قبل سنوات قليلة من اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، دأب أنصار الخُميني المخلصون على نقل كلماته الغاضبة للأنصار المحتملين، ولعموم الشعب الإيراني، عبر شرائط الكاسيت، إلى حد جعل الخُميني في منفاه في فرنسا حاضراً في قلب طهران.
حتى أن المحللين والساسة، على سبيل التندر، وصفاً أو تقليلاً حتى، كانوا يصفون الثورة الإيرانية بأنها ثورة "شرائط الكاسيت".
بطبيعة الحال، لم تكن المنطقة العربية بمعزل عن سحر الكاسيت، ولا عن تجربة الدعوة بالصوت. ففي ذلك الوقت، راجت في مصر "كاسيتات" أخرى أو تسجيلات صوتية تصدح عالياً عبر المسجلات، وتستولي على قلوب المستمعين. كانت شرائط الشيخ "عبد الحميد كشك".
هذه الشرائط الوعظية ستتطور في ما بعد، لتمثل ظاهرة ستحيا لعقود، متنقلةً من الكاسيت إلى شاشات الفضائيات، تتنازع كعكتها ثلةٌ من المشايخ المتبايني الانتماءات والخلفيات. وعلى ضفاف الوعظ سينشأ "بيزنس" ضخم، له أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية.
نجم الثمانينات وتجارة الكاسيت
شهدت الثمانينات زهوة الشيخ الراحل وهيمنته المهيبة على "آذان المصريين". فكانت شرائطه حاضرة في سيارات الأجرة الخاصة (تاكسي)، وفي محال عصير القصب، التي تعرف بها شوارع القاهرة، ولدى البقالين. في الأحياء الشعبية كان يبدو في لحظات بعينها، كأن الجميع يسمع الشيخ كشك. يطاردك الصوت من شقق الدور الأرضي، ولدى الحلاقين والباعة، والمتجولين على دراجاتهم، بعدما ربطوا فيها جهاز كاسيت. وقد صار نجماً حاضراً بامتياز إلى حد جعل من جنازته في منتصف التسعينيات، مشهداً درامياً لائقاً بنهاية "نجم" لا مجرد شيخ.الشيخ المشاغب
كان "كشك" مشاكساً للدولة وسياساتها، وتعرض للاعتقال والسجن والمطاردة الأمنية. بدا كرجل شجاع في مواجهة بطش الدولة الناصرية، بين عامي 1952 و1970. عايش الرؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك، وحكى عن المضايقات التي تعرض لها في عهودهم، منذ مولده عام 1933 حتى وفاته عام 1996. تميز الشيخ كشك بالفصاحة وسرعة البديهة، والتمكن اللافت من اللغة العربية وأشعارها وتراثها. علاوة على خفة ظل طاغية، كانت تنتزع الضحكات من جمهوره، وسط الحكايا الكئيبة عن الاعتقال والاستجواب والتعذيب.استناداً إلى نموذج "مولانا"، الدعاة الجدد يكسبون من الدعوى إلى الله أكثر مما كسب البخاري ومسلم
نشأت على ضفاف "الدعوة" في مصر تجارة واسعة صنعت نجوماً لهم شعبية أكسبتهم مع وكلائهم أرباحاً كثيرةصار الشيخ نجماً ملهماً، حتى لأشد معارضيه وكارهيه، فاشتبك مع النظام السياسي ممثلاً في شخص عبد الناصر ثم السادات، والفنانين من أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وعادل إمام، والمؤسسة الدينية الرسمية، وربما قطاعات أخرى من المجتمع. (للمزيد عن معاركه يمكن قراءة هذا المقال).
نجوم التسعينيات
قبيل وفاته في منتصف التسعينيات، كان الطريق قد انفتح أمام أجيال أصغر سناً، لا يمكن نفي تأثرهم به، من الدعاة السلفيين الذين تسلموا الراية، وسيطروا على "كاسيت المصريين". ظهر الداعية السلفي محمد حسان، ولقي انتشاراً واسعاً لدرجة حولت الوعظ الديني إلى تجارة مكتملة الأركان. ففي دروسه التي تألق فيها بمسجد العزيز بالله في حي "الزيتون" في القاهرة، كانت شركات الإنتاج المتعاقدة معه، تضع أجهزة تسجيل متطورة تحت المنبر، ويتجول وكلاؤها بين صفوف المصلين طلباً ألا يسجل أحدٌ الدرس على جهاز التسجيل، أو "الوكمان" الخاص به، لأن هذه "حقوق ملكية فكرية أخي في الله". كان وكلاء الشركات هذه كالتجار، يطاردون ويسحبون النسخ غير الأصلية التي يسجلها الحضور ويتناقلونها بمعزل عنهم، فهم الوكلاء الحصريون لـ"وعظ الشيخ" و"علمه". في الوقت نفسه، بدأ نجم داعية سلفي آخر بالصعود، ليتحول في ما بعد إلى أيقونة في عالم "نجوم الدعوة" و"تجارة الكاسيت"، هو الشيخ "محمد حسين يعقوب". ربما كان يعقوب خفيف الظل، لافتاً بهيئته الضخمة ولحيته البيضاء وصوته الجهوري، وملابسه الناصعة وهيئته المبتهجة. لكن النجومية واتته على أثر شريطه "لماذا لا تصلي؟". في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وفي صيف قائظ، كان صوتان يمكن أن تسمعهما في كل مكان. الموسيقى التصويرية لفيلم تايتانك، وشريط الشيخ يعقوب بصوته المميز: "إنت مبتصليش ليه؟"من الكاسيت إلى الفضائيات، ومن السلفي إلى الداعية الحليق
تقدم الدعاة السلفيون إلى الواجهة، لكن داعية آخر بدأ يزاحمهم، مستهدفاً جمهوراً مختلفاً من الشباب والفتيات. اسمه عمرو خالد، وقد أثار جدلاً كبيراً حوله، استمر حتى اليوم. كان ذلك في زمن انتشار القنوات الفضائية. فانتقل هذا "النجم الداعية" بزيه الإفرنجي، وملابسه الأنيقة التي لا تعكس خلفية أزهرية، ولا معتقداً سلفياً من الكاسيت إلى التلفاز. هبط على المشاهد مما يشبه اللا مكان، فهو لم يكن ينتمي لحزب أو تنظيم أو مؤسسة. لم يكن حتى ينتمي لتيار ديني، وبدأ ينافس على الكعكة. انجذب تجاهه في بادىء الأمر شباب وفتيات، ينتمون لفئات اجتماعية أقل معاناة على المستوى الاقتصادي، وأكثر تعليماً وإقبالاً على الحياة. بأسلوب حكائي بسيط، وبلمحة رومانسية في تناول السيرة النبوية، وبنسخة "ملطفة" من إسلام الأزهريين والسلفيين، فرض عمرو خالد نفسه نجماً إعلامياً قبل أن يدركه الناس كداعية ديني. ومع شباب جامعيين وفئات اجتماعية أكثر رفاهية، تكونت هالة واسعة حول الداعية الشاب، الذي كانت الفتيات يحضرن دروسه المذاعة تلفزيونياً ويبكين تأثراً، والموسيقى التصويرية تعزف من خلفهن.مرحلة جديدة في الأديان
أعد الباحث السويسري الذي سكن القاهرة باتريك هاني، دراسة عام 2002، حول عمرو خالد ورفاقه من الدعاة الجدد. رأى هاني أنهم يمثلون مرحلة جديدة في الأديان، يهيمن فيها الخطاب الليبرالي على مجريات الخطاب الديني، في عدة بقاع في العالم، وما عمرو خالد سوى تجلٍّ دقيق لهذه الظاهرة في مصر. وقد ربط بين حضور خالد ورفاقه في دروس للصفوة المالية والاقتصادية في مصر، في أماكن فخمة وفنادق فاخرة، وبين الطبقات التي يتوجه إليها هذا الخطاب بكل منطلقاته، التي تحاول ألا تضع صداماً مباشراً بين الدين والدنيا. كان ذلك في الوقت الذي تسابقت فيه المحطات الفضائية على خالد، وأسست موقعاً إلكترونياً له حصد رواجاً كبيراً في العالم العربي.ظاهرة "الدعاة الجدد"
حين بسط خالد نفوذه وهيمنته على الخطاب الديني، كان الباب قد انفتح تماماً أمام ما سيطلق عليها الباحثون والصحافيون ظاهرة "الدعاة الجدد". شباب لا يرتدون جلاليب ولا يطلقون لحاهم، إلا على نحو مهذب شبيه ببعض الممثلين لا بكل المشايخ. يرتدون ملابس أنيقة تنتمي إلى علامات تجارية معروفة، ويتحدثون الإنجليزية أحياناً، ولا يهتمون بقضايا الجهاد والتطرف والأمور السياسية، بمقدار ما ينشغلون بالأمور الشخصية والعاطفية والنجاح والعمل والدراسة، إلى آخر كل ما يشغل شاباً في العشرين من العمر. وقد وصفهم المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري بأنهم أشبه بالدعاة البروتستانت، الذين يحاولون تسويق فكرة التدين الذي يصاحب نجاحاً حياتياً ومهنياً. وتشاع في هذا الصدد مزحة شهيرة سيستخدمها المسيري Jesus and 10% أي (المسيح و10%) في إشارة للطرح البروتستانتي الغربي الشاب الذي يقدم لك عرض التدين/ المسيح، بالإضافة إلى 10% نسبة المكسب أو الحسم المادي.ثم جاء مولانا
منذ الشيخ كشك وحتى الدعاة الجدد، بدءاً من شرائط الكاسيت وصولاً للأسطوانات المدمجة للحلقات المتلفزة، مروراً بمواقع الانترنت والكتيبات المطبوعة طباعة فاخرة، نشأت على ضفاف "الدعوة" تجارة واسعة صنعت نجوماً حققوا مع وكلائهم على ضوء شعبيتهم مكاسب كثيرة. في فيلم مولانا المعروض في دور العرض المصرية الآن، والمقتبس عن رواية الكاتب إبراهيم عيسى، يظهر مشهد هو الأكثر دلالة: يدخل "الشيخ" الداعية لاستوديو المحطة الفضائية التي ستستضيفه للمرة الأولى، وفور فتح الباب تتسلط كشافات الإضاءة في عينيه، فيضطر لإغماضهما والإشاحة بوجهه، فالبريق لا يحتمل. ربما في قصة الدعاة الدينيين ونجوميتهم في مصر هذا السمت المتكرر. ضوء باهر ومكاسب عديدة. أو بتعبير بطل فيلم مولانا: لقد كسبت من الدعوى إلى الله أكثر مما كسب البخاري ومسلم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.