شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"لا أريد أن أكون أماً" الفلسفة اللاإنجابية بين الأمس واليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 5 مارس 201805:22 م
"أنا في الخامسة والثلاثين من عمري الآن. لا أشعر برغبة في الإنجاب على الإطلاق. أسمع نساء أخريات يتحدثن بحتمية عن تلك الساعة البيولوجية التي ستدق في جسدي  قبل بلوغ الأربعين. يحذرونني أنني سأندم حيث لا ينفع الندم. لا أنكر أن كلامهن يخيفني أحياناً، يشعرني بالإرباك أحياناً أخرى. مع ذلك لا زالت أنانيتي تتفوق على كلامهن. أشعر أن الكثير ما زال ينقصني شخصياً. ولا أريد أن أتشارك حياتي مع كائن يقولون إنه سيصبح لدي أهم من ذاتي". سارة (اسم مستعار).
[br/]
"لم تكن طفولتي سهلة. مرت علي لحظات كثيرة شعرت بها بالخوف والحرمان. انعدام الأمان الذي عشته نتيجة ظروفي الأسرية جعلني عندما كبرت أكره فكرة الطفولة وهشاشتها. اليوم قبل بلوغي الأربعين بقليل لا أشعر بالندم دون أطفال. ساعدني في ذلك زوجي الذي كان يرفض فكرة الإنجاب منذ البداية. أقول لنفسي مراراً كيف أنجب طفلاً دون أن أضمن له حياةً سعيدة؟ أوقن أن السعادة في هذا العالم غير مضمونة، ولا أريد لهذا الطفل أن يمر بما مررت به". دينا (اسم مستعار).
[br/]
"العالم مليء بأطفال دون أهل نتيجة الحروب وغيرها. عندما أصبح جاهزة للاعتناء بطفل، سيكون بالتبني، فلماذا أنجب أطفالاً آخرين إلى عالم مليء بأطفال متروكين دون رعاية وعاطفة؟". مهى (اسم مستعار).
[br/] هذه بعض الشهادات اللواتي سمعناها من نساء قررن عدم الإنجاب، رغم ضغط مجتمعاتهن وأسرهن التي تضعهن في قالب محدد سلفاً، يشكل فيه الزواج، وبالتالي الإنجاب، ركناً أساسياً في الحكم على المرأة، على اختلاف تحصيلها العلمي وحياتها المهنية أو مستواها الاجتماعي. في تلك الشهادات الثلاث فضلت النساء كتم أسمائهن الحقيقية. يعكس ذلك خوفاً من مشاركتهن العلنية لقرار “اللاإنجاب" على الرغم من اقتناعهن به، وهو خوف كرسته تلك المجتمعات التي قد تتغاضى عن عدم الإنجاب (على مضض) طالما يستتر بأسباب "موضوعية" كالنصيب و"مشيئة الله". كله مقبول شرط ألا يقال بالفم الملآن إن الامتناع عن الإنجاب خيار شخصي. في هذه الظروف التي لا تزال فيها نساء كثيرات يصارعن الصورة النمطية لإثبات "كمالهن" الإنساني من دون حملهن للقب "أمهات"، قد يساعد التذكير بأن فلسفة “اللاإنجاب" ليست مستجدة، وأن لها جذوراً تعود إلى تاريخ اليونان القديم.

"هذا ما جناه عليّ أبي... وما جنيت على أحد"

في التراجيديا الإغريقية الشهيرة التي كتبها سوفوكليس (496 - 406 ق.م) تحت عنوان "أوديب في كولونا"، يقول الروائي المأساوي المسرحي الشهير "عدم الوجود، أيها الرجل، لهو الكلمة الأسمى، الكلمة الأعظم". حتى هوميروس، صاحب الملحمتين الإغريقيتين الإلياذة والأوديسة، أجاب عندما سئل "ما الأفضل للإنسان؟" بالقول "الأفضل هو ألا يُخلق، وإن فشل في ذلك، فالأفضل له أن يمر بأسرع ما يمكنه عبر بوابات هاديس (ملك العالم السفلي/ عالم الموتى)". وقد شاركه في هذا الموقف الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس في قوله الشهير "أفضل شيء بالنسبة للبشر ألا يولدوا، وألا يكونوا في هذا العالم. إنه الخيار الأفضل إن كان متاحاً، أما الخيار المفضل الثاني إذا حدث وولد أحدهم فهو أن يموت بأسرع ما يمكن". وعند ذكر الفلسفة اللاإنجابية، يحفظ التاريخ للشاعر العربي "أبو العلاء المعري" القول الذي أوصى أن ينقش على شاهد قبره "هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد"، كتعبير عن حياة تعذب فيها بعدما ولد، بينما وفر على غيره قسوتها. وقد انتقد المعري الإنجاب في مناسبات عدة، كان من بينها حين قال "الإنجاب هو عقد إيجار غاب فيه التراضي، فالأجير لم يبلغ ولم يحضر، وهذا غبن". وبين هؤلاء كان التاريخ قد شهد عدداً من المجموعات التي اعتبرت اللاإنجاب انتقاماً من إله شرير غاضب، وبينها جماعات مسيحية مثنوية مبكرة كالمرقيونية، في العام 144م، التي رأت في الإله العبري إلهاً شريراً حقوداً ولا يجوز مده بالأولاد الجدد، فيما دعوا إلى ترك عالمه. وإن اتخذت هذه الفلسفة سابقاً بعداً عدمياً، فيه الكثير من التشاؤم، إلا أنها تطورت لاحقاً على يد فلاسفة ومفكرين كثر رأوا فيها، كنوع من التعاطف المسبق، ضرورة متزايدة في عالم لم يعد يحتاج لمخلوقات جديدة تعاني فيه. اليوم، تحول شعور الشفقة على الأطفال القادمين، والدعوة لتوفير هذا الظلم عليهم، إلى أسلوب حياة بدأ يتوسع حول العالم ويجد من يتبعه ومن يروج له.
"أفضل شيء بالنسبة للبشر ألا يولدوا، وألا يكونوا في هذا العالم" هل توافقون على أننا نحتاج التوقف عن الإنجاب؟
عن الفلسفة اللاإنجابية، التي يعتبرها الكثيرون ضرورة في عالم لم يعد يحتاج لمخلوقات جديدة تعاني فيه...

كيف تطورت هذه الفلسفة؟ وما هي منطلقاتها؟

"لأن رجلاً ما استمتع بلذة الإنجاب، فإن آخر (طفله) يجد نفسه مضطراً إلى أن يعيش وأن يتألم، وأن يموت في نهاية المطاف. كيف لا يستطيعان أن يكونا شيئاً واحداً". يرجع هذا القول إلى الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788 - 1860م)، الذي يعتبر ربما من أوائل من طرحوا "الفلسفة اللاإنجابية" كضرورة إنسانية أخلاقية. وقد عُرف شوبنهاور بفلسفته التشاؤمية، إذ يرى الحياة كشر مطلق، "خدعة لا تهبنا سوى الأوهام جملة وتفصيلاً". في ظل هذا البؤس المحيط يرى شوبنهاور إنجاب طفل إلى العالم قراراً غير منطقي. وهنا يطرح تساؤله "الأخلاقي" قائلاً "لو كان الإنجاب قراراً عقلانياً بحتاً، هل كان الجنس البشري ليستمر؟ ألن يمتلك الإنسان من شفقة تكفي ليعفي الجيل القادم من قسوة الوجود؟". وإذا عدنا إلى حياة شوبنهاور نفسها نجد أن شفقته على نفسه ولدت لديه مثل هذه الفلسفة، فحياته ملأها البؤس بموت والده واتهام والدته بقتله، ثم معاملتها السيئة لشوبنهاور الابن وصولاً إلى جعله يكره "جنس النساء جميعاً"، ويرى فيهن صورة الغدر المرعبة، فلم يتزوج ولم ينجب، وعاش بانتظار الموت. في المقابل، بنى ديفيد بينيتار، أشهر فلاسفة اللاإنجاب، نظريته على أسباب عقلانية. في مقالته التي حملت عنوان "نحن مخلوقات لا يجدر بها أن تخلق"، يرد رئيس قسم الفلسفة في جامعة كايب تاون على مناصري الإنجاب الذين يقولون إن صعاب الحياة تشكل متعة عيشها، بالقول أن الأبحاث النفسية تؤكد أن الناس هم عرضة لوهم التفاؤل الذي يجعلهم يستخفون بثقل تلك الصعاب. ويضيف صاحب كتاب "الأفضل ألا تأتي أبداً: ضرر القدوم إلى الوجود" مذكراً بالصعاب المتمثلة بالفقر والفقر المدقع وبالأمراض المستعصية والأوبئة المتفشية فضلاً عن حالات الإرباك والاكتئاب وازدواج الشخصية ومشاكل كثيرة أخرى. ويلفت بينيتار إلى أن الجنس البشري أثبت أنه جنس مدمر. على مر العصور، قُتل المليارات من البشر والحيوانات وتسبب بمعاناة للكثيرين، وعليه لو كان هناك جنس آخر مدمر كالإنسان لقلنا أن عليه التوقف عن التكاثر حتماً. وينفي بينيتار عن مناصري اللاإنجابية تهمة العدمية التي طالما صبغوا بها، فيقول إن العدميين لا يأبهون لشيء، بينما بحسب نظريته فإن الدعوة لوقف التكاثر هي لمصلحة الجنس البشري وتجنيبه المعاناة. كما أنه ينفي ترويجهم لدعوة الانقراض، فيقول إنه يعارض الانتحار لأنه كما الجريمة يؤديان إلى مشاكل أخلاقية إضافية، تتعارض مع حقوق أولئك الذين لا يودون الموت.

"لنساعد بعضنا على الانقراض"

في مقالته ذكر بينيتار بمسلسل "True detective" الذي يعد من أبرز المسلسلات التي روجت للفلسفة اللاإنجابية، وتحديداً في العالم العربي، وذلك عبر المحقق الذي يدعى روستن كوهل والذي سعى طوال الحلقة لإثبات صحة هذه الفلسفة. وفق كول، فإن وقف برنامج الإنجاب هو أفضل ما يمكن فعله لأبناء جنسنا، وذلك لأن التطور الطبيعي الذي مررنا به منحنا وعياً أكثر مما يمكن أن نحتمل، فانسلخنا بالتالي عن النظام البيئي الطبيعي وأصبح لدينا القدرة على النظر إلى الحياة من الخارج. وعليه يجب أن نساعد بعضنا على الانقراض لأننا كائنات لا ينبغي لها التواجد بحسب قانون الطبيعة. بدوره، كشف عالم الفيزياء هنري واي كيندل، الحاصل على جائزة نوبل في العام 1990، أنه إذا لم نتمكن من السيطرة على نمونا البشري خلال العقدين المقبلين بشكل إرادي، فالطبيعة ستقوم بهذه المهمة، وبشكل قاس. ثمة الكثير من الأسباب الموضوعية التي يستند إليها مروجو الفلسفة اللاإنجابية لدعم نظريتهم. من هذه الأسباب أن العالم لم يعد يحتمل ضيوفاً جدد، إذ يتزايد معدل المخلوقات بشكل كبير تزامناً مع التراجع الدراماتيكي للموارد. ثمة أسباب بيئية كذلك، إذ أكدت الدراسات أن الوضع البيئي يتدهور، وأن الكرة الأرضية قد دخلت في مرحلة الانقراض والبشر هم أول ضحاياها. كما يرتبط اللاإنجاب بدعم الدورة الاقتصادية الذي يتيح للناس أن ينتجوا بشكل أفضل وأن يستثمروا الموارد على نطاق أضيق، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة التي يشهدها العالم. ويرد هؤلاء على الدول التي بدأت تشجع سكانها على الإنجاب وذلك طمعاً بأيد عاملة رخيصة نتيجة الاكتظاظ السكاني، بأن الأمر سينقلب عليهم لأن الموارد محدودة وقد بدأت بالنضوب. وغني عن القول أن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذه النظرية هي الحروب المتتالية التي يشهدها العالم، وثقافة التدمير التي جعلت أطفالاً كثر دون أهل، وبالتالي تعززت الدعوة إلى توزيع الموارد بشكل أكثر عدالة، وعدم إنجاب آخرين يأخذون الاهتمام من أمام من يحتاجه.

لأنني فتاة أيضاً

وبينما انتشرت هذه الفلسفة في العالم بشكل واسع، بقي حضورها محدوداً في الدول العربية التي يقيدها ألف تعقيد وتعقيد. ففضلاً عن العقبات الاجتماعية، تظهر العقبات الدينية التي تعتبرها تآمراً على دين معين من أجل اندثاره. تقول إحدى الفتيات اللواتي قابلتهن رصيف22 إنها لا زالت تصارع الفكرة في داخلها. لم تحسم قرارها بعد، عقلها الباطني يأخذها نحو خيار اللاإنجاب، خاصة إذا كان المولود فتاة. هي لا تريدها أن تعيش دوامة قمع النساء في عالمنا العربي. في المقابل، يشجعها لا وعيها على فكرة الحمل نتيجة ما تشربته في صغرها عن مكافأة الأمهات بالجنة وعن الأولاد التي سيحملونها في آخرتها. هي حامل الآن لكنها لا تشعر بالسعادة المطلقة. يذكرنا كلام تلك الفتاة، بما قاله بينيتار، عن أن حالات إنجاب عديدة تمت بفعل رغبة عاطفية أو حتى ربما نتيجة ممارسة الجنس دون وقاية، ولكن ليس بفعل قرار عقلاني. الكثير من العمل على كسر الصورة النمطية ما زال بانتظار من قررن عدم الإنجاب. ليس هناك ما يجعل هذه النظرية صحيحة تماماً كما نظرية الإنجاب. "هو خيار شخصي ليس إلا"، كما قالت بروك هامبتون، تلك السيدة العادية في شهادة مؤثرة لا يمكن إهمالها هنا.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image