إذا وقف بغل أمام بيت في القاهرة، وكان يعلوه خُرجان فوقهما جمجمة، فسيصبح صاحب هذا البيت ثرياً. ينصح ستانلي لين بول (Stanley Lane Poole (1854-1931، برفع هذه الجمجمة لتتحوّل محتويات الخُرجَين إلى ذهب. هذه واحدة من سلسلة خرافات حكاها أهل مصر للمستشرق البريطاني، حين زار مصر أواخر القرن التاسع عشر، عن ألعاب الجان معهم.
كان قد سبق لستانلي المشاركة في كتاب "الوصف المصوّر لفلسطين وسيناء ومصر" (1882)، الذي أعدته لجنة استكشاف فلسطين، برعاية ملكة بريطانيا فيكتوريا (1819-1901)، وبعد صدوره قررت هذه اللجنة إصدار كتاب آخر، وكان كتاب بول عن مصر: Social Life In Egypt. A description of the Country and Its People. يرسم ستانلي شكل الحياة بين المدينة والريف خلال العام 1883 بروح مغامر تنازعته التصورات المعتادة عن الشرق، والمصاحبة لقراءة ألف ليلة وليلة. وحمل هذا التقرير لوحات مميزة للحياة في مصر قبل 133 عاماً، وصدرت أول ترجمة عربية لهذا النص أخيراً، بعنوان "الحياة الاجتماعية في مصر/ وصف للبلد وأهلها"، ترجمها ماجد محمد فتحي أبو بكر، وصدرت عن مكتبة الآداب.
التدين والخرافة
يتحدث بول في كتابه عن رجل يطير من مكة إلى القاهرة، ليختفي في باب زويلة، أحد أبواب مدينة القاهرة التاريخية. هذا الولي هو المتولي الذي سينتزع، في ما بعد، البوابة لنفسه. يلبي دعوات المرضى، كل مصاب بالصداع كان يدق مسماراً في هذه البوابة التاريخية لتزول آلام رأسه على الفور. كانت هذه البوابة مستشفى شعبياً. أسست في مصر أول دار أوبرا في الشرق عام 1861، ولمح بول داخلها ستائر من الحرير تغطي جوانب من بعض مقصورات الدار. كان ذلك من أجل منع النظر للنساء الحاضرات للعرض الأوبرالي. لم يرَ بول نساءً في القاهرة. ذهب للقاء بعض كُتّاب المقالات في الصحف، ليتعرف إلى ملامح جمال المرأة المصرية، وليتبين شروط الذوق العربي في ما يخص النساء. لكنه سمع قصيدة تركية تتغزل بالمرأة اليونانية. كانت هذه القصيدة تغنى على العود. لا تصف أبياتها ملامح المرأة بقدر ما تتغنى بتحررها. تتحدث عن الخصر النحيل والكلمات الرشيقة. حتى أن هذه المرأة اليونانية طويلة ومتحررة، ليتضح أن المشكلة تكمن في النظرة السلطوية تجاه المرأة الشرقية.
لم يشاهد المؤلف من السيدات إلا الغوازي والعوالم، الأخيرات يقصد بهن المطربات. كان يجب أن لا تختلط مهنتهن المحترمة مع الحرفة الخليعة للغوازي، وذلك بأن لا يرقصن. وحين تقام حفلات الزواج كانت العوالم تغني، بينما تمتّع السيدات المحتشمات فقط برقصاتهن الخليعة.
مدخل حضاري للتَغمَيس
غالبية البيوت تتكون من طابق واحد، كان الكاتب يتأمل طقوس مأدبة الطعام داخلها. يشاهد صاحب البيت يغرز أصابعه بعمق داخل لحم الخروف، ليقتلع كتلاً ضخمة يناولها لضيوفه. يتابع مهام الأصابع، إذ تتكرر حركتها بين الصحن الرئيس للمأدبة وأفواه ضيوفها. يتوقف بول عند مشهد التَغمَّيس، حين يسلّح كل رجل نفسه بقطعة صغيرة من الخبز، يمسكها بالإبهام والوسطي والسبابة ليمناه. وينصح المؤلف الأوروبي أن يعتاد هذه المشاهد في القاهرة. اللافت أن بعض هذه الطقوس، لا يزال حاضراً على المائدة المصرية.كسل مصري
نسي أهل مصر الأسلوب الماجن للحكايات الشرقية. لا يخفي بول افتتانه بهذه الحكايات، فيقر أنها "كانت دائماً متعاً عابرة مسروقة من الزمن وذهبت متعتها، وقد شجبها ومنعها الخوف من الله". وهو ما يدفع الكاتب للتساؤل، ساخراً، إذا كان ذلك نتيجة لزيادة التقوى أم الغباء؟كما يكشف ستانلي أمراً بشأن البهجة. إذ كانت مباهج المصريين ساكنة سواء في المناسبات الدينية أو الشعبية. وعند حديثه عن أهل مدن مصر يشير إلى الطبيعة المتراخية والمسالمة للمصريين، الذين يتابعون الراقصات من دون أن يرقصوا. وحين يسمع المصريون من حولهم الموسيقى، كانوا لا يغنون، أو لا يعزفون بأنفسهم. يشاهدون الألعاب الرياضية، لكنهم لا يجربونها، وإذا لعبوا، فيختارون ألعاباً تتطلب الجلوس والراحة مثل الطاولة، وأوراق اللعب، والشطرنج. كان مصري أواخر القرن التاسع عشر يعيش على مهل بقدر ما يستطيع، كما يقدمه بول.
يرسم الكاتب حياة أهل الريف عبر رصد مواسم الزراعة. كان العام 1883 قد شهد بداية انتشار الزراعة في مصر. إذ تكون الشمس ظاهرة في سماء شهر مارس، يزرعون القطن، ويحصدون الكتان، والشعير، وقصب السكر. يتكاثر الجراد ودود القز، وتهب رياح الشمال. فيكتشف القارئ أن الفلاح المصري يحتاج لرعاية صحية، وإرشاد، وحماية.
وكان كل حكام مصر بدءاً من مينا، أول حاكم معروف، حتى الخديوي إسماعيل (1830 - 1895)، يُعاملون الفلاح المصري كآلة. يفسر بول حياة المصريين حسب فهمه العقلاني لتعاليم الدين الإسلامي، لكن هوامش مترجم الكتاب انبرت للدفاع عن طقوس مثل الإسراء والمعراج بأنها لم تكن أحلاماً، أو للتذكير بتكريم المرأة في الإسلام. يشير أحد هذه الهوامش إلى زيادة الطالبات في التعليم الجامعي في العامين 2008-2009، رغم أن المدة الزمنية بين النص وهوامشه 133 عاماً!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...