٍ يُعيد الاعتبار للهامش، الذي كانت تُلغيه الأعمال الدراميّة السابقة، أو لا تُحسن تقديمه من الداخل، بعيداً عن النظرة الاستعلائيّة، لدواعٍ سياسيّةٍ في الأساس.
يشرح لشموت فكرته لرصيف22: "لقد بات حيّ الدرب ممثلاً لكلِّ الأحياء الشعبيّة في الجزائر، وبات مرزاق وزينو ممثّلين لكلِّ الشباب الجزائريّ، وباتت ريم (الممثلة مريم عمير) ممثلةً للفتيات اللّواتي يُرغمن على التخلّي عن الدّراسة لمساعدة أُسَرِهنّ، وبات توفيق (الممثل أحمد مدّاح) ممثلاً للشاب الذي يُرغمه البؤس على الانخراط في الجريمة، وباتت مليكة (الممثلة نوال إيمان) ممثلةً للزوجة المقهورة، وبات الممثل مصطفى لعريبي في دور خالد تاجر المخدّرات، ممثلاً للرجل الفاسد، الذي يدمّر كلَّ من يقف في طريقه مقابل أن يحمي مصالحه.
رواد مقهى شعبي يدافعون عن "أولاد الحلال"
في سياق إنجازي لهذا التقرير، وفي سياق فضولي الشخصي، تعمّدت أن أتهجّم على مسلسل "أولاد الحلال" داخل مقهىً شعبيٍّ في مدينة برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة، فتحلّق حولي الشباب والكهول والشيوخ المتقاعدون.
قال لي الشاب سيف الدين والي صاحب المقهى: "قد نفشل في إيصال كلمتنا سياسيّاً في إطار الحراك، لكنّنا نجحنا في إيصال كلمتنا اجتماعيّاً وفنّيّاً من خلال مسلسل "أولاد الحلال".
ردّ آخر: "معظم الأعمال الدراميّة السابقة كانت تعمل على تزييف الحقائق المتعلّقة بالواقع الجزائريّ، من خلال تركيزها على الفضاءات والهواجس البرجوازيّة لتمرير رسالة أنّ الجزائر بخير، كما يُروِّج له المحيط البوتفليقيّ، لكنّ مسلسل "أولاد الحلال" نسف هذا المعطى، ولعب دور المرآة، التّي أثبتت العمق الإنسانيّ الطيّب للإنسان الجزائريّ، في مقابل إثبات مرارة الواقع العام الذي يعيشه".
ويرصد الممثّل عماد عبد السّلام مظهراً آخر نجاح المسلسل، يقول: "باتت أغنية المسلسل، التي أدّاها الفنّانان عبد الله الكرد وهيفاء رحيم، أكثر الأغاني اعتماداً في رنّات الهاتف، وباتت وجوه المسلسل، الذي من ميزاته توزيع البطولة على الجميع، فكلّ من ظهر فيه هو شخصيّة مهمّة، تتلقّى عروضاً من المؤسّسات الاقتصاديّة لإنجاز ومضاتها الإشهاريّة، وبات الجزائريّون خارج وهران، خاصّة الشباب، يستعملون كلمات من اللهجة الوهرانيّة".
"علينا الاعتراف بأنّه مرّ علينا زمنٌ بعيدٌ لم يحدث أن عبّر فيه الجزائريّون عن واقعهم من خلال عبارات يقتطعونها من مسلسلٍ دراميّ".
يُضيف عبد السلام: "لقد بات روّاد فيسبوك يختارون من كلِّ حلقة مشهداً يتندّرون به، من باب انتقاد الواقع لا انتقاد المسلسل، من ذلك قول مليكة لزوجها خالد: "ادخل مبكّراً". يسألها: "لماذا"؟، فتجيبه: "هل تظنّ أنّ إنجاب ولد يحدث بالدعاء؟".
يختم عبد السلام في منشوره: "علينا الاعتراف بأنّه مرّ علينا زمنٌ بعيدٌ لم يحدث أن عبّر فيه الجزائريّون عن واقعهم من خلال عبارات يقتطعونها من مسلسلٍ دراميّ".
"المهم كفاءة الإنتاج لا جنسيته"
تلقّى المسلسل انتقادات كثيرة، أبرزها أنّه شبيه بالمسلسلات التّركية، وأنّه يستعمل لغة هجينة لا هي بالعربيّة ولا بالفرنسيّة، وأنّه يصبّ في تشويه مدينة وهران، حتّى أنّ بعض القنوات المنافسة للقناة التي عرضت المسلسل بثت لقاءات مع بعض سكّان المدينة طالبوا فيها بوقف بثّ المسلسل، لكن مع التقدّم في البثّ والتفاف المشاهدين حوله، اختفت كلّ هذه الأمور.
فنياً، كتب المخرج المسرحيّ يحيى بن عمار منتقدا في منشور له على “فيس بوك” أنّ ثمّة فوارق جسمانيّة بين بطلي المسلسل، "تكاد تكون فوارق عرقيّة صارخة. ممثّل أشقر بعينين زرقاوين، وممثل هو شقيقه في المسلسل بملامح عربيّة".
"شعوري بأنّ الحكاية أقرب إلى المسلسلات المصريّة الشّعبيّة منها إلى الأحياء الشّعبيّة الجزائريّة".
يضيف ساخراً: "ثمّ قارنت هذا التهوّر من قبل المخرج مع عنوان المسلسل، فقفزت من أعماق الذّاكرة أشياء"، في إشارة منه إلى احتمال الخيانة الزّوجيّة، التّي تبرّر تلك الفوارق في الملامح.
ولم "يهضم" يحيى بن عمّار بعض سلوكات شخوص المسلسل، منها إقدام إحدى ساكنات الحيّ الفقير على شراء ساندويتش بالأورو. ويرجعها إلى ما اعتبره "انعدام البحث التّاريخيّ والاجتماعيّ للمكان".
ويوجز يحيى رؤيته الانتقادية: "شعوري بأنّ الحكاية أقرب إلى المسلسلات المصريّة الشّعبيّة منها إلى الأحياء الشّعبيّة الجزائريّة".
وتساءل البعض حول دور "اللمسة التونسية" في نجاح العمل، حيث لعب الثلاثي التونسي الجنسية دورا هاما في إخراجه بتلك الصورة من خلال إخراج نصر الدين السهيلي، وسيناريو رفيقة بوجدّي، واختيار الممثلين لعاطف بن حسين.
يقول الممثل عبد القادر جريو أحد أبطال المسلسل لـ"رصيف22" إن الاستعانة بالكفاءات الأجنبيّة في الأعمال الفنّيّة، خاصّة في الجوانب التقنيّة، أمرٌ محمودٌ ومعمولٌ به في العالم، وإنّ نجاح مسلسل "أولاد الحلال" هو ثمرةٌ لتكامل الرّؤى والخبرات والتجارب والرغبة المشتركة في إنتاج عملٍ دراميٍّ يُحقّق نقلةً في الدراما الجزائريّة والمغاربيّة عموماً.
"اللمسة التونسيّة في المسلسل لا تخفى، لكنها كانت مرفقةً باللمسات الجزائريّة أيضاً، من ذلك المعالجة الدراميّة والحوار قام بهما فريقٌ جزائريٌّ صرف".
ويختم جريو قائلاً: "نحن بصدد الحديث عن عمل فنّيٍّ، الهاجس الذي ينبغي أن نركّز عليه هو كفاءة من أنتج لا جنسيّته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...