تزين أحد جدران المنزل صورتها، وهي في يوم زفافها.
تجلس فيها على كرسي، تنظر إلى عريسها الوسيم، والابتسامة تنير وجهها.
التقطت هذه الصورة عام 1953، وكان عمر جدتي العروس يومذاك 19 عاماً. عاشت حياة سعيدة مع جدي. تفرغت خلالها لتربية الأبناء وإسعاد من حولها، واليوم تتفرغ لمشاهدة فرحة الأحفاد والحفيدات.
وفرحتها بهم لا تكتمل من دون زواج، خصوصاً الفتيات. فالرباط المقدس، برأي جدتي، هو الإنجاز الأهم للفتاة لدى بلوغها العشرين من العمر. ولنضع تحت "العشرين" خطاً.
أثلجت ابنة عمتي قلب جدتي وتزوجت وهي في العشرين. ثم تزوجت ابنة عمي الأصغر مني، وعمرها 21 عاماً. كانت فرحة ما بعدها فرحة، لا ينغصها سوى استعصاء حالتي، لأنني كنت قد قاربت الثلاثين. أي أنني في نظر الكثيرين، كعلبة التونا التي أوشكت صلاحيتها على الانتهاء.
لكنني في نظر نفسي، سعيدة طليقة.
قلق جدتي لم يكن حالة فريدة. فهو الخوف الذي تعيشه الكثير من الأمهات والآباء في العالم العربي: يخشون، ولو ضمنياً، أن تصطدم بناتهن بحائط الثلاثين وهن بلا زواج. ولا يسلم الأبناء من هذا القلق، إلا أن وضعهم أقل حساسية، فالحائط عندهم يظهر في سن الأربعين.
ولكن، من قال إن الزواج السعيد يبدأ في العشرين؟ ومن وضع الثلاثين أو الأربعين كمؤشر لفشل الزواج؟
هل العشرينيات هي الأفضل؟
دعونا نحاول طمأنة قلوب الأهالي القلقة على زواج أبنائهم. فهناك دراسة جديدة نشرتها مجلة Time تجيب عن تساؤلاتهم.
تُظهر هذه الدراسة، التي أجراها عالم الاجتماع في جامعة Utah الأمريكية Nick wolfinger، أن العمر الأنسب لدخول القفص الذهبي يراوح ما بين 28 و32 عاماً لكلا الجنسين، وأن احتمالات الطلاق تصبح ضئيلة عند الارتباط في هذه السن، لا سيما في السنين الخمس الأولى.
وتضيف النتائج، التي اعتمدت على عمليات حسابية أساسها إحصاءات الزواج والطلاق في أمريكا، أن النتيجة لا تتغير باختلاف الخلفية أو مكان الإقامة أو الدين أو العرق.
فالموضوع يعتمد على عملية حسابية بحتة، وخلاصتها أن الزواج في أوائل العشرينيات مهدد بالطلاق، وكذلك الانتظار إلى ما بعد منتصف الثلاثين.
يختلف مع هذه الدراسة عالم اجتماع آخر في جامعة Maryland الأمركية، هو الدكتور Philip Cohen، وقد رد عليها مباشرة بعد نشرها.
فقام بإحصاءات وحسابات مختلفة، جعلته يستخلص أن احتمالات الطلاق لا تزداد مع تأخر سن الزواج. بل إن العمر الأنسب لزواج لا يتبعه طلاق، هو بين الـ45 و الـ49.
… ولكم أن تتخيلوا صدمة جدتي عند سماع نتيجة دراسة البروفيسور كوهين.
وهل من المنطقي استخدام معادلة رياضية أو عملية حسابية لاتخاذ أحد أهم القرارات في حياة الفرد، كقرار الزواج؟
لكن من قال إن السن مهمة؟
لا يوجد دراسات مشابهة في العالم العربي يستند إليها الباحث عن جواب لهذا السؤال العويص. إلا أن أختصاصية العلاج النفسي والعلاقات الزوجية والأسرية في السعودية الدكتورة رزان ناظر، ترى أن البحث عن العمر المناسب يجب أن لا يكون هو الهدف. فالعمر ليس العامل الوحيد والأساسي الذي يحدد مدى جهوزية الفرد للارتباط وخوض علاقة زوجية ناجحة.
"النضج هو الأساس وليس العمر"، تقول ناظر. وتشير إلى أن الأمر يعتمد على الشخصية والبيئة الثقافية التي يأتي منها الزوجان، والأسباب التي تدفعهما للزواج.
"ما الذي يريدانه من الزواج نفسه؟ هل تتزوج لإرضاء والديك مثلاً؟ للإنجاب؟ لنفسك؟ ما السبب؟"، توضح ناظر الأسئلة التي يجب أن تُطرح عند الارتباط.
لكنها ترى الجانب المقلق من الزواج المبكر أو المتأخر كثيراً، تقول: "إذا أردنا التحدث بشكل عام، فخير الأمور أوسطها. الزواج في عمر صغير لا يخلو من مخاطرة لأنك لست مكتمل النضوج بعد، والناس يتغيرون. وفي الوقت نفسه، كلما تقدمت السن كان هناك صعوبة في قبول التغيير".
وبين هذين الخيارين، تشعر سمر السيد، صحافية مقيمة في الإمارات، بالحيرة، وتقول إن الزواج في سن صغيرة "كإزالة اللصقة (Band Aid) من على جرح بسرعة"، لكنك ستبقين عالقة مع صفات لم تلاحظيها قبل الزواج.
"إذا انتظرت إلى أن تكبري فستصبحين مثلي، ترفضين الفكرة لكثرة الآفات في هذا العالم. ستعرفين بالتحديد الصفات التي تبحثين عنها، لكنك ستعرفين أيضاً أنها في الغالب غير موجودة. هل أتزوج وأعلق؟ أو أنتظر وأخاطر في عدم العثور على الشريك؟ أو العثور عليه مع طفل أو طفلين (من زواج سابق)؟ إنها حالة ممتازة للحقيقة"، تقول السيد ساخرة.
ثورة في عالم الزواج
سيرتاح بعض الأهالي بعد قراءة الدراسة التي نشرتها مجلة Time، بينما تهز جدتي ومعها الكثير من الآباء الرؤوس استنكاراً لنتائجها.
فهي في رأيهم غير منطقية ولا مستوحاة من مجتمعاتنا وسيقولون:"نفهم أن يتأخر الشاب، لكن متى ستنجب الفتاة إذا تأخرت؟ وهي في الثلاثين؟ ستكون كبيرة وستتعب!".
على الرغم من هذا الرفض، علينا أن نقر بأن نظرة جدتي لسن الزواج المثالي قد تغيرت منذ زمن.
فهي مثلاً لم تتوقع أن تتزوج حفيداتها في التاسعة عشرة مثلها، وتقول إنها تتفهم متطلبات العصر، وأهمية التعليم، لذلك توافق على الانتظار إلى ما بعد التخرج الجامعي، أي سن الـ23، ما لم يتوفر العريس المطلوب قبل ذلك. بل لا مانع من العمل لعام بعد التخرج أحياناً.
كما تعي جدتي جيداً صعوبة تأمين معيشة كريمة، لذلك على الشاب أن يؤسس نفسه مادياً، فلا مانع من أن يتجاوز الـ27.
هذه الأفكار ثورة صغيرة أحدثتها جدتي على نفسها.
وهذا التغير عندها هو انعكاس لتحول تدريجي شهدته المجتمعات العربية في مفاهيم الزواج والارتباط، منذ نهاية القرن الماضي وبداية الألفية، بحسب دراسة أجرتها مجموعة من علماء الاجتماع في العالم العربي.
الزواج المبكر لم يعد هو القاعدة المتعارف عليها، وتشهد المنطقة ارتفاعاً في متوسط عمر الشباب والشابات عند الزواج.
ولعل الأرقام هي أكبر دليل على التغيير. فتشير مقارنات أجرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ESCWA، بين معدل سن الزواج في أوائل التسعينيات وبداية الألفية، إلى أن الزواج المبكر لم يعد خيار الأكثرية من شباب العالم العربي.
إذ ارتفع معدل سن الزواج بشكل ملحوظ في الأردن مثلاً بين عام 1990 و2007، من21 إلى 26 لدى النساء، ومن 25 إلى 29 لدى الرجال.
وكان عمر الزواج لدى الجنسين في لبنان هو الأعلى في العالم العربي، إذ تتزوج الفتيات في عمر الـ29 تقريباً، والرجال في الـ33. تليه سوريا، التي أجريت الإحصاءات فيها عام 2006، وكانت سن النساء 27 تقريباً، والرجال 30.
لنعد إلى السؤال الأساسي: متى نتزوج؟
يقول الدكتور رائد محسن، الاختصاصي في الإرشاد الزوجي والعائلي في لبنان: "أفضل أن لا تتزوج الفتاة قبل الـ25 ليكون لديها وعي كافٍ".
ويعلل ذلك بقوله إن الفتاة في حاجة لأن تختبر الحياة وتتعرف إلى أنماط الرجال المختلفة بحسب الظروف التي توفرها لها بيئتها.
فإذا لم تسمح العائلة لها بالتواعد Dating أو الخروج مع الأصدقاء من الجنسين، فيمكنها أن تحتك بالرجال في الجامعة أو من خلال العمل، لتصبح قادرة على التمييز بين الطالح والصالح فيهم.
"عليها أن تعرف الكريم والبخيل والطموح، وتعرف ما الذي تريده قبل أن ترتبط"، يقول محسن.
ويضيف أن على الفتاة أن تكون قادرة على الاعتماد على نفسها، فإما أن تتم تعليمها أو أن تجيد مهنة معينة. "السبب الأهم هو الأوضاع المعيشية، فإن شاءت الظروف أن يحصل طلاق أو وفاة، فهي لن تصبح عبئاً مادياً على أهلها".
أما الرجال
يلفت محسن إلى أن الزواج بعد سن الـ30 للشاب في ظل الأحوال الاقتصادية السائدة في العالم هو الأفضل.
"السبب ليس مادياً فقط، فقد يكون الشاب ميسوراً فيقرر الارتباط في سن الـ25 مثلاً، لكن هذا لا يضمن أنه لن يستيقظ وهو في الأربعين ليشعر أنه لم يكتسب تجارب كافية، وأنا لا أقصد التجارب الجنسية أو العلاقات العاطفية، إنما التجارب التي تعطيه النضج الذهني".
رجال الدين
ويضيف محسن: "قد يختلف معي رجال الدين الذين يفضلون الزواج المبكر، آخذين العامل الجنسي لدى الشاب في الاعتبار. فيحثونه على الزواج مبكراً لأن الدين لا يسمح بالعلاقات الجنسية خارج الزواج، وتكون زوجته في سن صغيرة".
لكن هذا النوع من الزواج المبني على رغبة لن يضمن التكافؤ العاطفي والذهني بين الطرفين، ولن يضمن كذلك وفاء الرجل لزوجته حين ينضج وتتغير رغباته.
ويزداد الأمر تعقيداً عندما يتقبل المجتمع فكرة الزواج الثاني، فيصبح الزواج الأول لقضاء شهوة جنسية، ثم يرتبط الرجل لاحقاً بزواج آخر حين ينضج أكثر.
الزواج في سن صغيرة
تقول د.ع. من السعودية، والتي رفضت الإفصاح عن اسمها، إنها تزوجت وهي في السابعة عشرة من عمرها. "كنت طفلةً أنجبت طفلاً. وكبرت ولعبت مع أطفالي كأنني واحدة منهم".
تربطها اليوم علاقة صداقة بأبنائها الأربعة، وهذا في رأيها الجانب الإيجابي الوحيد للزواج المبكر.
مضى على زواجها ما يقارب الثلاثين عاماً، لكنها لا تزال تشعر أن جزءاً من مراحل نموها سُلب منها، على الرغم من أنه لم يرغمها أحد على الزواج. لكن لم يكن لديها الوعي لأخذ لقرار السليم.
قد لا يرتبط الزواج المثالي بسن معينة، ولكن للنضوج علاقة بالعمر، وهذا ما تؤكده دراسة حديثة أجرتها عالمة الاجتماع في الجامعة الأمريكية في القاهرة، الدكتورة هدى رشاد.
فالزواج المبكر يحرم الفتاة من حقها في الاختيار المبني على المعرفة الكافية، وفي الحصول على علاقة زوجية متزنة ومتكافئة. تقول الدراسة: "تنتقل الطفلة قبل أوانها إلى مرحلة الرشد وتُحرم من إتمام التعليم والعمل".
وهذا تماماً ما اختبرته د.ع.، التي تقول: "كنت أود أن أنهي تعليمي، وأختبر أشياء عدة. كنت أود أن أعرف أكثر المواصفات التي أبحث عنها في زوج المستقبل. أو إن كنت أود أن أتزوج أصلاً. لم أعش حياتي، ولم أعش طفولتي ومراهقتي. ومع بدء المشاكل الزوجية، تخسرين الكثير من الأشياء لأنك مازلت صغيرة، وبالتالي تخسرين نفسك".
عقدة الثلاثين
ترى المستشارة النفسية للعلاقات الجنسية والزوجية في الإمارات، الدكتورة مها نصرالله، أن أكثر المجتمعات العربية تبدأ بوضع المرأة في قالب ما يسمى العنوسة عنذ بلوغها الثلاثين، ثم تكتمل "عنوستها" حين تتجاوز الـ35.
"يربط المجتمع عدم زواج الفتاة بالفشل"، تقول نصرالله، وتضيف: "هو أمر محير، لأنك تحاول تشجيع الفتيات على العمل والاستقلال. وفي الوقت نفسه تريدها أن تتزوج وتكوّن عائلة، وكأن هناك حداً لطموحها، ولن يكتمل نجاحها إذا لم تتزوج".
يقول ع.م.، وهو شاب سوري متزوج ومقيم في الرياض، ورفص الإفصاح عن إسمه كاملاً، إن المجتمع العربي متناقض في حكمه على الأمور، فيبيح للشاب أن ينتظر إلى ما بعد الثلاثين، "ليعيش مراهقته"، وتجاربه النسائية على أكمل وجه، ثم ينظر إلى الفتاة التي تجاوزت الثلاثين على أنها "منتهية الصلاحية".
والسبب غالباً في رأيه هو "اعتقاد الرجل أن الشابة العشرينية أكثر قدرة على إشباعه جنسياً".
لكن لارا مبارك، التي تعمل مديرة في إحدى أكبر دور الأزياء في العالم، لا تبالي كثيراً بتواريخ الصلاحية.
تنشغل حالياً في الإعداد لحفل زفافها الصغير، الذي ستقيمه وخطيبها في جزيرة سانتوريني في اليونان. تقول: "عمري 32 وقد سألت نفسي كثيراً، ما هو العمر المناسب للزواج؟ إلى أن اكتشفت أنني أسأل نفسي السؤال الخاطئ. عليك أن تسأل نفسك، ما هي المرحلة التي أمر بها اليوم؟ أنا مثلاً شخص مهووس بعمله، وقد استمرت علاقتي بخطيبي لأكثر مما يمكنني أن أتذكر. وحين وصلت إلى مرحلة معينة في مسيرتي المهنية، شعرت أنني جاهزة للزواج".
لا تنفي مبارك أنها وقعت تحت ضغوط كثيرة، من الأهل بداية، مروراً بنصائح الأصدقاء والغرباء. لكنها لم تقرر الزواج، رغم ارتباطها عاطفياً بصديقها، إلا عندما شعر كلاهما بالجهوزية التامة. وهذه الجهوزية لم ترتبط بسن معينة، بل بنضج معين وصراحة مع الذات ووضوح في الرؤية.
وهي تقر أن وضوح الرؤية ازداد مع الوقت والسن والتجارب. تقول: "يجب أن تكون جاهزاً، وإلا فستعلق الكثير من الآمال والتوقعات والأحلام غير الواقعية على الزواج. ستحمله ما لا طاقة له به. وستُصدم حينذاك، لأن الواقع ليس كالأحلام. ولن تدرك ذلك ما لم تصل للنضج والعمر الذهني الصحيح".
فرحة جدتي
لقصتي نهاية أسعدت جدتي الحبيبة. جاء حظي ونصيبي.
وفي يوم زفافي وبينما يعج البيت بالمصورين، وخبراء الشعر والمكياج. شعر والدي بغصة، فأدمعت عيناه، وود لو يتمسك بي للأبد.
نظر إليه مصفف الشعر مستعجباً، مستهجناً، ومتسائلاً: "لم البكاء؟". وبلهجة لبنانية عفوية، استنكر غصة والدي وقال: "له يا عمي. كثر خير الله يلي نفقت، صار عمرها 30! في غيرها قاعدين على قلب أهلن وواقف حظن. منيح مشي حالها!".
نظرت إليه، مشدوهة، وقد انتابتني نوبة ضحك هستيرية. تراءت أمامي علبة التونا اللعينة من جديد. والتي لم تعنيني يوماً، لكنها ستبقى تطارد صديقاتي وأصدقائي الطلقاء، ما دام السؤال عن العمر الأنسب للزواج مستمراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...