يأتي هذا المقال عقب تغطية رصيف22 للملتقى الثقافي الثالث والخمسين لمؤسسة بارجيل للفنون التي أسسها رائد الأعمال الإماراتي سلطان سعود القاسمي عام 2010، وهو المهتم بالشأن الثقافي والفني .
حاور القاسمي في هذا اللقاء الفنانة سميرة بدران بحضور عدد من الفنانين التشكيليين ومتابعي الفن وأصحاب المعارض الفنية والصحفيين. وهو لقاء تحدّثت فيه بدران عن إرث عائلتها الفني العريق، وعن أهمّ محطات في مسيرتها الفنية.
سميرة بدران التي ولدت في ليبيا، وتخرّجت من كلية الفنون الجميلة في القاهرة، ودرست في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا، هي ابنة الفنان الفلسطيني الراحل جمال بدران (1909 – 1999)، الذي يعدّ من أهمّ الفنانين الفلسطينيين، ومن أبرز خبراء الخط العربي والزخرفة الإسلامية، فناً وتدريساً. لعب والد سميرة دوراً أساسياً في تكوينها الفني، وكان أول من اكتشف موهبتها وشجّعها على دراسة الفن والتعمّق به.
لسميرة بدران تاريخ فني حافل بأعمال فنية متميّزة، تحضر فيها فلسطين بمدنها وقراها وأشجارها ونسائها وأطفالها وشهدائها. ولعلّ بدران كرّست أغلب أعمالها للحفاظ على الذاكرة البصرية الفلسطينية، التي حاول المحتل محوها بشتّى الأساليب والطرق
جمال بدران الأب الفنان والأستاذ الأول
ولد جمال بدران في حيفا عام 1909 وسافر في عمر الـ 13 عاماً إلى مصر، والتحق بالمدرسة المصرية للفنون والزخارف في الحمزاوي في القاهرة ، حيث درس الرسم والزخرفة لمدة خمس سنوات. وما إن عاد إلى فلسطين عام 1927، حتّى تم استدعاؤه من قبل المجلس الإسلامي الأعلى في القدس للمساهمة في ترميم بعض الأماكن في المسجد الاقصى المبارك بصفته فناناً محترفاً. فقام بتصميم الزخارف والكتابات الكوفية القريبة من المحراب التي نُفذت لترميم الفسيفساء.
والد سميرة، الفنان جمال بدران، رام الله، 1947 ©
وبعد عودته من مصر، درّس بدران الفن في أكثر من معهد وأقام دورات صيفية في دور المعلمين في فلسطين. بعدها سافر في بعثة إلى بريطانيا حيث تعمّق في دراسة النحت، والرسم بالباستيل، والخزف والتجليد الفني. وبعد عودته من المملكة المتحدة، ساهم في تأسيس أول برنامج لتدريس التربية الفنية في فلسطين ودرّس الفن في الكلية العربية في القدس إلى جانب إنتاجه لأعمالٍ فنية خاصة.
فاطمة علاء الدين الأم والمرأة الملهمة
تعرّف الفنان جمال بدران في إحدى الدورات الفنية التي كان يقيمها في دار المعلمات في رام الله، على فاطمة علاء الدين التي كانت تعمل مدرّسة في الدار. ووجد فيها امرأة مثقفة بارزة الحضور، فجمعته بها علاقة حب كبيرة تكلّلت بالزواج.
والدة سميرة، السيدة فاطمة علاء الدين، رام الله، 1963 ©
تخصّصت فاطمة علاء الدين، والدة سميرة، في التربية وفي اللغة العربية، وعملت في مجال التعليم، ونُشرت لها مقالات في عدد من الجرائد، انتقدت فيها النظام التعليمي. كانت، كما وصفتها سميرة بدران، أمّاً حكيمة ملهمة، عرفت كيفية التكيّف مع أصعب الظروف التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ونجحت في الحفاظ على جو أسريّ مليء بالدفء والحب.
منبر المسجد الأقصى
لعلّ أهم وأدقّ المشاريع التي عمل عليها الفنان جمال بدران، وأعزّها على قلبه، هو مشروع منبر المسجد الأقصى الذي أوكلت إليه مهمة ترميمه، بعدما قام يهودي متطرف بحرقه عام 1969.
صورة للمنبر عام 1930© صُنع المنبر في حلب سنة 1168 واحضره صلاح الدين الأيوبي إلى القدس عام 1187 بعد تحرير ها من الصليبيين
قام بدران، بحسب ما تذكر ابنته، بعمل توثيقي رهيب، استغرقه خمس سنوات كاملة، اعتمد فيها على قطع المنبر المتفحّمة وعلى الوثائق والصور القديمة التي استطاع الحصول عليها، ليسلّم لجنة الإعمار 31 رسمة للمنبر (بالحجم الطبيعي) تساعدها في ترميم المنبر وإعادته إلى صورته الأولى.
ولكن المؤلم والمؤسف في هذه القصة، أن لجنة الإعمار في فلسطين أوْكَلت مهمة تنفيذ مشروع المنبر إلى مكتب هندسي في الأردن اعتمد على رسومات الفنان جمال بدران في تنفيذ المنبر الجديد، لكنه أنكر جهوده وأخرج المنبر بشكل غير مطابق لصورته الأصليّة.
الفنان جمال بدران يعمل على رسومات المنبر المحروق في القبة النحوية قرب المسجد الأقصى في القدس 1975©
أعمال سميرة الفنية
لسميرة بدران تاريخ فني حافل بأعمال فنية متميّزة، تحضر فيها فلسطين بمدنها وقراها وأشجارها ونسائها وأطفالها وشهدائها. ولعلّ بدران كرّست أغلب أعمالها للحفاظ على الذاكرة البصرية الفلسطينية، التي حاول المحتل محوها بشتّى الأساليب والطرق.
المتأمّل في الفن الذي تقدّمه سميرة بدران يجد أعمالًا تتسم بالغموض وتعدد المستويات، وذلك بسبب استخدامها لتشكيلة واسعة من المواد، واعتمادها أحياناً على مزج أكثر من طريقة للتعبير في عمل فني واحد
المتأمّل في الفن الذي تقدّمه سميرة بدران يجد أعمالًا تتسم بالغموض وتعدد المستويات، وذلك بسبب استخدامها لتشكيلة واسعة من المواد، واعتمادها أحياناً على مزج أكثر من طريقة للتعبير في عمل فني واحد.
سنعرض فيما يلي مختارات من أعمال الفنانة سميرة بدران من مختلف مراحل مشوارها الفني، بدءاً من مشروع تخرّجها من أكاديمية القاهرة للفنون الجميلة 1976، وصولًا إلى آخر مشاريعها الفنية المستوحاة من جائحة كورونا.
مشروع تخرج أكاديمية القاهرة للفنون الجميلة 1976©
ركّزت بدران في هاتين اللوحتين على القيود الكثيرة التي تثقل كاهل الفلسطينيين والفلسطينيات. فبرزت فيها المرأة المقيّدة من كل جانب، والحصان المقطوع الرأس، المبتور القدمين؛ وهو تجسيد لتقييد الحركة وشلّها، والتضييق الكبير على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وهو ما سيظهر في أكثر من عمل فنيّ لبدران.
رام الله 1977-1978©
اللوحتان السابقتان تعكسان، بحسب بدران، الضياع والتشتت الذين يعيشهما الشعب الفلسطيني.
تعكس اللوحة الأولى هياكل السفن والتي تحولت بدورها إلى سجن كبير يحد من حركة الفلسطيني على أرضه.
أما اللوحة الثانية، ومع أنها نُفذت في السبعينات، فهي ممكن أن تُترجم لتعبّر عن مضمون معاصر، أي الوضع الحالي لللاجئين التائهين في البحر والذين لا يجدون شاطئاً يؤويهم.
القدس 1978©
رسمت سميرة بدران هذه اللوحة بعدما زارت القدس القديمة تحت الاحتلال، لتجدها مدينة غريبة عنها، مدينة نجح الاحتلال في تغيير ملامحها وطمس هويتها.
آلات البناء التي استخدمها الكيان المحتل، لم تر فيها بدران سوى آلات هدم للمدينة وتاريخها. فأرادت من خلال هذه اللوحة إظهار مدينة تئنّ تحت الضغط والقهر الذي تعيشه، بسبب المحو المتعمّد لتراثها وتاريخها الحضاري.
صور من أعمال سميرة بدران في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا 1981©
شكّلت المرحلة التي درست فيها سميرة بدران في إيطاليا مرحلة التواصل مع الفن العالمي، وهي مرحلة ساهمت في تطوير رؤاها الفنية وصقل موهبتها.
في هذين العملين استخدمت بدران تكنيك الرسم بالألوان المائية والنحت بالصلصال لتجسيد معاناة المرأة الفلسطينيّة بسبب الاحتلال من جهة، وبسبب القيود الاجتماعية المفروضة عليها من جهة اخرى.
قامت بدران بإعادة صياغة المفردات: فهيكل السفينة تحول الى قفص صدري وسجن في نفس الوقت في علاقة متضادة جمعت ظاهر الاشياء بباطنها.
ولجام الحصان الموضوع على وجه المرأة، هدفت من خلاله بدران التعبير عن سلب حرية المرأة والحد من رؤيتها وحرمانها من القدرة على التحكم بالأمور. ورغم كل ذلك، تبقى المرأة الفلسطينية عملاقة شامخة، مصممة على المواجهة ومتمسكة بالحياة.
القدس 1986©
تناولت بدران موضوع القدس مرة خرى من خلال رسم أربع لوحات كبيرة الحجم بالألوان الزيتية والأكريليك مستخدمة تعبيريّة اللون لنقل الصراع والتشوه الكبير الذي تعيشه مدينة القدس، بسبب محاولات الاحتلال الدائمة لتغيير صورتها ومحو ذاكرة الشعب الفلسطيني البصرية.
1987-1992©
في الفترة الممتدة بين 1987 و1992 وجدت سميرة بدران نفسها غير قادرة على الذهاب إلى فلسطين، بسبب الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بها البلاد. فبحثت، وهي المقيمة في برشلونة، عن حلقة وصل تربط ما بين المجتمع الغربي الآلي الذي تعيش فيه وبين مجتمعها الفلسطيني الزراعي. فوجدت أن الأدوات الزراعية البدائية المستخدمة في فلسطين هي نفسها موجودة في إسبانيا ولكن بشكل أكثر تطوّراً. فركزت على هذه الأدوات كنقطة انطلاق لخلق عوالم جديدة من خلال البحث في شفافية اللون وقدرته التعبيرية.
Collage بالأسود والأبيض©
أحد خصائص الممارسة الفنية عند سميرة بدران هو البحث الدائم عن طرق تعبيرية جديدة. وهذا يظهر في سلسلة الأعمال التي لخصت فيها "اللون" الى الأبيض والاسود.
في الأعمال السابقة استخدمت تكنيك الكولاج والفوتوكوبي والورق الشبه شفاف.
لوحة "الكرسي المتحرك" حاولت من خلالها بدران التعبير عن استراتيجية مدروسة يطبقها الكيان الصهيوني لإعاقة الشباب الفلسطيني، وخلق مشاكل دائمة للشبان وعائلاتهم تضيف إلى مأساتهم وألمهم.
قطعة فنية يتداخل فيها الرسم والتصوير الفوتوغرافي©
في هذا العمل الفني تستخدم بدران تقنية الرسم على الصورة الفوتوغرافية وركّزت على موضوع الأرجل والأطراف الاصطناعية. عالجت بدران مرة أخرى موضوع التشويه المتعمّد للأطراف الذي مارسه الجنود الاسرائيليون لشلّ حركة الشباب الفلسطينيين واعاقتهم إلى الأبد. وتعكس من خلال هذا العمل الفني أيضاً، فكرة تقسيم الأرض والجسم وتجزأتهما، وما يترتّب عليه من محو الهوية والتراث.
عمل تركيبي، الباب الدائري من وحي نقاط التفتيش التي تقيمها السلطات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة©
هذا العمل التركيبي الذي صمّمته بدران، هو استعارة بصرية ومادية تجسد ملامح الأسر وتضييق الخناق، كما يتجليان في تجارب المرور عبر حاجز قلنديا المزدحم الضيق بين رام الله والقدس.
أسماء 418 قرية فلسطينية تعرّضت للمحو عام 1948©
الصورة السابقة هي لقطة من فيلم " ذاكرة الارض" الذي تطرقت فيه بدران إلى بعض مظاهر الاحتلال والعنف الاسرائيلي عام 2017.
باستخدام الليزر للحفر على الخشب، اختارت بدران تخليد 418 قرية فلسطينية تعرّضت للمحو على يد الكيان الإسرائيلي عام 1948. تُظهر هذه اللقطة فكرة تقسيم الأرض، التي تربطها سميرة بدران بتجزئة العقل واستنزاف الطاقات الفلسطينية، لتقول للعالم: إنّ النكبة ما زالت مستمرة!
الحجر الصحي، 2020 هذه الأعمال قامت بعملها مع زوجها الفنان جاومه سيرا
وجدت الفنانة سميرة بدران نفسها حبيسة منزلها في برشلونة، بسبب قوة موجات الكوفيد 19 التي ضربت إسبانيا، وهو ما جعلها تقوم مع زوجها الفنان جاومه سيرا بإعادة تشكيل فيروس كورونا بطريقتهما الفنية الخاصّة، من خلال الجمع بين مواد عدّة، واستخدامها لتجسيم "كورونا" جديدة متغيرة الشكل.
للإطلاع على المزيد من أعمال الفنانة سميرة بدران الفنية يمكنكم زيارة الموقع الإلكتروني التالي:
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...