امتلأت قاعة مسرح روابط بالجمهور في حفل إطلاق كتابها "كيف تلتئم... عن الأمومة وأشباحها". ووسط النقاشات حول الأمومة ومفهومها وآثارها، ردّت إيمان مرسال على سؤال طفلة لم تتجاوز السادسة، وهي تقبض يد مُرافقها بإنجليزية مُتقنة. عمّا أحبّته وما لم تُحبّه في أمومتها، بأنّها ودّت لو تكون أمّها... وسكتت.
ضحك جميع من في الصالة، ومدّت الطفلة ذراعيها امتناناً.
المَخرج الباسم، الذي طرحته مرسال بشيء من الحميمية، كأنسب الاستجابات لسؤال كبير ومُعقّد لهذه الدرجة، لم يكن يعني أن ليس لديها إجابة، ولم يكن المَلمح الوحيد "للعذوبة" و"للتّأثّر".
[caption id="attachment_92853" align="alignnone" width="700"]
إيمان مرسال[/caption]
في كتابها اختصارٌ لرحلة الوجع، ومحاولةٌ للالتئام. لا معنى فيه للإجابات القطعية، التفصيلية. مرسال تبحث وتقرأ وتقارن وتكتب الأمومة بمزيد من الأسئلة ورغبة في الخلاص. ليست التجربة الشخصية هنا سوى صورة من "قصة حياة"، ربما ترى أمّهات أُخريات، وأبناء عندما يكبرون، أنفسهم فيها.
دراسة مرسال، مُقاربة غير مألوفة عن الأمومة، وأفكار سمحت الشاعرة المصرية والأستاذ المشارك في جامعة ألبرتا، التفكير فيها بصوتٍ عالٍ، محاولةً إخرجها من إطارها التنميطي.
الأمّ التي يمكن أن تَحكي أخيراً عن ذلك التوتّر، الخوف، المُراوحة بين التضحية والأنانية، والشعور بالذنب...
وخز الأمومة
تحمل إيمان مرسال (1966) في كتابها "كيف تلتئم"، خبرة الأمومة بوجعين، أحدهما سابق على الثاني. وجع الفقد، ووجع الخوف من الفقد. أمّها التي فقدتها في طفولتها، وولدها الثاني الذي خبر القسط الأوّل من طفولته بمرض نفسي، يدفعه للتفكير في الموت وإنهاء حياته. تتحدّث عن أمومتين: أمومة في المتن وأمومة في الهامش. مثالية الأولى، وإخفاقات الثانية في الخبرة الشخصية.مقاربة جديدة للأمومة قد لا تعجب الكثيرين: الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة للأم وابنها...
شاعرات يكسرن الصورة النمطية عن الأم.. ويحاولن بصراحة مطلقة تفسير أفكار العنف والغضب والإحباط داخل الأمومةنمشي مع مرسال رحلتها نحو تفكيك الصورة الشبحية للأم. وعن العلاقة بين الأم الكاتبة والأستاذة الجامعية المشغولة، وبين ابنها في محاولة لفَهمه. محطّات تُوجد فيها مرسال الرابط بين الخاص والعام، وتَقرأ صورة أمّها في صور أمّهات الآخرين. سواء من خلال النص المكتوب، مثل "سنية صالح" التي فقدت أمّها أيضاً وهي شابة (والدة مرسال توفيت وهي في الـ27 من عمرها)، أو في الصور الفوتوغرافية، يبدو أن الخروج عن المسار الطبيعي للأمومة، هو ما يُقرّب الفكرة والصورة ويجعلها أوضح. منذ لحظة الولادة يأتي الدرس: الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليهما، الأم وجنينها. من هنا تتحدّث إيمان عن "شرخ الأمومة"، "النكز والوخز" اللذين تُحدثهما الذكريات. فـ"في حياة كل منّا كسر ما"، "توتّر أمومتنا". التفكير في العنف والغضب والإحباط داخل الأمومة، ما هو إلا مُحاولات للتأقلم والتكفير عن الذنب. فالأمومة اختبار لا نهائي. تكتب الشاعرة السورية سنية صالح (1935 – 1985)، التي وجدت مرسال ربما تقارباً معها، قصائد تعبر عن احتمائها بهويّتها كأم أطول وقت ممكن، ما دامت فقدت هويتها كابنة بموت أمها. وتقول مرسال: "الأمومة حماية من خبرتنا الشخصية بأمهاتنا أحياناً". وهناك ألمٌ آخر. أن تكوني كاتبة وأُماً. ذلك التمزّق والصراع على الوقت والطاقة، تبرزه أدريان ريتش Adrienne Rich في يوميّاتها، ونجده في شهادات لأمهات عربيات. شهادات عن الأمومة والكتابة، ضمّها كتاب "ديوان الأمومة"، الذي صدر في وقت متزامن عن دار ميريت. الأمومة نشاط إنساني وليس فعلاً منغلقاً على ذاته. فعل ينطوي على مشاكل وصراع، والتقليل من عرض الخبرة الشخصية، لا يخدم الأفكار النسوية في صراعها مع المؤسسة بشكل عام. لا تُقدّم مرسال "دليلاً للأمّهات الجدد"، بل أفكاراً ملهمة تُدرّبنا على كيفية مشاهدتنا للأمومة، وفتح النافذة على خبرات الألم والعنف ومجاز الولادة. عذابات الأمومة مثلاً في "ديوان الأمومة"، رغم الارتباك الذي يحمله العنوان، تحضر كمرادف للغياب والحرب وضياع البلاد.
النسوية تهديد وإحباط
لا تتعاطف إيمان مرسال مع المَدخل النسوي في مُقاربة الأمومة. شعرتْ بغُربة وإحباط شديدين، ولم تجد إجابات لأسئلتها. تتعامل النسوية مع الأمومة بشكل إجرائيّ، كظاهرة بيولوجية واجتماعية، تجمع قطاعاً كبيراً من النساء في كُتلة متشابهة. بينما اختارت مرسال خلافاً لذلك، التجربة الشخصية، التي لا تهدر أنماط الأمومة وتعقيداتها الداخلية. ويبقى التركيز الحقيقي في الكتاب، كما عرضته في اللقاء: "كتابة نصٍّ يخصّني، يَنطوي على هذه المُراوحة بين كوني أماً، وقبلها ابنة. حالة رغبة في علاجٍ ما، ألمٍ ما، تصالح مع الفقد والخوف من الفقد".تشرح صاحبة "حتى أتخلى عن فكرة البيوت" بحماس أنه بمُجرّد الإحساس بأن "الباب انفتح"، يبدو الكلام ليس للاستهلاك فقط، إنما له صدى ومردود، يأتي من مكان آخر. من هنا، تبقى مفردتا النجاح والفشل، بلا أي مضمون حقيقي، عند تقييم تجربة الأمومة. في حين يأتي عوضاً عنها "تبادل التجارب والمعارف". تبادل الخبرات هو ما يمكن أن توحي به قصائد/رسائل لشاعرتين عن "وجع الأمومة". هنا لا مجاز. القسوة والعنف، القلق والتوتّر، المشاعر المُتخبطة إثر الخبرة الأولى كـ"أُمّ"، ثم الخبرة الثانية، حتى الثالثة، تُعبّر عن نفسها بقوّة ووضوح صريحين. حتى أن مفردة "أمومة" ترد هكذا صريحة في القصائد، مُرادفة ومقترنة بكلمات مثل: مُرعبة، مُثقلَة، سجن وقيد."أولادنا سيطهوننا على مهل كما طهونا أمهاتنا" نظرة إلى ما قد تقوله أمهات عندما يواجهن الأمومة بكل صراحة
الأم المُشوّهة
"وبيننا حديقة"، الصادر عن دار روافد القاهرة، هو رسائل تبادلتها الشاعرتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف عبر موقع فيسبوك. [caption id="attachment_92682" align="alignnone" width="710"] مروة أبو ضيف وسارة عابدين[/caption] بدت في حينها "تنفيثٌ غير مألوف للألم"... فمن أجل الأمومة، باعت إحداهن "حصّتها من الخفّة والبهجة والحياة". تأتي القصائد تعبيراً ارتجالياً عن حنينٍ ضاغطٍ للصورة والهيئة والمشاعر التي كُنّ عليها قبل الأمومة. "مرثيات" للأمومة، التي "شوّهت" صورتيهما وهيئتيهما كطفلتين، ثم شابتين يافعتين، فسيّدتين تخطوان بثقل نحو الأربعين، "عجين التجربة خطّ تجاعيدَه، نساءٌ حائرات بثديين من الأمومة، وكثير من الخوف والقسوة". تُراوح القصائد بعد ذلك بين "الحلم بالانعتاق" تارة: "هناك قطار من أجل الأمّهات، سيذهب بنا إلى بُحيرة بيضاء نغتسل فيها من العاطفة ولعنة الحنين، ننزع بصمات أصابعهم عن أثدائنا، السهر الذي خطف بريق الأعين، والشفاه التي ذابت من الغناء والدعاء، سنكون سعداء وأحرار". وتارة أخرى، بين الاستسلام: "من قال إن الأمومة تَسلب الأنانية، لا شيء يضيع حقاً في هذا العالم، فقط تَتخذ الأشياء أشكالاً جديدة". ومن الحنين للصورة القديمة، اكتشفت سارة ومروة أن المشاعر القاسية التي غلّفت أُمومتهنّ، وجرأتهنّ في التعبير عنها وإعلانها، ما هي إلاّ صورة أخرى من "الشعور بالذنب". وقد أضافتا إليه في الكتاب، الخوف من المجهول، والمستقبل، والقدر المحتوم. الأشدّ من ذلك، الالتفات إلى خبرة تربية الأطفال، التي شابها الكثير من الحذر. فهي كمن "يُروّض وحشاً داخل البيت"، أو يتعامل مع أشباح: "أولادنا سيطهوننا على مهل كما طهونا أمهاتنا". واحدةٌ تخشى على بناتها أن يحملن صفاتها وقدرها، ويرثن علاقتها بأمّها. تلك العلاقة التي غلّفها قدر كبير من العناد والاستقلالية. وأُخرى يَلفّها السفر والمرض بهالات سوداء من تَوقّع سوء المصير، والخوف من الغُرباء، وهاجس الانتحار، وإيذاء طفليها بنفسها ويديها. توريث الألم والعنف، هو الهاجس الذي أعلن انتصاره على مشاعر القسوة، وربما يمكن اعتباره السرّ وراء "ثقل الأمومة"، في "ديوان الرسائل". "أُسلّم حليبي بألمه إلى طفلي الرضيع"، أو في صورة أخرى عند "غفوة التعب"، حين تميل الأمّ الشاعرة برأسها إلى رضيعتها فتتجرّع أفكارها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...