منذ ديسمبر 2010، صارت تونس حاضرة بقوة في الإعلام العربي باعتبارها الشرارة الأولى لموجة الانتفاضات الشعبية التي عمّت المنطقة، غير أن هذا الحضور لا يعني بالضرورة أن المواطن العربي يفهم أدق تفاصيل الوضع العام الذي أدّى إلى انفجار ثورة يناير 2011، وأهم مميزات المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها تونس منذ ذلك الوقت، وأبرز خصائص المشهد السياسي الحالي، وتأثيره على توجهات البلاد في المستقبلين المنظور والبعيد.
نالت تونس استقلالها عن فرنسا سنة 1956، بعد أن رزحت تحت الاستعمار لمدّة 75 سنة، وشهدت مرحلة التحرر مقاومة مدنية ومسلحة مكثفة، كان للزعيم الراحل حبيب بورقيبة دور محوري فيها. بعد الاستقلال، عمل بورقيبة ورفاقه ممن خاضوا معركة الاستقلال على بناء الدولة الوطنية، فتأسست الجمهورية التونسية، وانتخِبَ مجلسٌ تأسيسي لصياغة دستور للبلاد في 1959، وحلّ بورقيبة رئيساً للجمهورية الناشئة.
أكثر ما ميّز السياسة البورقيبية في دولة الاستقلال التوجه الحداثي الذي طبع جلّ مناحي الحياة، وخاصة في مسائل الأحوال الشخصية وتحرّر المرأة. تبنّت تونس في 1956 مجلّة الأحوال الشخصية التي اعتبرت نصًا قانونيًا سابقًا لزمانه لما تضمنه من أحكام تمنح المرأة التونسية وضعًا متقدمًا بعض الشيء عن الوضع الذي كانت تعيشه المرأة العربية بشكل عام، مثل منع تعدد الزوجات وتقنين الطلاق. كما تميزت مرحلة الاستقلال ببناء منظومة صحية جيّدة، وبنظام تعليمي إجباري للجنسين، وغير ذلك من الخطوات التي ساهمت في بناء الدولة التونسية الحديثة. ولكن هذه الانجازات قابلها إصرار من بورقيبة على البقاء في سدّة الحكم إلى أن تقدّم في السنّ وبدأت قواه تنهار، فكان مصيره مغادرة الحكم بانقلاب أبيض في نوفمبر 1987 نفذه زين العابدين بن علي، الوزير الأول ووزير الداخلية آنذاك.
نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ساد البلاد جو من التفاؤل، واعتقدت أغلب الأطراف السياسية أن بن علي سيسير بالبلاد نحو الديمقراطية (بناءً على وعود قدمها في ما بات يُعرف بـ"بيان 7 نوفمبر" الذي أخرج بموجبه بورقيبة من سدّة الحكم). ورغم أن بن علي حافظ إلى حدّ ما على نفس التوجه الذي أسسه قبله بورقيبة في بعض المسائل، وخاصة تحرير المرأة، إلا أنه في المقابل عمل على خنق معارضيه السياسيين، وشدد قبضته الأمنية على البلاد، وساهم في انتشار الفساد والبطالة إلى أن اندلعت شرارة ثورة 2010/2011 التي جعلته يترك الحكم ويفرّ إلى المملكة العربية السعودية.
بعد الإطاحة بـ"بن علي" اختارت تونس التأسيس لجمهورية ثانية عبر انتخاب مجلس وطني تأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد. وفرغ المجلس من هذه المهمة في 27 يناير الماضي باعتماد دستور وصفه بعض الملاحظين بأنه متطور ويرقى إلى تطلعات الشعب التونسي.
رغم أن عدد الأحزاب السياسية في تونس تجاوز المائة حزب في الثلاث سنوات الأخيرة، إلا أنه يُمكن تلخيص المشهد السياسي في أربعة توجهات كبرى. 1- حزب حركة النهضة، وهو حزب إسلامي يرأسه راشد الغنوشي، ويتمتع بأغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي. 2- حزب نداء تونس، وهو حزب ليبرالي يرأسه الباجي قائد السبسي، رئيس الحكومة السابق. ورغم أن عمر هذا الحزب لا يتجاوز العامين، إلا أنه استطاع بسرعة فائقة اكتساح المشهد السياسي، وبات يتصدر نوايا التصويت في استطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات المقبلة. 3- الجبهة الشعبية، وهي تحالف لعدد من القوى اليسارية والقومية. 4- أحزاب أخرى متقاربة من حيث التوجه العام، ولكنها تبقى مشتتة وغير قادرة على تكوين جبهة موحدة، ومنها التكتل من أجل العمل والحريات، يرأسه مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي، والمؤتمر من أجل الجمهورية، أسسه منصف المرزوقي رئيس الجمهورية الحالي.
بلغ عددها ستّ حكومات، ولعلّ هذا التعدد من أهم الاختلافات السياسية بين فترة الحكم السابقة وفترة الحكم بعد الثورة. لم يكن بن علي مولعًا بتغيير الحكومات، بل كان يبقي على نفس الفريق الحكومي لفترات تتجاوز خمس سنوات أحيانًا. أما بعد الثورة فتكونت ست حكومات متتالية برئاسة كلّ من: محمد الغنوشي (في مناسبتين)، والباجي قائد السبسي، وحمادي الجبالي، وعلي العريض، وآخرها الحكومة الحالية برئاسة مهدي جمعة.
يُقصد بالترويكا الحكم القائم على ائتلاف سياسي يتكون من ثلاثة أحزاب. على إثر انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في تونس في أكتوبر 2011، نشأ ائتلاف ثلاثي لتسيير شؤون البلاد، تكوّن من حزب حركة النهضة في رئاسة الحكومة، وحزب التكتل في رئاسة المجلس التأسيسي، وحزب المؤتمر في رئاسة الجمهورية. دامت هذه التجربة من ديسمبر 2011 إلى ديسمبر 2013، وشهدت البلاد خلالها العديد من الأزمات الاقتصادية والهزات الأمنية التي انتهت بتخلي الثالوث الحاكم عن الحكم وصعودحكومة كفاءات برئاسة مهدي جمعة ستسير بالبلاد نحو انتخابات تشريعية ورئاسية العام الجاري.
يبدو أن الإسلاميين في تونس استخلصوا العبرة من تجارب الإسلاميين في البلدان الأخرى، وخاصة في مصر. فقد خيّرت حركة النهضة الخروج من السلطة عن طواعية، ورضخت لشروط منظمات المجتمع المدني الراعية للحوار الوطني. وقد يضمن لها ذلك تواجدًا سياسيًا محترمًا في المستقبل، ويجنبها المصير الذي واجهه بعض الإسلاميين الذين تعاملوا بأسلوب التعنت والتسلط في بعض التجارب السياسية الأخرى.
يُمكن القول إن الجيش التونسي نجح في المحافظة على موقف الحياد الذي تبناه أثناء الثورة وبعدها. وعملت المؤسسة العسكرية على تأمين سلامة البلاد ومنشآتها العامة والخاصة منذ ديسمبر 2010، مع الوقوف على نفس المسافة من جميع الأحزاب والأطراف السياسية الفاعلة. وربما يكون هذا الموقف واحدًا من أهم مقومات التجربة التونسية في الانتقال إلى الديمقراطية.
خلال فترة حكم الترويكا، مارست منظمات المجتمع المدني في تونس، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، دورًا رقابيًا هامًا جعل الائتلاف الحاكم تحت ضغط مستمر للتسريع في المسار الانتقالي والوصول بالبلاد إلى نظام سياسي دائم. وبعد الفترة العسيرة التي شهدتها البلاد، إثر اغتيال المعارضين شكري بلعيد في فبراير 2013 ومحمد البراهمي في يوليو 2013، أشرفت منظمات المجتمع المدني على الحوار الوطني الذي أمّن خروج الترويكا من الحكم، وأتى بحكومة الكفاءات الحالية.
التحدي الأول أمني بالأساس، وخاصة بعد الاغتيالات السياسية والهزات الأمنية التي وجهت فيها أصابع الاتهام إلى تنظيم أنصار الشريعة المتشدد. تتطلب مواجهة هذا التحدي مقاومة الفكر المتطرف بالسيطرة على بعض المساجد التي مازالت خارجة عن سيطرة الدولة، وإحكام مراقبة الحدود، وخاصة مع الجانب الليبي الذي يُعتبر أهم مصدر لإدخال السلاح إلى البلاد. أما التحدي الثاني فهو اقتصادي، حيث أن نفس المناطق التي عاشت التهميش والبطالة إلى أن ثارت على بن علي مازالت تعيش نفس الوضع الاقتصادي المتردي، وتبقى قنابل موقوتة قد تثور مجددًا وتنسف ما تم تحقيقه إلى حدّ الآن، ما لم يتم العمل على تحقيق تنمية شاملة فيها.
تنصّ الأحكام الانتقالية في الدستور التونسي على أن تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية قبل نهاية سنة 2014. ومع انتهاء المجلس التأسيسي من المصادقة على القانون الانتخابي الجديد في 1 مايو الجاري، تمّت المصادقة النهائية على تاريخ الانتخابات البرلمانية في 26 أكتوبر المقبل، على أن تكون الانتخابات الرئاسية في 23 نوفمبر، وهي الخطوة الحاسمة المتبقية للخروج من المرحلة الانتقالية إلى الوضع السياسي الدائم.
نشر هذا الموضوع على الموقع بتاريخ 22.05.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع