شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عصمة البابا المنزّه عن الأخطاء: لماذا لجأت إليها الكاثوليكية في زمن الحداثة؟

عصمة البابا المنزّه عن الأخطاء: لماذا لجأت إليها الكاثوليكية في زمن الحداثة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 يناير 201705:02 م

ما الذي يعنيه الكاثوليك حين يؤكدون على عصمة الحبر الأعظم لكنيستهم؟ لماذا لم تقرّ هذه العقيدة إلا في العام 1870؟ كيف كانت الحال قبل ذلك، وكيف أمست بعد إقرارها؟ هل يمكنك أن تكون كاثوليكياً رافضاً لـ"عصمة" البابا؟

بابوية ما قبل الثورة الفرنسية: سلطة محدودة خارج ايطاليا

لم تتمتع الكنيسة الكاثوليكية بهرمية مركزية صارمة قبل العصور الحديثة. كما يوضح لنا المؤرخ جان بيار مواسييه في "تاريخ الكاثوليكية". كانت الكاثوليكية، في زمن ما قبل الثورة الفرنسية، كناية عن فدرالية من الكنائس المتميزة بحسب خارطة الممالك الأوروبية المختلفة. وبما أنّ الملوك كان ينظر إليهم كمتمتعين بالحق الإلهي، وكان أكثرهم يراقب الحياة الدينية في مملكته عن كثب، فقد بقيت وصاية البابوية في روما على سائر فروع الكثلكة محدودة وبعيدة، خارج إيطاليا. بالنسبة لكثيرين، لم يكن الولاء لروما هو المحدّد الرئيسي لشدّة الكثلكة، بل الولاء للإمبراطور أو الملك، وهذا ما عزّزته النزعة "الغاليكانية" في فرنسا، أي نزعة كف يد روما عن التدخّل في شؤون الكنيسة الكاثوليكية الخاصة بمملكتها، وأيضاً النزعة "الجوزيفية" في النمسا، ذلك أنّ أباطرة آل هابسبورغ سعوا أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر إلى كف يد بابا روما في بلاده، في الوقت نفسه الذي قدّموا فيه أنفسهم على أنهم حماة الكنيسة.

الصحوات الدينية واليقظات القومية

التبدّل طرأ مع الثورة الفرنسية. ليس لأن أحداً من الثوّار فكّر بفصل الدين عن الدولة. لم يفكّر أحد منهم بهذا الخيار. ما حصل أنهم دفعوا نزعة كف يد روما عن بلدهم إلى حدها الأقصى: ربط الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية كلياً بالدولة، والتنظيم المدني للإكليروس فيها، بحيث ينتخب الأساقفة والكهنة من المواطنين، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية لهؤلاء المواطنين. رفض القسم الأكبر من الإكليروس الفرنسي هذا التنظيم المدني، وبعد أن كانوا يتسابقون لاجتراح تعليلات تسوّغ كف يد البابوية عن الكنيسة الوطنية، صاروا بحاجة إلى تأكيد سلطة البابا داخل الكنيسة بشكل أوثق وأكثر شمولية. هذه الانعطافة باتجاه روما لن تكفي بحدّ ذاتها لتحويل الكنيسة الكاثوليكية إلى هرمية مركزية. احتاج هذا التحوّل لفترة من الزمن، هي القرن التاسع عشر، بمعظمه. ليست صحيحة النظرة التي تعتبر أنّ الدين عموماً، والكاثوليكية في مقصدنا هنا، تراجعا في هذا القرن. العكس هو الصحيح. كان قرن الصحوات الدينية بامتياز، في الكاثوليكية كما في الإسلام كما في الهندوسية. بالنسبة إلى الكاثوليكية، كان القرن الذي تغلغلت فيه الكنيسة في الأرياف أكثر من أي وقت مضى، وانتشرت فيه في المستعمرات من خلال طفرة الحملات التبشيرية. كان أيضاً القرن الذي شهد حركات عودة إلى الكاثوليكية لدى نخب بروتستانتية المانية وانكليزية لافتة، وفي ألمانيا تحديداً تحت تأثير النزعة الرومانطيقية. في بلدان بعينها، تداخلت الصحوة الكاثوليكية مع ظهور النزعة القومية. هذا ما حدث في بولندا وفي إيرلندا: فبما أن الخصم "القومي"، الروسي والإنكليزي، مخالف في المذهب، اقترن الشعور بالمغايرة القومية بالشعور بالمغايرة الدينية.

"الولايات البابوية: دولة كانت قائمة في الوسط من إيطاليا

كانت الحالة الإيطالية أكثر تعقيداً، ولعلّها الحالة التي أثّرت على التحوّل الكاثوليكي في العصر الحديث أكثر من الثورة الفرنسية أو أي منعطف آخر. لأكثر من ألف ومئة عام، لم تكن البابوية مكتفية بالسلطان الروحي. كان البابا "ملكاً" أيضاً. عرفت مملكته باسم "الولايات البابوية"، وتمتد بالحد الأدنى من روما حتى مدينة بولونيا. تمكّن نابليون الأول من إلغاء هذا الكيان، الذي عاد إلى الخارطة بعد هزيمته. في هذا الكيان، أصرّ البابوات على تطبيق مفاهيمهم المضادة لعصر التنوير. وفيه أيضاً، شدّدوا على ضرورة الاستمرار بالعقوبات الجسدية.
ما الذي يعنيه الكاثوليك حين يؤكدون على عصمة الحبر الأعظم لكنيستهم؟ ولماذا لم تقر هذه العقيدة قبل 1870؟
النظرة الشائعة بأن الكنيسة تكيفت مع الحداثة مغلوطة، والسبب إقرار عقيدة عصمة البابا المنزّه عن الأخطاء
وعندما رحل البابا غريغوار السادس عشر عام 1846، تنفّست العناصر البرجوازية في روما الصعداء، وأخذت تعقد الآمال على خليفته، البابا بيوس التاسع، الذي استهل عهده بإطلاق سجناء سياسيين. أمل القوميون الساعون لتوحيد البلاد الإيطالية في أن يتولى بيوس التاسع أيضاً قيادة المعركة الوطنية، خصوصاً في مواجهة النمسا، وأخذ الكثيرون يتداعون لكونفدرالية إيطالية موحّدة يقودها الحبر الأعظم.

انتظروا منه أن يعلن الحرب التحررية الوطنية على النمسا المهيمنة على الشمال الإيطالي، وأوحى بالسير في هذا الإتجاه، ثم عدل، ونطق بما معناه أنه لا يمكنه أن "يعلن الحرب ضد أبناء رعيته حتى لو كانوا نمساويين". يعتبر الباحث جياكومو مارتينا أنه، مع هذا الموقف الذي أخذه بيوس التاسع، في نيسان 1848، تحطمت أسطورة "البابا زعيم الوحدة الإيطالية"، أو استحالت نقيضها: "خيانة البابا للقضية الإيطالية".

من هم "الزواويون البابويون"؟

أسّس ذلك للتصادم بين عملية التوحيد القومي لإيطاليا وبين الكيان البابوي المقيم في وسطها، والذي يفصل بين أجزائها. تمكنت المملكة الإيطالية الموحدة من تقليص هذا الكيان عام 1861، ليحصر في روما وجوارها. في المقابل، وجهت البابوية النداء للمتطوعين الكاثوليك للجهاد دفاعاً عنها. قدموا من فرنسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا، وعرفوا بـ"الزواويين البابويين". والزواف، نسبة الى قبيلة زواوا الأمازيغية التي جند الفرنسيون قسم من أبنائها للقتال إلى جانبهم، ومن وحي هذه التسمية "الإكزوتيكية" عرف الزواويون البابويون أيضاً بلباسهم المزركش. ستنتهي هذه المواجهة بين التوحيد القومي لإيطاليا وبين الكيان البابوي إلى القضاء على الأخير في نهاية المطاف. يبقى أنّ فترة هذه المواجهة كانت فترة تمكن فيها بابا روما من تأكيد مرجعيته داخل الكنيسة ولدى المؤمنين الكاثوليك بشكل غير مسبوق من قبل. حارب بيوس التاسع الليبرالية على طول الخط. رفض فكرة "الحرية الدينية" من حيث المبدأ، كونها تساوي بين الحقيقة وبين الضلالة. عارض أيضاً فكرة الأنظمة الدستورية من الأساس.

رعاية الدين الشعبي

بيدَ أنّ بيوس التاسع كان يزاول تحديث كنيسته من دون أن يدري. وثّق علاقتها أكثر بالتقوى الريفية، بالمعتقدات الدينية الشعبية، بل وسّع نطاق هذه الأخيرة. كلّ شعيرة دينية ساجل ضدّها مفكّرو ومصلحو عصر الأنوار، أوجد الحاجة إلى تعزيزها ودفعها قدماً. شجّعت روما على سبيل المثال عبادة "القلب الأقدس"، وزادت الحاجة إلى قديسين جدد، وإلى أماكن حج جديدة. لكن أهم مساهمة لبيوس التاسع على هذا الصعيد كانت في دفعه التعبد لمريم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعد اعلان عقيدة الحبل بلا دنس عام 1854، أي أنّ مريم بنت يواكيم وحنة مولودة بلا دنس، وبريئة من الخطيئة منذ البدء.

دستور "الراعي الأزلي": أولية البابا في السلطة المطلقة

وعندما بدا أن دولة البابا الزمنية تحاصر أكثر فأكثر عسكرياً وسياسياً، انعقد مجمع الفاتيكان الأول، وهيمنت عليه أكثرية من الأساقفة مؤيدة لتعزيز مركزية الكنيسة حول البابا. تمكنت هذه الأكثرية في 18 تموز 1870 من تمرير دستور "الراعي الأزلي" الذي ينص لأوّل مرة في تاريخ المسيحية، بهذا الشكل الرسمي، على "أوّلية البابا في السلطة المطلقة" داخل الكنيسة، الأمر الذي يقترن بإعلان عصمته، طالما هو في السدّة، في شؤون الإيمان والأخلاق. ورغم التأكيد الكاثوليكي الروماني، من يومها، على أنّ هذه العصمة البابوية التي تنزه أسقف روما عن الخطأ في شؤون الإيمان والأخلاق لا تعني أنّه معصوم كشخص، وإنّما أنّه معصوم من حيث تبوئه للسدّة، وطالما هو يتبوأ هذه السدّة، ورغم التشديد على أنّ هذه العصمة البابوية تعني حال الاستثناء في حين تبقى العصمة الأساسية هي عصمة مجامع الأساقفة، الذي يكون الروح القدس حاضراً معهم حين يجتمعون، إلا أنّ العبارة نفسها، ووقعها السياسي قبل مضمونها اللاهوتي، كان لهما الوقع الاستفزازي على أخصام البابوية، سواء من الذين يقولون بعصمة الكنيسة بحد ذاتها، وعصمة المجامع المسكونية، كالأرثوذكس والأنكليكان، أو الذين يتفلتون من مفهوم العصمة. ورغم إبرام عقيدة "العصمة البابوية"، إلا أن دستور "الراعي الأزلي" لم يعط بيوس التاسع مراده، إذ كان الأخير يمني النفس بما هو أكثر من ذلك: أي إسباغ رسائله البابوية، ومواقفه اللاهوتية، وخياراته السياسية بطابع العصمة.

نصف مليون كاثوليكي منشق عن روما اليوم، يعرفون بمواقفهم الليبرالية من إباحة زواج الكهنة إلى مباركة زواج المثليين

البابا من "ملك" إلى "سجين"

لم يتابع المجمع أعماله في روما، إذ سقطت عاصمة الكيان البابوي بيد القوات الإيطالية في 20 أيلول 1870، منهيةً أحد عشر قرناً من الملك الزمني لخليفة بطرس. صارت روما عاصمة لإيطاليا. اعتبر البابا نفسه سجيناً، أو أسير حرب لدى الدولة الإيطالية، أنزل الحرم بالملك عمانوئيل وأسرته وذريته وبكل من يتعامل مع الدولة الإيطالية من المسيحيين. لم يستطع بيوس التاسع تقبل واقع نهاية الدولة البابوية، هذا بخلاف من خلفه في السدة، البابا ليون الثالث عشر، الذي أسّس للمسار اللاحق بشكل تدريجي، لكن مشكلة الكرسي البابوي مع ايطاليا نفسها لم تسوَّ الا في معاهدة اللاتران عام 1929، وفي فترة حكم موسوليني، حيث جرى الإقرار بدولة الفاتيكان في مكتنف من روما. بالنتيجة، هذا ما حصل: خسرت البابوية كيانها الترابي، وكرست هرميتها المركزية الكونية، واستطاعت تدريجياً أن تتقبل الطبيعة الدنيوية للدولة الحديثة.

كنيسة كاثوليكية منشقة إلى اليوم

أدّى إقرار "العصمة البابوية" إلى حركة انشقاقية داخل الكاثوليكية، قادها خصوصاً اللاهوتي الألماني اغناتس فون دولينغر. ألقي الحرم على دولينغر وأنصاره، الذين تعاونوا مع انشقاق هولندي سابق على حركتهم، وتشكلوا فيما بات يعرف بـ"الكنيسة الكاثوليكية القديمة"، أو "اتحاد اوترخت".

تزوجت كاهناً: من منشورات الكنيسة الكاثوليكية القديمة المنشقة عن الكنيسة الأم[/caption] [/half_column]لا تزال هذه الكنيسة الكاثوليكية المنشقة قائمة الى يومنا، وتضم نصف مليون كاثوليكي منشق عن روما، وتعرف بمواقفها الليبرالية، من إباحة زواج الكهنة إلى مباركة زواج المثليين، إلى الإقرار بموانع الحمل الاصطناعية، وحدث قبل سنتين أن استقبل البابا الحالي، فرنسيس الأول، قادة هذه الكنيسة المنشقة، وعدّ الأمر سابقة. ويمكن إلى حد ما، اعتبار "الكنيسة الفيليبينة المستقلة" امتداداً لـ"الكاثوليك القدماء"، وهي ترفض رياسة البابا المركزية وعصمته، وتضم ثلاثة ملايين من المؤمنين. عرف أبناء هذه الكنيسة في الفيليبين بمواقفهم اليسارية، بل كهنتها أيضاً، مثل البرتو رامنتو، الذي يوصف في بلده بالنبي الاجتماعي، وقد اغتيل عام 2006.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image