شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
البارسيون: زردشتيو الهند وروّاد التحديث والتصنيع وعبادة النار فيها

البارسيون: زردشتيو الهند وروّاد التحديث والتصنيع وعبادة النار فيها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 28 يناير 201712:27 م

طائفة صغيرة، ومهدّدة بالاندثار عددياً. مع ذلك تتركز فيها مجموعة من أكبر العائلات الصناعية في الهند، وكان لها باع في تحويل مومباي إلى عاصمة اقتصادية لجنوب آسيا. إسمها لا يزال يحفظ لها ذكرى الوطن الروحي الذي هاجرت منه، بلاد فارس، ودينها لا يزال يحرص على أن يمارس طقوسه بحرية وبصمت، وأن تبقى النار المقدسة مضرمة في معابده. يمكنك أن تعنتق الزردشتية، لكن لا يمكنك أن تنضم الى جماعة "البارسي" من خارجها، لماذا؟

إيران الوطن الروحي، الهند دار الهجرة

لغوياً، "بارسي" parsi تعني "فارسي" باللغة الفارسية. والبارسيس هم أحفاد مهاجرين من بلاد فارس باتجاه شمال غرب الهند بعد أن تصاعد التضييق على الديانة الزردشتية في إيران في العصر الإسلامي، وهذه الهجرة تؤرخ ما بين القرنين الثامن والعاشر بعد الميلاد. يصعب اليوم ترميم كل السياق التاريخي لهجرة قسم من الزردشتيين من إيران، وخصوصاً من شمالها الشرقي، خراسان، باتجاه غرب الهند، خاصة أنّ المستند الرئيسي لتأريخ هذه الهجرة ليس كتاب تاريخ، بل كتاب شعر، قصيدة طويلة للشاعر البارسي بهمان كاي كوباد نهاية القرن السادس عشر، وضعت بالفارسية، ونقلت إلى الغوجاراتية، لغة منطقة غوجارات، التي سيتبناها البرسيس، في لهجة خاصة بهم، وإلى الأردو، وعدد من اللغات الأوروبية اليوم. يعرف كتاب الشعر هذا بـ"قصة سنجان"، قصة الهجرة من إيران إلى سنجان في الهند. يتحدّث الشاعر عن ثلاثة محن كبرى منيت بها ديانة زردشت عبر التاريخ: غزو الإسكندر المقدوني، وفتنة ماني، والعصر الإسلامي. يتعامل مع إيران على أنّها الوطن الروحي للملّة المهاجرة إلى الهند، ويقتفي أثر سفرة النار الشاهنشاهية المقدسة التي ستجد مستقرها في نافساري، على الساحل الغوجاراتي، جنوب مدينة سورات. من نافساري هذه، احتفظ زعماء الطائفة الزردشتية في الهند بلقب "إيران شاه" لقرون عديدة، بالإضافة إلى اللقب الآخر الذي ما زال معمولاً به، وهو لقب "دستور" الطائفة، أي زعيمها الروحي.

زردشتيو الهند وإيران اليوم

ينتمي البارسيون إلى أحد أقدم التراثات الدينية في العالم إذاً، بل ربما كان أقدم تراث ظهر فيه عالم الملائكة، ومفهوم النبوة. بقيت "الزدردشتية المزدائية" ديانة الغالبية في إيران لقرون عديدة بعد الفتح الإسلامي، مثلما بقيت المسيحية ديانة الغالبية في بلاد الشام أو مصر لقرون عديدة. حاول رجال الدين الرسميون للطائفة الزردشتية التقرّب من الحكام المسلمين، ودعوا الى التقية والمهادنة، والالتزام بدفع الجزية، وترميم بيوت النار حيث هدّمت، بل أعانوا هؤلاء الحكام على المنتفضين ضد الخلفاء العباسيين، وأبرزهم بابك الخرمي، الرمز القومي - الديني الأذربيجاني والإيراني إلى يومنا. انتشرت في الفترة الإسلامية المبكرة بإيران روايات عديدة عن أعاجيب استمرار النار المقدسة في الخفقان، وحمايتها بنقلها من مكان إلى آخر. لفترة طويلة ظلت إيران لا تخلو من بيوت النار، رمز الطهارة. انطفأت هذه النار المجوسية في معظم أنحاء إيران اليوم، لكنها لم تندثر كلياً، فهي لا تزال تضرم في عدد ضئيل من بيوت النار، لا سيما في مدينة يزد، كما أن الطائفة الزردشتية من الأقليات المعترف بها رسمياً في "الجمهورية الإسلامية" ولها مقعد في البرلمان، وإن تعرضت لمضايقات كثيرة بعد الثورة، في حين اتصف عهد الشاه محمد رضا بهلوي بشيء من "محاكاة الزردشتية" للاحتفاء بها بوصفها الطائفة الأم للقومية الإيرانية.
يمكنك اليوم أن تعنتق الزردشتية، لكن لا يمكنك أن تنضم الى جماعة "البارسي" من خارجها، لماذا؟
زردشتيون هجروا إيران إلى الهند وأسسوا ما يعرف بالبارسيين، طائفة مقفلة وكوزموبوليتية ورأسمالية طورت الهند
والمؤتمر الزردشتي العالمي كان في الستينيات من القرن الماضي يعقد في إيران، لكنه في أيامنا يعقد في الهند.

بيت النار في مدينة يزد الإيرانية

يعيش بين ثلاثين وأربعين ألفاً من الزردشتيين في إيران اليوم، في مقابل ستين ألفاً في الهند، أكثرهم أبناء الهجرة القديمة، "البارسيس"، وتضاف إليهم طائفة من المتحدرين من هجرة أكثر حداثة، ويعرفون بـ"الإيرانيين". ورغم أنّ الكثافة الأكبر للزردشتيين اليوم هي في الهند، من خلال البارسيين، إلا أنّ البارسيين أصغر طوائف الهند، ويتراجع عدد أبنائها بشكل مقلق لاستمرارها، بفعل قلّة الإنجاب داخلها، وحصرها بمن يتحدّر من والدين من أصل زردشتي فارسي، وإستبعاد معتنقي الزردشتية من خارجها. فعلى الرغم من أن الديانة الأساسية مفتوحة للجميع، إلا أنّ طائفة "البارسيس" في الهند قامت بإقفالها، واشترطت أن تكون من أب وأم زردشتية فارسية، ثم أفسحت بالمجال لمن يتزوج من غير زردشتية لأن ينسّب أبناءه للطائفة، فتجرى لهم مناسك الانضمام لها.

الديانة الأم وإصلاحات زردشت والملاك الحارس

الديانة الأم، الزردشتية المزدائية، تقال مزدائية، نسبة الى أهورامزدا، الإله الأعظم الذي يظهر على رأس مجمع من الآلهة الوظيفيين المواكبين له في كتاب الأبستاق، الكتاب المقدس الأساسي في الديانة الإيرانية القديمة، ومن أهورا مازدا نشأ مبدأي النور والظلمة. والديانة تقال زردشتية نسبة إلى حركة الإصلاح الذي يعتقد أنها ظهرت في القرن السابع قبل الميلاد داخل المزدائية، وقادها زردشت. وقبل زردشت لم تكن المزدائية تختلف كثيراً عن الديانة الهندية القديمة، بل أن المنظومة الهندو-إيرنية اشتركت في تقسيم الآلهة إلى صنفين، آلهة خيرة، "أهورا"، وآلهة مناوئة للطريق القويم، "ديفا". وهذه النظرة الثنائية بقيت تطبع كل الديانات الإيرانية، سواء المزدائية القديمة، أو الزردشتية على اختلاف مللها ونحلها، أو الأيزيدية، أو البارسانية، أو التشيع الإيراني.

تختلف المقاربات لحقيقة الإصلاح الذي قام به زردشت في الديانة القديمة. ذهب كثر إلى اعتبار أنه كرّس ثنائية النور والظلمة، وجذّر الفهم لها كثنائية خير وشرّ. وذهب آخرون الى اعتبار أنه كرّس وحدانية الإله أهورا مازدا، في حين آثرت مقاربات أخرى التركيز على خلافه مع الكهنة حول الأضاحي، واستبشاعه وحشية تقديم الأضاحي الحيوانية، وتحريمه استخدام الخمرة في المعابد، في مقابل تقديم عبادة النار التي لا تنطفىء على ما عداها، مقيماً المعادلة بين النار والنور. ومع المرحلة الزردشتية من المزدائية سيتطور مفهوم الملاك الحارس، الفرافاشي، أو الفروردين. الاعتقاد بأن لكل واحد منا فروردين يبعث بالنفس الفردية أو الأورفان إلى هذا العالم الهجين، الذي يختلط فيه النور والظلمة، ثم تعود الأورفان إليه بعد الموت، لتبلغه ما كسبته في عالم التمازج الأرضي. وفي التاسع عشر من كل شهر من الروزنامة الزردشتية ترفع الصلوات إلى الملاك الحارس. والفروردين الذي يرمز به على المعابد الزردشتية بالفارافاهار، قد تجده فوق القبور كما فوق قبر الشاعر فردوسي. الأقسام الثلاثة لأجنحة الفارافاهار ترمز الى ثلاثية: الأفكار الجيدة، الأقوال الجيدة، الأفعال الجيدة. أما رأس الفارافاهار فيرمز إلى العدل والحكمة.

في القلب التاريخي، كولابا، للعاصمة الاقتصادية للهند، مومباي، يكاد لا يفارقك رمز الفارافاهار حيث توجّهت، ففي كولابا يمتلك الزردشتيون البارسيون مجموعة مهمة من المباني، ويحمل الكثير منها رموزاً دينية، وفي بومباي يتركز معظم البارسيس.

طائفة مقفلة وكوزموبوليتية ورأسمالية وثورية

فبعد الهجرة من إيران إلى غرب الهند، سيترك البارسيس غوجارات ذات الطابع الريفي باتجاه المستعمرة البريطانية في بومباي، ومن تجار محليين سينجح عدد مهم منهم في الانخراط بالتجارة العالمية، وفي صناعة السفن. سيستفيدون من مدارس الإرساليات لتعلم اللغة الانكليزية، ويتحولون منذ القرن التاسع عشر لأكثر جماعة هندية على النمط الغربي، بل الانكليزي، في معاشها اليومي، وكوزموبوليتية في انتمائها إلى فضاء مدينيّ هو بومباي - بخلاف الطابع الريفي لديانات الهند الأخرى، مع بقائهم جماعة مغلقة توصد أبوابها لمن يعتنق ديانة زردشت إن لم يتحدّر من الدم الفارسي المهاجر، ولهذا صلة على ما يبدو بحفظ الثروة داخل الجماعة. ومع بقاء إيران الوطن الروحي الرمزي للبارسيين، لم تسجّل بينهم أي حركة تدعو للعودة إليها، ولو بقي رجال دينهم مهتمين بالتواصل مع الطائفة الزردشتية في يزد، ومساعدتها. رغم ضحالتها العددية، لعبت هذه الطائفة دوراً ريادياً استثنائياً في تاريخ الهند الحديثة. تحوّل البارسي إلى النموذج المشتهى في حركة التحرر الهندية، للهندي الذي يتكيف مع التحديث ويطالب بالاستقلال في وقت واحد، وإلى النموذج المشتهى للعلمانية الهندية، الهندي غير الهندوسي وغير المسلم. كان بعض البارسيين من رواد تأسيس "المؤتمر الوطني الهندي" نهاية القرن التاسع عشر، مثل ناوروجي. كانوا أول من انتزع عضوية البرلمان البريطاني من الآسيويين، والشيوعي الوحيد الذي دخل هذا البرلمان (شاهبوري ساكلاتفالا). كما أنّ فيروز غاندي زوج انديرا غاندي ووالد راجيف غاندي من البارسيس، مع أن راجيف وأولادهم اختاروا أن يقيدوا كهندوس (ولا تزال الدعاية المضادة لهم في الهند تعتبرهم غير هندوس لأجل ذلك). ولا يمكن الحديث عن البارسيس في الهند دون إغفال تصدرهم للثورة التصنيعية في البلاد، من خلال سلالتي "تاتا" و"غودريج"، ويعتبر جامستي تاتا تحديداً أبا الصناعة الهندية، ومؤسس المعهد الهندي للعلوم، وباني فندق "تاج محل" الفخم الشهير على شاطىء كولابا، ويروى أنه أراد بهذه التحفة المعمارية الرد على منعه من المبيت في فندق للبيض فقط في أيام الاستعمار البريطاني.

لأجل كل هذا، لم ترتبط مجموعة عرقية دينية بمفهوم "البرجوازية الوطنية" مثلما ارتبطت المناقشة حول هذه المقولة، بالبارسيس.

أبراج الصمت في أزمة

يتضاءل عدد البارسيس في الهند اليوم، في حين تعرف "أبراج الصمت" (الدخمة) وهي أبراج ذات شكل دائري مبنية على التلال، وتطرح فوقها جثث الموتى أزمة من نوع آخر.

برج الصمت

في الزردشتية، جثة الميت نجسة، يجب أن لا تختلط بالأرض أو بالنار أو بالماء، خشية تلوث العناصر (ما لم تكن جثة ملك طاهر وهي وحدها التي تدفن في تابوت)، بل يجب أن تأكلها النسور والعقبان، ولم تعد هناك نسور وعقبان كافية لالتهام الجثث في الوقت الحالي، كما لم تعد التلال بعيدة عن المدن، بل أمست في وسطها. تجري اليوم الاستعانة بالطاقة الشمسية أيضاً للتسريع بتحلل الجثث، ويجري العمل على ترويض نسور وعقبان مخصصة لبرج الصمت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image