"ضع روحك على كفّك وامشِ"... هل سيصدّقكِ العالم يا فاطمة؟ 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 22 مايو 202510:19 ص

في قاعة سينمائية أنيقة في مهرجان "كان" السينمائي الدولي، خرجت فاطمة حسونة، من شاشة العرض، لا كأداءٍ تمثيلي بل كحقيقةٍ تُربك التوقعات وتُربّي الرجفة في القلب.

"ضع روحك على كفّك وامشِ"؛ للمخرجة الإيرانية سبيده فارسي، ليس فيلماً نحتاج إلى أن نصفه، بل شهادة حيّة عن فتاةٍ من غزّة، اسمها فاطمة حسونة، أرادت أن تحلم كما يفعل سائر البشر، وأن تحيا على طريقتها، فاختارت أن تمشي بكامل روحها في حقل ألغامٍ اسمه الحياة تحت القصف.

فاطمة، التي استشهدت قبل أن ترى الفيلم مكتملاً، لم تكن تمثّل، ولم تكن تتقمّص دوراً، بل كانت ببساطة تمارس الحياة في لحظة كانت الحياة نفسها فيها تتآمر عليها.

الفيلم ليس وثائقياً عادياً، بل رسالة، وشهادة حيّة، ونداء لم يُكمل نطقه إلا بالصمت.

التوقيت وحده يضفي عليه بُعداً وجودياً، فقد استشهدت فاطمة في 16 نيسان/ أبريل 2025، بعد يومٍ واحد فقط من إبلاغها رسمياً بأنّ الفيلم الذي سجّلته بكاميرا هاتفها من قلب الإبادة، سيُعرض في "كان". لم ترَ الفيلم، لكنها صنعته. لم تصعد الدرج الأحمر، لكنها جعلت الشاشة تمتلئ بحقيقتها.

ما يميّز الفيلم حقاً، هو أنه لا يستدرّ دمعةً، ولا يتوسّل تعاطفاً. سبيده فارسي، بخبرتها الطويلة في التوثيق من مناطق الصراع، تعاملت مع فاطمة، كندّة، لا كموضوع. لم تسعَ إلى تلميع صورتها أو إبراز بطولة خارقة، بل تركت الحياة تسير، وعدستها تراقب بتواضع. وهذه الجرأة، في زمن تُبتذل فيه القضية الفلسطينية بتصنيفات عاجلة، هي بحدّ ذاتها موقف فنّي وأخلاقي.

"ضع روحك على كفّك وامشِ"؛ للمخرجة الإيرانية سبيده فارسي، ليس فيلماً نحتاج إلى أن نصفه، بل شهادة حيّة عن فتاةٍ من غزّة، اسمها فاطمة حسونة، أرادت أن تحلم كما يفعل سائر البشر، وأن تحيا على طريقتها، فاختارت أن تمشي بكامل روحها في حقل ألغامٍ اسمه الحياة تحت القصف

لغة الصورة والصوت: صدق يهزّ المشهد

في العرض الأول، وصلني فيديو من صديق يُريني فيه كيف وقف جمهور "كان" دقيقة صمت لروح فاطمة. لم تكن دقيقة صمتٍ بروتوكوليةً، بل لحظة اعتراف بأنّ السينما قادرة، في أقسى لحظاتها، أن تُعيد للغائبين حضوراً لا يُمحى.

 كانت صورة فاطمة على الشاشة كبيرة، بسيطةً، وحقيقيةً… تماماً كما أرادت أن تكون.

من الناحية البصرية، لا يعتمد الفيلم على بنية تقليدية، بل على سلسلة من المكالمات المصوّرة بين فاطمة، والمخرجة الإيرانية سبيده فارسي. هذه الكاميرا ليست "عدسةً"، بل امتداد لحواس فاطمة: تتحرّك بخفّة وصدق، ولا تخضع لقواعد التكوين البصري المعتادة، لكنها تُدهشك بكمّ الصدق الذي تنقله. لم تكن تبحث عن جمال اللقطة، بل عن أثرها.

لم تكن فاطمة مجرد فتاة فلسطينية. كانت رمزاً لجيل يمشي على خط النار وفي قلبه سلام

الكاميرا تهتزّ، الضوء ضعيف، الظلال طبيعية، والتعب ظاهر، لكن الصورة أكثر واقعيةً من أي مشهد مصقول.

الصوت في الفيلم خام، حقيقي، ومدموغ بصفير القذائف أو بانقطاع الاتصال، لكنه يقدّم فاطمة بصوتها الثابت، الحيّ، الذي يحمل من الثقة ما يُحرج كل من له علاقة بالسينما.

لا صوت خارجياً، لا تعليق، وحدها فاطمة تسرد، وهذه ليست تقنيةً فحسب، بل موقف أخلاقي من المخرجة: أن تُبقي للصوت المحاصر حقّ أن يُسمع.

فاطمة… من شاهدة إلى صانعة معنى

المونتاج يتنقل بين المحادثات مع فاطمة، ولقطات من غزّة، دون أن يطغى على حضورها، بل يعزّزه، لا قفزات زمنيةً عبثيةً، بل بنسق يحاكي يومياتها؛ تحضير الطعام، الضحك، إصلاح الحجاب، الركض نحو الشباك لتصوير الدخان. هذه التفاصيل الصغيرة، العابرة ظاهرياً، كانت سلاحها ضد النسيان. كل مشهد بدا مرشحاً لأن يكون الأخير، ما جعل كل لحظة مكثفة، نابضة، كأنّ الحياة تتسابق مع القصف.

وفي لحظة بسيطة لكن مذهلة، تظهر فاطمة وهي تضحك وتصلح حجابها قائلةً: "ما عندي وقت أحطّ فلتر". هذه العبارة تلخص كل شيء: لا وقت للزينة في مكان تموت فيه الحقيقة كل يوم. تقول في لحظة أخرى: "عيني ما عادت تقدر توثّق، لكن قلبي يقدر"، وفي هذا الاعتراف تتحوّل من شاهدة على الحدث إلى صانعة معنى، ومن ضحية إلى صوت لا يُمحى.

الفيلم لا يعرض فاطمة، كسيرة ذاتية، بل يبني شخصيتها من تفاصيل يومية. نراها تضحك، تغضب، تمزح، وتصمت… وفي تلك اللحظات كلها تكشف شيئاً جديداً عن نفسها. في النهاية، نقف أمام شخصية مكتملة، لا بحجم الدور، بل بعمق التجربة.


الفيلم لا يعرض فاطمة، كسيرة ذاتية، بل يبني شخصيتها من تفاصيل يومية. نراها تضحك، تغضب، تمزح، وتصمت… وفي تلك اللحظات كلها تكشف شيئاً جديداً عن نفسها. في النهاية، نقف أمام شخصية مكتملة، لا بحجم الدور، بل بعمق التجربة.

عندما انتهى العرض، قيل لي إنّ الجمهور لم يصفّق مباشرةً، بل ساد الصمت.

ذلك الصمت النبيل الذي لا يأتي إلا بعد صفعةٍ على الوعي. لم تكن فاطمة مجرد فتاة فلسطينية. كانت رمزاً لجيل يمشي على خط النار وفي قلبه سلام. كان وجهها على الشاشة كبيراً، بسيطاً، وحقيقياً… تماماً كما أرادت أن تكون.

فاطمة لم ترَ الفيلم، لكنها صنعته. لم تصعد الدرج الأحمر، لكنها جعلت الشاشة تمتلئ بحقيقتها.

لأنها كتبت نهايته دون أن تدري.

قالت ذات مرة، وهي تمسك بكاميراها: "يمكن ييجي يوم ويتفرجوا علينا مش لأننا متنا، بس لأنّا حكينا بصدق".

"ضع روحك على كفّك وامشِ"، ليس عن غزّة فحسب، بل عن الإنسان عندما يُحاصَر لكنه يصرّ على الحكي. فاطمة لم تكن عيناً ترصد فحسب، بل قلباً ينبض في زمن ضيّق. في اختيارها الحكي، كانت تفتح نافذةً، وفي كل تفصيل كانت تقول: "أنا هنا… ولستُ رقماً".

وها هو ذا العالم يتفرّج… فهل يصدّق يا فاطمة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image