محمد منير حالة فريدة في الطرب العربي، ليس على مستوى الكلمات والألحان فحسب، بل يمكن القول بكل اطمئنان أن هذا الفنان النوبي تمكن من الخروج بالأغنية العربية من طورها العاطفي الثابت إلى الحياة بكامل جوانبها. ولكن، كيف كانت البداية؟
اكتشاف بليغ حمدي
البداية كانت مع فاروق، الأخ الأكبر لمنير. ولمنير ثلاث شقيقات وشقيقان، فاروق وسمير. وسمير ليس له علاقة بالفن أما فاروق فقد كان يعشق الغناء، وكان زميلاً لعبد الرحيم منصور في جامعة قنا، وعبد الرحيم منصور وقتها كان شاعراً ذائع الصيت، خصوصاً بعد أغنيته "وأنا على الربابة بغني" التي لحنها بليغ حمدي وغنتها وردة، بالإضافة إلى الأغاني التي قدمها لنجاة الصغير، ومنها "فاكرة" و"أنا بعشق البحر". وطلب فاروق من زميله أن يقدمه إلى بليغ حمدي، وهذا ما كان. وقتها كان منير لا يزال طالباً في كلية الفنون التطبيقية، وكان يقف خلف شقيقه بين أفراد الجوقة. وفي حضرة بليغ حمدي بدأ فاروق بالغناء ومنير في الترديد، وبعد الانتهاء من الأغنية صرّح حمدي أن الولد الصغير هو الأفضل. بليغ هو من اكتشف محمد منير، ولحن له أول أغنية، وهي أغنية "أشكي لمين" وذلك عام 1977. ولكن علاقة بليغ حمدي بمنير لم تدم طويلاً، بل انقطعت في بدايتها حين طلب من فاروق أن يحضر محمد منير ليشارك في حفل لوردة وعلي الحجار، ولكن فاروق رفض بحجة أنه لا يجوز أن يباغته بالحفل هكذا وأن الأمر سيكون ظالماً للشاب الذي لم يستعد ببروفات، وأمام منَ؟ وردة! منذ تلك الحادثة، تخلّى فاروق عن حلمه بالغناء وفضل أن يكون مدير أعمال لأخيه الأصغر والأكثر موهبة. فغضب بليغ حمدي وقطع صلته بمحمد منير، وسحب أغنيته وأعطاها لمحمد الحلو.بنتولد... أول نجاح
هنا بدأ فاروق في البحث عن فنان يجيد التلحين، فتعرف على أحمد منيب، وهكذا تكونت الفرقة الصغيرة: عبد الرحيم منصور يؤلف ومنيب يلحن ومنير يغني وفاروق يتولى الإدارة. بدأ عمل الفرقة في مقهى وادي النيل في ميدان التحرير، وكان الجمهور من مثقفي وسط البلد. واستمر الحال وبدأ الجمهور في التزايد حتى ظهر هاني ثابت ذات ليلة، وعرض على منير أن يقدمه من خلال ألبوم غنائي. طُرح ألبوم "علموني" في الأسواق غير أنه لم يشهد أي نجاح يُذكر. في العام نفسه تقريباً، نزل ألبوم "ماشية السنيورة" لهاني شنودة، من إنتاج هاني ثابت، وحقق نجاحاً باهراً، ما دفع بهاني ثابت إلى أن يعيد التجربة مع منير كتعويض، ليأتي الألبوم الثاني "بنتولد" وليكون شهادة ميلاد لمحمد منير. يحكي الكاتب والطبيب والعازف عادل أسعد الميري في مذكراته "أيام الفولكس الصفراء" أنه "ذات يوم ذكر لي (العازف مراد) دغيدي أن هناك مطرباً جديداً، من أصول نوبية، وهو متخرج في قسم التصوير بكلية الفنون التطبيقية، يرغب في تكوين فرقة موسيقية تشاركه في إحياء حفلات في الجامعة الأمريكية، وفي قاعة سيد درويش بالهرم، وأعطاني شريطاً موسيقياً لأول (أو ثاني) ألبوم غنائي له، لأستمع إلى صوته وأتعرف على أغانيه، اسم الألبوم هو بنتولد واسم المغني هو محمد منير". ويتابع: "ذهبت إلى موعد البروفة وقابلته لأول مرة، شاب أسمر طويل ونحيف، لكنه كذلك حاضر الذهن ولديه قدرة على كسب محبتك فوراً بابتسامة محبّبة. حضرنا معه بعض البروفات في مسرح الجامعة الأمريكية، وكانت إحدى هذه البروفات تحت إشراف هاني شنودة، من الناحية الموسيقية، لأن منير لم يكن قد درس موسيقى. أفتكر أن البروفات كانت كلها لأغاني ألبوم بنتولد، مثل يا عروسة النيل يا حتة من السما، ولكني أحببت بصفة خاصة أغنية أمانة يا بحر".شبابيك
عام 1981، تعرّف منير على يحيى خليل عازف الدرامز، وفتحي سلامة الأورجانيست، وعزيز الناصر الغيتاريست، وكوّن فرقته الموسيقية الخاصة. ولكن تلك الفرقة لم تكن عادية. لقد أحدثت طفرة في عالم الموسيقي من خلال خلط الجاز الغربي بالإيقاع الشرقي. وعن تلك المرحلة يخبرنا عادل أسعد الميري في مذكراته "لقد أحدث هذا الثلاثي (يحيى وفتحي وعزيز) نقلة نوعية هائلة في مستوى الأداء الموسيقي لمنير، تتضح تماماً في الفرق بين ألبوم بنتولد وألبوم شبابيك. ثم هاجر عزيز إلى أمريكا واختفى تماماً، وأنشأ فتحي لنفسه فرقة خاصة به، وكذلك خليل، فبدأ منير في الاستعانة بعازفين أجانب، فمرة كنت تجد لديه عازف جيتار يوناني ومرة هندي، وعازفي كمان ألمان وهكذا". وكان لألبوم شبابيك نصيب من اسمه، إذ كان منفذاً إلى عوالم وثقافات أخرى، كما أنه وضع منير في المقدمة ليكون محطة هامة جداً في مسيرته الفنية. ومن الجدير بالذكر أن أغنية "الليلة يا سمرا" التي كانت حدثاً جللاً، تخص المطرب محمد حمام غير أن منير أخذها عنه. واستمر منير في التعامل مع عبد الرحيم منصور ويحيى وفتحي وعزيز ومنيب حتى أصدر ألبوم "اتكلمي" وأعقبه بـ"بريء" مما جعل منير في الصدارة طوال تلك الأعوام، ولم يكن له منافس، وكان عمر فتحي وعلي الحجار في مراتب أقل، بينما الساحة خالية إلا من الأغاني العاطفية المعتادة.وسط الدايرة
عبد الرحيم منصور لم يكن مجرد شاعر بل كان بمثابة الأب الروحي لمنير، وكان صاحب فضل في تقديمه إلى الشعراء كما قدمه لبليغ حمدي من قبل. عن تلك العلاقة يحكي مجدي نجيب في كتابه "من صندوق الموسيقي: زمن الغناء الجميل" الذي أصدرته هيئة الكتاب المصرية مؤخراً في طبعة جديدة: "كنتُ وقتها أعمل مع ناقدنا الكبير رجاء النقاش في عدد خاص عن العروبة في مجلة المصوّر، وكانت به إحدي قصائدي عن القدس التي عندما قرأها عبد الرحيم منصور هتف: لن يغنيها غير ولدي، إنه سيعجبك كثيراً. إنه لا يغني مثل أصدقائك أهل الطرب الرومانسي الناعم بل أفضل منهم". ويضيف: "تأملتُ ولد عبد الرحيم، كان في براءة حبة السمسم. وفرحت بابتسامته المتوجسة الخجولة التي ترجمت فوراً مشاعره، فهو يحتاج مَن يقف بجانبه في مشواره، وكان قد انضم إليه أو تبناه معنا الملحن أحمد منيب الذي يعتبر رائداً في الأغنية الجديدة حيث كانت بصماته ورؤياه تعبر عن عبور الأغنية من خندق اللوعة التقليدية إلى أحضان الناس، وعلى الأخص شباب الجامعة والمثقفين ورجال الصحافة، واختار الألحان النوبية لكي تكون أساساً جديداً بعد كتابة كلمات باللهجة العامية العربية لتكون مفهومة للجميع". ويتابع: "أما الموضوعات، فقد كانت مختلفة عن موضوعات أغنياتنا التي كانت متربعة ومستقرة حتى عام 1973 إلى أن غنّى منير من كلمات عبد الرحيم منصور أغنية شجر الليمون ومن ألحان أحمد منيب. وكان مولد أول ألبوم غنائي كتبه الشاعر عبد الرحيم منصور للمطرب محمد منير هو علموني ثم بعده ألبوم بنتولد وبعدها توالت الألبومات والنجاحات". ويستطرد: "بعدها بدأ التعامل بيننا. فبعد أغنية القدس، وفي تلك الفترة، قدمت له أغاني شبابيك، سؤال، يا مراكبي، بعتب عليكي. وكان من حظ منير أن يولد في عصر عبد الحليم بتجربته الجديدة أمام غول الرومانسية، فبدأ غنائه بالدف والإيقاع يصاحبه عود أحمد منيب في تجمعات المثقفين واحتفالاتهم وفي منازلهم، وكنت أشفق على أصحاب الغناء في تلك الفترة من صدمتهم بهذا النوع الجديد الذي لا يعتمد على بهرجة الآلات الموسيقية والغناء بالملابس الرسمية. لقد كسر منير هذه القاعدة ليقف بتي شيرت وبنطلون جينز على المسرح بلا أناقة ولا كريمات على الوجه. كان مكتفياً بالتجمل بغنائه الذي لا يشبه غناء أحد من معاصريه لا في الألحان أو الكلمات أو طريقة الأداء". وكان عبد الرحيم منصور أيضاً السبب في معرفة منير بفؤاد قاعود، وقدّم الأخير لمنير "الليلة يا سمرا"، "عقد الفل والياسمين"، "الجيرة والعِشرة". ولكن عبد الرحيم منصور رحل تاركاً منير في حيرته وحزنه. ومما عقد الأمور أكثر خلافه مع أحمد منيب في العام نفسه. فحدث شقاق أجبر منيب على أن يصدر أول ألبوم له عام 1984 بعنوان "مشتاقين"، ثم اكتشف بعدها إيهاب توفيق وقدم له لحنين لأغنيتين هما: إكمني بهواك، وعلمي علمي. توقف منير لفترة عن الغناء. لم يكن وقتها يعرف ماذا سيغني بعد رحيل شاعره وملحنه المفضل. وهنا جاء دور فاروق، الذي يعتبر من جامعي التراث الموسيقي، فقدّم له موسيقي جديدة قادمة من السودان لتكون هي الطابع الغالب على ألبوم "وسط الدايرة" الذي كتب أشعاره عصام عبد الله، غير أن الألبوم لم يلقَ أي نجاح، فسافر منير إلى ألمانيا عام 1986 واستقر بها عدة أعوام.الملك هو الملك
كتب سعد الله ونوس مسرحية سياسية بعنوان "الملك هو الملك"، وأخرجها منير مراد وقدمها على المسرح عام 1989، وأعيد عرضها عام 2006. وبين العرضين حدث الكثير. المسرحية تدور فكرتها حول السلطان العابث الذي فقد عرشه نتيجة عبثه، وكان منير من ضمن المشاركين في العرض، والنص كان مكتوباً باللغة العربية الفصحى فاقترح سعد الله ونوس أن يتم حكي الحكاية من خلال أغنيات عامية كخط درامي موازٍ للربط بين الحاضر والماضي. وقد كتب تلك الأغاني أحمد فؤاد نجم ولحّنها حمدي رؤوف. بالطبع كان الغناء لمنير. كانت المسرحية من بطولة صلاح السعدني وحسين الشربيني بالإضافة إلى فايزة كمال ولطفي لبيب. وتم طرح ألبوم الملك في الأسواق، ليكون لقباً لصاحبه يلازمه باقي عمره، فقد أصبح منير من يومها الملك أو "الكينغ" كما يطلق عليه محبّوه. وفي العام نفسه تقريباً كان ألبومه "شيكولاتة" يتصدر المبيعات، ومن الجدير بالذكر أنه في ذلك العام أيضاً توفيت أم محمد منير فأعد لها أغنية "كل الحاجات اللي عيونك". أما ألبوم "الملك هو الملك" الذي أبدع فيه "نجم"، فقد كان الأجرأ من الناحية الفنية من حيث نوعية الكلام المرتبط بالحدوتة التي تدور على المسرح، ومن الناحية السياسية فهو زفة لكل حاكم. واعتبروه حالة فنية وطرحوه كما هو فجاءت النتائج مدهشة. وتربع الملك على الساحة من جديد.الفنان المغضوب عليه
ومنير يُحسب من ضمن الفنانين المعارضين المغضوب عليهم. فقد حُرم من الظهور على التلفزيون المصري بسب أغانيه التي عارضت النظام وذلك حتى بطولة دورة ألعاب البحر المتوسط في مارسليا سنة 1992. وقتها غنّى "وسط الدايرة" مع المطربة أميرة، ولكن بعد عودته إلى مصر تم التحقيق معه بسبب اختياره لأغنية سودانية في تمثيل رسمي لمصر. وعام 1997، كان افتتاح المتحف النوبي، وكان منير مشاركاً بالحفل، وكان الحفل سيشهد حضور رئيس الجمهورية، فطلبوا منه أن يرتدي بذلة، فرفض وهدد بالانسحاب، فرضخوا لفنه. وغنّى "أما لون يا لون" وهي أغنية نوبية ثم "رزقنا على الله" مشيراً فيها إلى قضية تهجير النوبة. أما في احتفالية الألفية بالهرم فقد سحب التلفزيون المصري كاميراته حين صعد منير، وهو الأمر الذي دفع الإعلامي اللبناني زاهي وهبي إلى أن يسأل منير في إحدى حلقات برنامجه "خليك بالبيت" عن سبب تجاهل التلفزيون المصري له وأثار معه مشكلة سحب الكاميرات. فرد منير قائلاً: "تلفزيون بلدي مالكوش دعوة بيه!"، لتكن تلك الجملة أول عقد تصالح بين منير والتلفزيون المصري فيظهر بعدها بعام 2001 في حفل ليالي التلفزيون.الغريب...
دخل منير السينما غريباً. فمن ناحية، لم يدخل من مدخل المطربين الذين يتوافدون من الأفلام الرومانسية، ومن ناحية أخرى كان يفتقد موهبة التمثيل. ولعل ذلك ما جعل الناقد طارق الشناوي يصرح: "لا أعتبر الفنان محمد منير ممثلاً جيداً على المستوى التحليلي، فعلاقته بالأداء الدرامي ليس بها حميمية ولكن ما يشفع لمنير هو حب الناس لأغانيه، فهو ليس موهوباً بالأداء التمثيلي ونجاح وجوده معتمد على أغانيه فقط، والموهبة لديه محدودة، فعندما عمل مع المخرج يوسف شاهين في "المصير" وغيره كانت القيمة ليست الأداء الفني ولكن في اختياره لأغانيه، فكان وراء كل عمل أغنية عظيمة تساعده على النجاح، واستطاع في أعماله أن يوظف أداء الراقص الحركي ليكون عاملاً قوياً". قدم منير مع يوسف شاهين فيلمين هما: حدوتة مصرية والمصير. كما ساهم في أغنيته "قبل الطوفان" في فيلم "اليوم السابع". أما المخرج خيري بشارة فقد وظّفه بشكل جيد في دور "عرابي" في فيلم "يوم حلو ويوم مر". ويخبرنا الناقد "أحمد سعد الدين" عن تلك الإشكالية موضحاً: "عندما شارك في يوم حلو ويوم مر مع المخرج خيري بشارة، اعتمد على أنه ممثل فقط، وأصبح أداؤه أقل وهذا يعود إلى المخرج لكونه الوحيد القادر على تفجير قدرات الفنان التمثيلية. وفي "حكايات الغريب" دوره كان بسيطاً، ونعلم جيداً أن منير صاحب فكر ورأي يطابق فكر المخرج يوسف شاهين، فاستطاع شاهين أن يوظف قدرته في التمثيل خلال أعماله ولقيت نجاحاً". أما عن الدراما، فقد شارك في مسلسل "جمهورية زفتي"، "علي عليوة"، وأخيراً مسلسل "المغني" الذي تم عرضه في رمضان 2016، والذي كان باباً ضخماً لانتقادات الجمهور وكذلك النقاد ولم يسلم أيضاً من غضب أهل النوبة، خصوصاً بعد عرض مشهد التهجير الذي اعتبر أهل النوبة أنه زيّف الواقع المرير التي عاشته النوبة إبان بناء السد العالي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت