بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، استخدمت الحكومات الغربية شركات الدواء العالمية، وضغطت بملف الدواء على مصر، لعدولها عن قرار التأميم. وانتبه عبد الناصر لأهمية صناعة المادة الخام الدوائية، داخل مصر، فانشأ، بمساعدة الاتحاد السوفياتي، شركة النصر للكيماويات الدوائية سنة 1960، في أبو زعبل بمحافظة القليوبية.
وأصبح مصنع "النصر"، أول مصنع في أفريقيا والشرق الأوسط لإنتاج المادة الخام الدوائية للمضادات الحيوية، مثل الامبيسيلين والتتراسيكلين، والريفامبسين، والكلورامفنيكول.
وفي حين لم تخطُ مصر في مجال الصناعة الدوائية أبعد من ذلك، كانت التجربة الهندية مدهشة. فتم إنشاء معهد "هندوستان للمضادات الحيوية" سنة 1958، وأقامت الهند، بمساعدة الاتحاد السوفياتي، شركة الهند المحدودة للأدوية والعقاقير. وأعلنت الحكومة الهندية ضمن سياساتها، هدفاً واضحاً وصريحاً، هو "تحقيق الاكتفاء الذاتي من الدواء".
التجربة الهندية
كان لكل من شركة "هندوستان للمضادات الحيوية" و"الشركة الهندية المحدودة للأدوية والعقاقير"، منشآت للأبحاث لتطوير الأدوية. لكن نتيجة إدراك الحكومة الهندية أهمية البحوث العلمية، للوصول إلى الهدف الذي حددته، أنشأت أيضاً "المختبر المركزي لأبحاث الدواء" في مدينة لاكناو، و"المختبرات الكيميائية الوطنية" في مدينة بيون، و"المؤسسة الهندية للتكنولوجيا الكيميائية "في مدينة حيدر أباد. وأنشأت الهند لجنة للعقاقير والأدوية، تحت اسم لجنة هاثي Hathi Committee، نشرت تقريرها وتوصياتها عام 1975. وأعدت اللجنة لائحة من 119 عقاراً هي الأكثر ضرورة واستعمالاً في البلاد، وأوصت بأن يكون إنتاج هذه العقاقير مؤمّناً. لم تعترف الهند من 1970 حتى 2005 بقانون براءة الاختراع، وقد اعترف القانون الهندي بعملية الإنتاج نفسها، وليس ببراءة الاختراع للمنتجات، وأدى ذلك إلى تقدم صناعة الدواء الهندية من السبعينيات حتى التسعينيات. ثم قامت منظمة التجارة العالمية بضغوط من شركات الدواء العالمية، بفرض التغيير على الهند، طبقاً لاتفاقيات "الغات". ولكن إلى الآن يملك القانون الهندي ثغرة ترفض قيود براءة الاختراع، إذا كان البحث العلمي وراء الدواء المكتشف ليس جديداً، أو إذا كان الدواء الجديد مجرد تعديل طفيف على دواء قديم. هذة الثغرة مكنت صناعة الدواء الهندية من الاستمرار في التقدم، ومكنت الشركات الهندية من احتلال المركز الأول عالمياً، في إنتاج الأدوية الجنيسة، وهي أدوية لها المادة الفعالة نفسها في المنتج الأصلي، وتتمتع بالفاعلية نفسها، ولكن تروج في السوق باسم المادة العلمية، وبتكلفة أقل بكثير من كلفة الدواء الأصلي. رحلة صعود الدواء الهندي إلى العالمية بدأت عندما قامت شركة الدواء الهندية "سيبلا" بإنتاج عقار ثلاثي معالج لفيروس نقص المناعة المكتسب "الإيدز" بسعر يقل عن دولار واحد يومياً. وقامت الشركة الهندية بتوفير العلاج للمرضى في أفريقيا بسعر 350 دولاراً سنوياً، في الوقت الذي كانت شركات الدواء الغربية تطرحه بسعر يراوح بين 10 و15 ألف دولار.كيف تحولت الهند إلى "صيدلية فقراء العالم" وأكبر دولة مصدرة للمادة الدوائية الخام، وعجزت مصر عن التقدم؟
أكثر من 20 كلية للصيدلة، 200 ألف صيدلي، و2000 شركة لإنتاج الدواء في مصر، لكنها لا تملك مختبرا بحثيا واحداكان الموضوع إنسانياً للغاية، حتى أنه أصبح موضوع فيلم "حريق في الدم" Fire in the Blood الذي عرض سنة 2013 في جميع أنحاء العالم، وتحكي قصته عن قلة حيلة المرضى غير القادرين على شراء الدواء، أمام جشع شركات الدواء في الربح. يروي الفيلم قصة منع شركات الدواء العالمية أدوية الإيدز المنخفضة التكاليف من الوصول إلى المرضى، الذين تمتلئ بهم البلدان الأفريقية في السنوات التي تلت عام 1996، ما تسبب في موت عشرات الملايين منهم. كما خفضت الهند سعر دواء "GLIVEC" المعالج للسرطان، من 3500 دولار إلى 143 دولاراً، وانتصر القضاء الهندي للقضية، التي لا تنفك الهند تدافع عنها طيلة رحلتها مع الدواء، وهي توفير الدواء للفقراء، ورفض الدعوى المقامة من شركة الدواء الأجنبية ضد الدواء الهندي الرخيص. وكان لشركات الدواء الهندية الخاصة، مثل رانباكسي (قبل أن تشتريها شركة الدواء اليابانية دايتشي سانيكو عام 2008)، وشركة دكتور ريديرز لابورتريز ومقرها حيدر آباد، وشركة سيبلا، دور مهم في تعزيز مكانة شركات الدواء الهندية على الساحة العالمية. تملك هذة الشركات آلاف العلماء والفنيين والباحثين، مكنتها من توفير الدواء بأسعار منخفضة والانطلاق بالدواء الهندي في كل بلاد العالم، حتى أصبح القاطرة التي تروج للعالم الهندي والباحث الهندي، وللإنسان الهندي عموماً، بوصفه الإنسان الوحيد المشغول بتوفير الدواء للفقراء، وأصبحت الهند نفسها تُسمى "صيدلية فقراء العالم".
التجربة المصرية
أما في مصر، فمشت سفينة الدواء على عكس ما يشتهي أحد، وتمت إزاحة شركات الدواء العامة (8 مصانع) المملوكة للدولة من الصورة وتعطلت خطوط إنتاجها، أو توقفت تماماً، وباتت تحتل أقل من 4% من حجم سوق الدواء المصري. واستحوذت الشركات الأجنبية على 60% من حجم السوق. أما النسبة المتبقية، فالتهمتها شركات القطاع الخاص، التي بدأت في التمدد والتوسع، بداية من عصر الانفتاح الذي بشر به الرئيس محمد أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي. ورفضت مصر، رغم كل المكاسب التي يمكن أن تحققها، إنشاء أي مصنع للمادة الخام الدوائية في مصر. واكتفت شركات الدواء العاملة في مصر، سواء المملوكة للدولة أو الأجنبية أو الخاصة، بتعبئة المادة الخام الدوائية والتجارة في الدواء. فلا تملك كل هذه الشركات مجتمعة عالماً واحداً. ويخلو ملفها، كلها، من اكتشاف أي دواء، ولا يوجد في ميزانيتها أي اشارة من قريب أو بعيد إلى البحث العلمي. وطوال هذة الرحلة، لم تنتج مصر غير دواء واحد اسمه "ميرازيد"، مخصص لعلاج البلهارسيا، وتوقفت شركة فاركو للأدوية عن إنتاجه لثبوت عدم فاعليته. باختصار، أخذت مصر صفراً في ملف صناعة الدواء، ولا تزال مشاكلها الدوائية تتعاظم وتتفاقم يوماً بعد يوم. فيعيش المصريون الآن أزمة دواء طاحنة، إذ هناك أكثر من 1400 صنف دوائي ناقص، وتوقفت مصانع مصر عن الإنتاج وشركاتها عن الاستيراد، بعد تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016. وهناك زيادة ثانية في أسعار الدواء سيبدأ تفعيلها من يوم 1 فبراير 2017، وزيادة أخرى ستبدأ من يوم 1 أغسطس 2017، وكل هذا ولم تدرك مصر ما أدركته الهند يوم أعلنت هدفها من الاكتفاء الذاتي في الدواء. وهو أن الصناعة مرتبطة بالعلم، فلا تروج الصناعة وتتقدم من دون بحث علمي متقدم، وكانت هذه نهاية رحلة سفينة الدواء المصرية، فماذا عن الرحلة الهندية؟الهند حجزت مكانتها
الهند اليوم أكبر دولة مصدرة للمادة الخام الدوائية في العالم، وتصدر أدويتها إلى أكثر من 200 دولة، ولها 400 دواء مسجل لدى منظمة الغذاء والدواء الأميركية FDA، وأكثر من 55% من صادرات الهند الدوائية تذهب إلى الأسواق المنظمة وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا. والهند لها نحو 550 وحدة تصنيع دوائي، معترف بها في أمريكا، ولديها وحدات تصنيع دوائية داخل أمريكا وأوروبا، وهي أكبر مصدر للأدوية الجنسية في العالم. فتنتج من 40 لـ70% من احتياجات منظمة الصحة العالمية من اللقاح الثلاثي، ولقاح السل BCG، و90% من لقاح الحصبة. وتعتمد منظمة "أطباء بلا حدود" وهي المنظمة الطبية الخيرية الأكبر في العالم، على الدواء الهندي بشكل أساسي، في تقديم خدماتها. وبفضل انخراط الهند في عملية إنتاج الدواء نفسها، صار لديها أكبر بنية تحتية من العمال والفنيين والعلماء المهرة، في إنتاج الدواء في الدول النامية. ويقال: "إذا أردت أن تصنع دواءً معقداً فعليك بالهند، واذا أردت أن تصنع دواءً بسيطاً فعليك بالصين". أما مصر، فليس لها ذكر في الدواء البسيط ولا المعقد. مصر لم تتحرك خطوة واحدة بعد مصنع النصر للكيماويات الدوائية. تقدمت البكتريا، وتطورت، وأنتجت سلالات مقاومة للامبيسيللين والريفامبسين والكلورامفنيكول. وجاءت فيروسات خطيرة، ولم تتقدم صناعة الدواء في مصر. مصر لديها أكثر من عشرين كلية للصيدلة، موزعة بين جامعات حكومية وخاصة، ولديها 200 ألف صيدلي مسجل في نقابة الصيادلة، ونحو 160 مصنعاً لصناعة الدواء، ونحو 2000 شركة لإنتاج الدواء، ونحو 70000 صيدلية، لكنها لا تملك مختبراً بحثياً واحداً، ولا مصنعاً واحداً لإنتاج المادة الخام الدوائية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...