عندما بدأ الإنجيل بـ

عندما بدأ الإنجيل بـ"بسم الله تبارك وتعالى"... ترجمات الكتاب المقدس الممنوعة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والخطاب الديني

الأربعاء 14 مايو 202501:32 م

تكررت محاولات ترجمة التوراة والإنجيل إلى العربية في فترات تاريخية كثيرة، أقدمها ربما ترجمة أسقف إشبيلية في إسبانيا سنة 24 م، مروراً بطلب القائد العربي عمرو بن سعد من البطريرك السرياني الأرثوذكسي يوحنا ترجمةَ الكتاب المقدس إلى العربية سنة 639 م، والتي تلتها تجارب كثيرة متفرقة وترجمات ناقصة أو غير دقيقة، أو لم تكن محظوظة لتنتشر كفاية، مثل الترجمة اليسوعية على يد الآباء اليسوعيين في لبنان، والتي تمت سنة 1880 وظلت مستخدمة في الكنيسة الكاثوليكية لقرن واحد فقط.

سنة 1865 في بيروت، ترجم بطرس البستاني والمرسل الإنجيلي كرنيليوس فانديك، الترجمةَ الأشهر للكتاب المقدس على الإطلاق، المعروفة بالترجمة البيروتية (كما يُطلق عليها في الكنيسة القبطية)، والتي ستصبح أساس الكتاب في الكنائس العربية.

كانت لتلك الترجمة -وهو ما قد يبدو بديهياً- طابع مسيحي بحت، حيث حافظت على أسماء الأشخاص المأخوذة من اللغتين العبرية واليونانية، بالإضافة إلى أسلوب السرد، وهو شيء مهم جداً في هوية أي كتاب مقدس. فلو قرأنا أي آية من القرآن وأخرى من الإنجيل، حتى إن لم نكن نتذكرها أو نعرفها، سنستطيع بسهولة التفرقة بينهما.

يعتقد الكثير من الباحثين أن التعصب والتفرقة بين الديانتين المسيحية والإسلامية بعد القرن الحادي عشر الميلادي أدّيا إلى ظهور اللغة العربية المسيحية، التي تختلف عن مثيلتها الإسلامية، والتي انعكست بالتأكيد على الكتاب المقدس وحتى الترانيم، التي لو سمعنا بعضها اليوم سنلاحظ في أغلبها لكنةً مميزة في أسلوب الكتابة.

يعتقد الكثير من الباحثين أن التعصب والتفرقة بين الديانتين المسيحية والإسلامية بعد القرن الحادي عشر الميلادي أدّيا إلى ظهور اللغة العربية المسيحية، التي تختلف عن مثيلتها الإسلامية، والتي انعكست بالتأكيد على الكتاب المقدس وحتى الترانيم

في سنة 1973، بدأت دار الكتاب المقدس العالمية في إصدار نسخة جديدة معاصرة تحت اسم "كتاب الحياة"، وهي نسخة تستخدم لغة عربية أسهل وأدق، لم تعتمد على الحرفية البحتة للنسخة التي اشتهرت بترجمة فانديك، لكنها ظلت تحمل الطابع المسيحي المعروف، مما جعلها، بجانب نسخة 1965، النسختَين المعترف بهما في أوساط الطوائف المسيحية العربية الكبرى الثلاث (الأرثوذكس، الكاثوليك، والإنجيليين) تحت سيطرة دار الكتاب المقدس، المحتكر الأكبر، والمكوّن من 156 داراً حول العالم.

وتلتها الترجمة الجديدة (العربية المشتركة)، التي تمت في بيروت تحت رعاية جمعيات الكتاب المقدس على يد رجال دين من الطوائف الثلاث. وجاء في مقدمتها:

"هذه الترجمة هي أول ترجمة عربية وضعتها لجنة مؤلفة من علماء كتابيين ولاهوتيين ينتمون إلى مختلف الكنائس المسيحية من كاثوليكية وأرثوذكسية وإنجيلية... في هذه الترجمة، استندت اللجنة إلى أفضل النصوص المطبوعة للكتاب المقدس في اللغتين العبرية واليونانية".

لكن من الواضح أن بعض الجهات رأت في شكل الترجمة المنتشر تنافراً بينها وبين الهوية والطابع العربي، بما يضع حدوداً بين الفكر المسيحي والشخصية العربية، استناداً إلى أن الهوية الدينية تقوى أحياناً من تشابهها مع مكان المنشأ واللغة، على عكس الهوية المسيحية العربية القديمة، التي تشابهت وتماشَت مع الطابع العربي. وقد بدأت ترجمات الكتاب المقدس القديمة في القرن الحادي عشر ببسم الله الرحمن الرحيم، بجانب الكثير من المخطوطات المسيحية العربية. وهو أمر أكّده القس أكرم لمعي، مسؤول الإعلام بالطائفة الإنجيلية المصرية، نظراً لكونها ببساطة تحية عربية لا تنفي الهوية المسيحية ولا ألوهية المسيح، بينما يُذكر أن البطاركة الأقباط كانوا يبدؤون رسائلهم بـ"بشم ألوهه رحمانو رحيمو"، خصوصاً لنظرائهم السريانيين، وهي تحية يؤكد بعض الباحثين أنها تعود حتى إلى ما قبل الإسلام بستمئة عام، وهي أساس البسملة المعروفة.

من أشهر تلك المحاولات، محاولة "الكتاب الشريف"، وهي ترجمة بدأت، حسب الموقع الرسمي لها، سنة 1990 بشكل جزئي للعهد الجديد فقط، ثم اكتملت سنة 2000 للكتاب المقدس كله. يستهل مترجمو تلك النسخة مقدمتها بـ: "لا إلَه إلا الله، له الحمد، ومنه الإنعام والجود والهداية".

ثم يحاول إثبات أصل معنى "لا إله إلا الله، الله واحد، ولا شريك له"، في الكتاب المقدس، لتصبح مقدمة اعتيادية لتلك الترجمة.

تكررت محاولات ترجمة التوراة والإنجيل إلى العربية في فترات تاريخية كثيرة، أقدمها ربما ترجمة أسقف إشبيلية في إسبانيا سنة 24 م.

محاولة الربط بين مصطلحات متجذرة ومن صميم الدين الإسلامي في تلك الترجمة للكتاب المقدس كانت كثيرة جداً، بدءاً من اسمها "الكتاب الشريف"، على وزن "المصحف الشريف"، وطباعة غلاف الترجمة بنفس النقوش واللون الأخضر المميز للمصحف، إلى أسماء الأشخاص العربية، فمثلاً يوحنا المعمدان، الشخصية البارزة في المسيحية في قصة المسيح، أصبح يُدعى "يحيى" كما هو اسمه الإسلامي، النبي يحيى ، وصولاً إلى اسم المسيح نفسه، حيث يُطلق عليه "عيسى". والحجة المنقولة من الموقع هي: "قال الملاك ليوسف إن مريم، ‘سَتَلِدُ ابْنًا وَأَنْتَ تُسَمِّيهِ Ἰησοῦν (إيسو) لِأَنَّهُ سَيُنْقِذُ شَعْبَهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ’". (بشارة متّى 2: 21).

"معظم الترجمات العربية استخدمت اسم فادينا المبارك "يسوع" نقلاً عن الترجمة السريانية "يشوع"، وهو مأخوذ عن الاسم العبري. أما الاسم "عيسى"، وهو المألوف بالنسبة لكل من يعرف العربية، فواضح أنه قريب من الاسم اليوناني. لذلك تستخدمه هذه الترجمة".

لكن في سياق الترجمة اللغوية نفسها، تظل مشابهةً لكتاب الحياة.

القائم على هذه الترجمة هو جمعية شريف الدولية للكتاب المقدس ISBS ، التي بدأت في فرنسا، ويقع مقرها في كاليفورنيا، ولها مقر تشغيلي في مصر، رغم رفض الطوائف المسيحية الكبرى في مصر لهذه الترجمة. ربما يعود السبب وجود مقر لها في مصر الاعتقاد بأن القائم على الترجمة العربية هو المصري صبحي ملاك. ولا يوضح الموقع هذا.

الطائفتان الأرثوذكسية والكاثوليكية أعلنتا رفضهما للترجمة شكلاً ومضموناً، وطلب البابا شنودة وقتها مع قيادات الطوائف منع نشر "الكتاب الشريف" في مصر، مما أعاد شحنة مكونة من 50 ألف كتاب كانت ستدخل البلاد إلى مصدرها، رغم إبلاغ الدنمارك مصرَ مسبقاً بإرسال تلك الشحنة.

كان المتهم الرئيسي في هذه القضية الطائفة الإنجيلية (البروتستانتية)، رغم رفض الطائفة دخول الترجمة وعدم ذكر جمعية الشريف لانتمائها لطائفة، بل اعتبار نفسها جمعية عابرة للطوائف.

سبب الاتهام هو اعتبار الهدف الرئيسي للترجمة هو التبشير المسيحي للمسلمين، باستخدام ترجمة قريبة من لغتهم وشكل الكتاب المقدس في مخيلتهم ومصطلحاتهم، حيث تم توزيع تلك النسخة بشكل كبير من قِبل خادمين ومتطوعين للجاليات العربية في الخارج، كما يثبت تحقيق "المصري اليوم"، ووجود صور لنساء محجبات وشيخٍ سُنّي يرتدي الجلباب وله لحية ذات طابع إسلامي يقرأ الإنجيل على موقع الجمعية.

وبرغم أن أغلب من يقومون بالتوزيع لم يذكروا انضمامهم لطائفة أو منظمة ما، إلا أنه من المعروف تاريخياً أن الطائفة البروتستانتية صاحبة أكبر حركات ومنظمات تبشيرية في العالم، حيث يعتبر التبشير عمود الفكر الإنجيلي الجامع للكنائس البروتستانتية، واشتهرت الطائفة بطرق التبشير الإبداعية على مدار السنين، لكن ذلك كلف الطوائف الأخرى إثبات عدم محاولتها التبشير المسيحي في المنطقة العربية بتلك الترجمة أو بغيرها، نظراً لأنه شيء ممنوع في أغلب دول المنطقة. عموماً، لم ترفض الطائفة المصرية مضمون الكتاب بل اعتبرته ترجمة قريبة للمواطن العربي أو شرحاً تبسيطياً هدفه تعريف المواطن المسلم الذي لا يفهم لغة الإنجيل وليس تبشيره.

إذا كانت الترجمات الحديثة محاولة للتبشير ونشر الفكر المسيحي بين المسلمين العرب، أو كانت محاولة لتعريب المسيحية أو مجرد نظرة مختلفة للكتاب المقدس، فإنها ما زالت تعاني من احتكار الترجمة من قبل الطوائف الكبرى

المحاولة الثانية والتي كانت أقل حظاً هي ترجمة "المعنى الصحيح لكتاب المسيح"، بنفس الغلاف الإسلامي الطابع المأخوذ من كتب الأحاديث. تأتي الترجمة وكأنها من تأليف مفكر إسلامي أو جزء من أجزاء كتب تفسير القرآن. على غلافها اسم مترجمها الهادي جطلاوي عميد كلية الآداب–تونس مع آخرين. أتبعت نفس أسلوب الكتاب الشريف في اعتماد الأسماء العربية بالإضافة إلى بدء الأسفار بـ "بسم الله تبارك وتعالى"، وذهبت إلى قول "عليه السلام" بعد ذكر اسم أي نبي و"قول الله سبحانه وتعالى"، وأتبعت أسلوب ترجمة بعيد عن الحرفية تماماً يعتمد التبسيط الكامل. بل تدعي في مدخل سفر التكوين أن السفر قدم شرحاً لبدء الكون مناسباً للناس في الأزمنة القديمة، لكنه لا يناسب الناس في العصر الحديث ولا لتفسيرات العلوم الحديثة.

ظهرت الترجمة بشكل أولي بارز في 2017 حين قدمت كلية اللاهوت المعمدنية العربية جلسة مناقشة حولها. قدمت فيها مخاوف من عدم دقة الترجمة وعدم توضيح لاهوتية المسيح فيها وعدم استخدام مصطلحات الأب والابن ولا إثبات تساوي المسيح الأب مع الله وهي أساس الإيمان المسيحي. بل تذهب الترجمة أحياناً لإظهاره كنبيّ.

حتى جاءت 2020 وتم إثارة الجدل حولها مرة أخرى حين تم توزيع نسخة من تلك الترجمة على بيوت مسيحية مصرية في بعض المحافظات على يد مجموعة لا طائفية، وخاصة في صعيد مصر. الشيء الذي اعتبرته جريدة "الدستور" محاولة للتشويش على ثوابت الكنيسة المصرية ومحاولة لشق الصف المسيحي وإثارة البلبلة، بينما اعتبر الأنبا أرميا، الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، كتاب "المعنى الصحيح لإنجيل المسيح" هرطقة وهدماً للعقيدة المسيحية. وتكرر رفض الطوائف الثلاث الترجمةَ بشكل قاطع وبشكل أشد من رفضهم للكتب الشريف، حيث أعلنت الطائفة الإنجيلية ودار الكتاب المقدس إخلاء مسؤوليتهما عن الترجمة تماماً وأنهم لم يشاركوا بمؤسسات أو أشخاص في تلك الترجمة.

بينما قدمت لجنة الكتاب بيان محبة وعتاب أعلنوا فيه أنها كانت محاولة لترجمة الكتاب بلغة عربية أصيلة، حيث جاء في البيان: "المعنى الصحيح لإنجيل المسيح"، وجزؤه الثاني "البيان الصريح لحواري المسيح"، ترجمة بلفظ مسيحي عربي أصيل من نحت لغة الأجداد، تنقل عن الأصل اليوناني "فكرة بفكرة"، لا "كلمة بكلمة".

في النهاية، إذا كانت الترجمات الحديثة محاولة للتبشير ونشر الفكر المسيحي بين المسلمين العرب، أو كانت محاولة لتعريب المسيحية أو مجرد نظرة مختلفة للكتاب المقدس، فإنها ما زالت تعاني من احتكار الترجمة من قبل الطوائف الكبرى، التي تمنع حتى تداولها إلا بموافقتهم رغم عدم امتلاك جهة لحقوق الكتاب المقدس لدينٍ كتب منذ مئات السنين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image