تتخفى خلف اسم مستعار وصورة مزيفة لتقول بصراحة، على مجموعة للأمهات العربيات على Facebook، إنها تكره طفلتها الحديثة الولادة، ولا تشعر بأي صلة تجاهها، كما تجتاحها رغبة قوية بقتلها عندما تسمع بكاءها ليلاً. تطلب من نساء المجموعة أن لا يطلقن عليها أحكاماً مسبقة، بل أن يخبرنها فقط بأن إحداهن مرت بتجربة تشبه تجربتها.
تدل الإحصاءات إلى أن 50 إلى 80% من النساء يتعرضن لاضطرابات نفسية بعد الولادة، تراوح بين البسيطة والخطيرة، وفي حالات نادرة جداً تتسبب بانتحار الأم أو قتلها أطفالها.
شعرت ريما ع.، 30 سنة، بعد 4 أسابيع من ولادة ابنتها، بموجة حزن شديدة جعلتها أسيرة غرفتها لأشهر عدة. كانت تعرف أن ما تمر به ليس موجة حزن عابرة قد تمر به أي أم بعد الولادة، بل أخطر من ذلك بكثير. تقول ريما: "لم أكن أشعر بأي حنان تجاه ابنتي، بل بعدوانية"، وتضيف: "كنت أتمنى أن أختفي أو أن أدخل المستشفى كي لا أعتني بها".
أكثر ما كان يزعجها أنها لم تشارك أفكارها تلك مع أحد. تشير إلى أنها "تألمت بصمت" وكانت تخشى حتى أن تعترف بينها وبين نفسها بهذه المشاعر. وتتابع: "لم يتفهمني أحد من عائلتي، فبنظرهم يجب أن أكون في قمة الفرح لأن لدي نعمة تتمناها الكثير من النساء". تتذكر بتأثر "كان أسوأ عام في حياتي، وما زلت حتى الآن وبعد ست سنوات أشعر بالذنب تجاه ابنتي"، وتختم: "لو أن شخصاً واحداً قال لي آنذاك إن ما يحصل معي قد يصيب العديد من الأمهات، لكنت تقبلت الموضوع أكثر".
يوضح طبيب الأمراض النسائية أحمد عواضة أن هناك نوعين من حالات الاكتئاب ما بعد الولادة: "الأول يعرف بالـBaby blues، ويصيب من 40 إلى 80% من الأمهات بعد يومين أو 3 أيام من الولادة، وتتوزع أعراضه بين اكتئاب خفيف وحالة حزن وشعور حاد بالبكاء، وحساسية مفرطة وتوتر وقلة نوم، وتختفي هذه الأعراض تلقائياً بعد نحو أسبوعين من الولادة. وإذا استمرت أكثر من هذه المدة ورافقتها علامات أخرى مثل الشعور بالذنب وفقدان الشهية، والتعب الشديد وفقدان الاهتمام بغالبية الأشياء، فإن هذه الأم تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة Post Partum Depression، الذي يصيب 15% من الأمهات".
ويؤكد عواضة أن "طرق علاج اكتئاب ما بعد الولادة تعتمد على حدته. فالجلسات العلاجية عند أخصائي نفسي قد تكون وافية لمعالجة اكتئاب من الدرجة الخفيفة أو المتوسطة". مضيفاً: "إذا كان الاكتئاب أكثر حدة فعلى الأم أن تبدأ بعلاج عبر أدوية مضادة للاكتئاب كعلاج أول، ويمكن إضافة العلاجات النفسية إذا احتاج الأمر ذلك". والأهم أنه "يجب على الأم أن تخضع لعناية طبية فورية إن روادتها أي أفكار بالانتحار أو إيذاء طفلها".
ويعتبر الذهان أو Psychosis، الاضطراب الأكثر خطورة، ففي هذه الحالة لا تكون الأم في حالتها الطبيعية بل تجد صعوبة بالتفرقة بين الحقيقة والخيال، وقد يؤدي هذا الاضطراب إلى محاولتها الانتحار أو حتى قتل طفلها. وقد تحدث هذه الحالة بعد أيام أو أسابيع قليلة من الولادة، ومن أعراضها عدم القدرة على النوم وعدم التوازن في التفكير والانشغال بأفكار قاتمة.
تقول زينة (25 عاماً)، التي رفضت إعطاء اسمها الحقيقي، أنه بالرغم من أنها كانت واثقة أنها لن تقدم على الانتحار، فإن أفكارها السوداء التي كانت تراودها حينذاك أخافتها كثيراً. لم تتمكن من النوم بالرغم من شعورها الكبير بالتعب، كما كانت تعاني من حزن حاد. توضح: "كنت أرى نفسي أماً سيئة واعتقدت أن طفلتي وزوجي سيكونان بحال أفضل إن فقدت حياتي"، وتضيف: "كنت على وعي أن أفكاري غير منطقية، لكن لم أستطع السيطرة عليها ولم أكن أعرف أحداً مرّ بهذه التجربة". لجأت زينة إلى الانترنت لتعرف إن ما تمر به هو من أعلى درجات الكآبة ما بعد الولادة، فذهبت إلى طبيب نفسي وصف لها أدوية مضادة للاكتئاب عالجتها تماماً بعد أشهر قليلة. تعتبر زينة نفسها محظوظة جداً لأنها طلبت المساعدة في الوقت اللازم. لكن عندما سألناها هل تشاطر خبرتها هذه مع بقية الأمهات، أكدت أنها لا تحب أن تخبر أحداً عما مرت به، وتضحك قائلة: "سيخاف مني الجميع على الأرجح".
قد تكون المدونة والكاتبة مايا صوراتي، من قلة من الأمهات اللواتي يعالجن موضوع كآبة الأمومة في العالم العربي من دون أي محاولة لتجميل الواقع. إذ كتبت في إحدى مدوناتها "كنت أشعر بالذنب بسبب غضبي وعدم قدرتي على البقاء سعيدة، في وقت يجب أن أكون فرحة جداً لأن لدي طفلة محبوبة من الجميع، ومن المفترض أنني أعيش أفضل خبرة مطلقاً وهي كوني أماً. فلماذا لا أستمتع بذلك؟". وأضافت:" تراودني أحياناً أفكار بأنني شخص سيىء وأناني، وأحياناً أخرى أشعر بأني بحاجة ماسة للمساعدة. لأنني متعبة. الحقيقة أنني وصلت لوقت أجد فيه أي مهمة صعبة".
تقول صوراتي لرصيف22: "بدأت أبكي عندما قال لي الطبيب إنني أم مكتئبة، لم أكن أصدق أن هناك كلمة تصف حالتي"، وتضيف: "اكتشفت بعد ذلك أن الكثير من الأمهات يعانين ما أمر به". وتؤكد أنه"يجب على الأمهات المكتئبات أن يتكلمن بشفافية وصراحة عما يمررن به، ليس فقط لنشر التوعية إنما لإنقاذ أنفسهن أولاً". وتابعت: "على العائلة وكل من حول الأم أن يعوا أعراض الاكتئاب جيداً لمساعدة الأم وأخذها عند أخصائي للعلاج عند الحاجة".
بالرغم من أنه ليس هناك أسباب واضحة لاكتئاب ما بعد الولادة، يؤكد د.عواضة، أن هناك مؤشرات اجتماعية وفيزيولوجية عدة تجعل بعض الأمهات أكثر عرضة لاكتئاب ما بعد الولادة، منها: الضغوط الاجتماعية، ونقص الدعم المادي والاجتماعي لهن، ووجود تاريخ عائلي في الاكتئاب، والحمل غير المخطط له وسكري الحمل وغيرها الكثير.
يذكر أن الكثير من الممثلات الغربيات ناقشن علناً تجاربهن مع اكتئاب ما بعد الولادة، منهن غوينث بالترو Gwyneth Paltrow وكورتني كوكس Courteney Cox وجنيفير لوبيز Jennifer Lopez. فمتى تحذو أمهات العالم العربي حذوهن، ويخبرن تجاربهن مع الأمومة من دون أي رقابة ذاتية أو خوف من المجتمع؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين