نعرف حسن. شابٌ ذو شعر مجعدٍ مبعثر، وقميص أبيض مفتوح الصدر، وعينين محمرتين قليلاً، ووجه رجل كهل. يجول أزقة الحمرا في بيروت، حاملاً عصا صغيرة كان يستخدمها في فعالية ثقافية للرقص، محركاً جسده في مشيته، كما لو أنه ما زال على المسرح.
وسطٌ شبابي سوري صغير، محصورٌ بين الحمرا والأشرفية تقريباً، يجمع كثيراً من الشباب السوريين والفلسطينيين السوريين واللبنانيين. يتشاركون آلام الحرب وقسوة بيروت، ويعملون في المجالات الثقافية والفنية والإغاثية، بما يرتبط بالحرب السورية ولاجئيها بشكل رئيسي، وهم صعقوا جميعاً اليوم بخبر انتحار الشاب السوري، والراقص حسن رابح. حسن ذو الـ25 عاماً، أدى رقصة أخيرة على سطح بناية في الحمرا، ثم ألقى بنفسه من الطابق السابع.
لكن حسن ليس وحيداً، وهو ليس السوري الأول الذي يحسم أمره وينهي حياته، فقد باتت ظاهرة الانتحار تتكرر بين صفوف الجيل الشاب السوري بشكل كبير، خصوصاً اللاجئين، الذين ذاقوا مرارة الحرب في سوريا، ثم أضعاف مرها في بلدان اللجوء. وقد لا تكون قصص الانتحار المسجلة كثيرة بما يستحق تسميتها ظاهرة، لكن المنظمات العالمية التي تعمل في المجال الإغاثي السوري، أصبحت قلقة جداً من الأعداد الهائلة للسوريين المصابين بالاكتئاب، والذين يملكون ميولاً انتحارية واضحة.
الانتحار حل أخير
تكثر التقارير منذ عامين تقريباً عن ارتفاع نسب الانتحار أو الميول الانتحارية، بين السوريين بشكل عام، واللاجئين والشباب بشكل خاص. عام 2014، أعلنت وزارة الصحة السورية في تقرير لها، أن 15% من السوريين يفكرون بالانتحار بشكل يومي. وبما أن الصحة النفسية هي العامل الرئيسي في مسألة الانتحار، فقد كشفت الوزارة التابعة للحكومة النظامية السورية، أن حالات الاضطراب النفسي زادت بنسبة 25% بعد ثلاث سنوات من الحرب، و40% من الشعب السوري يعاني من اضطرابات نفسية متفاوتة في الشدة، وبحاجة إلى دعم نفسي ثابت ومتواصل. أما في لبنان، فقد أفاد تقرير للأمم المتحدة في العام نفسه، أن 41% من الشباب السوريين اللاجئين قد فكروا في الانتحار. ولم يكن عام 2015 أفضل حالاً، فقد بدأت الظاهرة في التفشي بشكل حقيقي بين اللاجئين، خصوصاً في دول الجوار، فأقدم شاب سوري مثلاً على إلقاء نفسه في نهر العاصي، بعد أن تشرد لأيام في أنطاكية التركية، في أغسطس 2015. وسبقته عدة حالات مشابهة للاجئين سوريين، بين تركيا ولبنان والأردن، فقام شاب آخر من حلب، بشنق نفسه في حي النبعة في بيروت، إثر مضايقات عديدة تعرض لها، حسب تقرير لجريدة القدس العربي. وآخر في الأردن قتل نفسه بعد خلاف حاد مع عائلته بسبب مشاكل مالية. أما عن الاكتئاب والصحة النفسية المتردية بين اللاجئين السوريين، فيعاني 30% من اللاجئين في ألمانيا وحدها، من صدمة نفسية شديدة، كما ورد في تقرير إذاعة دويتشه فيليه الألمانية، بحسب تقديرات مركز علاج ضحايا التعذيب في برلين. الأمر الذي يثير قلق المنظمات العاملة في إغاثة اللاجئين في ألمانيا، إذ يلاحظ العاملون في هذا المجال، ميولاً انتحارية واضحة بين أعداد هائلة من اللاجئين حتى بعد وصولهم إلى ألمانيا."بيروت خيبتنا"
فيديو على موقع youtube، يظهر فيه حسن مع مجموعة من فناني الراب اللبنانيين، يغنون أغنية "بيروت خيبتنا" في وسط بيروت، خلال الحراك اللبناني الأخير في صيف 2015. يعبر الكثير من السوريين، ممن خاضوا تجربة البقاء في لبنان لفترة قبل الرحيل إلى مكان آخر، أو الذين ما زالوا في بيروت، عن الألم اليومي والشديد الذي تسببه لهم هذه المدينة، لما يتعرضون له من ضغوط ذات علاقة بالإقامة الشرعية، والعنصرية وغلاء المعيشة وغيرها. كان حسن قد فرّ من دمشق منذ عامين تقريباً، لكنه لم يلق استقبالاً جيداً في بيروت، فمرّ في سلسلة من التحديات الصعبة جداً، من الإقامة غير الشرعية إلى البطالة والتشرد والسجن. تقول حنين، وهي شابة لبنانية من أصدقاء حسن، لرصيف22 إن هناك أسباباً عديدة قد تدفع شاباً مثل حسن للانتحار، إذ يواجه الشباب السوري ما لا يقدر اللبنانيون أنفسهم أن يحتملوه في بيروت، كمشكلة الإقامة التي تفرض شعور الخطر ونقص الأمان. لا سيما أن حركة المقيم غير الشرعي تصبح محدودة جداً، تضاف إليها خيبة الأمل، والبطالة، والعنصرية اليومية التي تتراكم حتى تصبح غضباً. وتكمل أن "طرق التفريغ تكون في الكحول والمخدرات وحالات الكآبة".الـSocial Media وتعظيم الموت
الصفعة التي تلقاها الكثيرون بخبر وفاة حسن، خلقت جدلاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي. وعبّر الكثير من الشباب السوريين الذين كانوا يعرفون حسن، عن حزنهم وصدمتهم بما فعله، بالإضافة إلى ملامح للذنب بدت في منشورات كثير من أصدقائه، الذين لم يبدوا اهتماماً كافياً بتدهور حالته النفسية. لكن قسماً كبيراً من المنشورات كان "مبجلاً" لشجاعته، معتبراً أن ما قام به حسن، يفكر به الجميع، لكنه كان الأكثر شجاعة لاتخاذ القرار. تلقى حسن عبر Facebook مجموعة من كلمات الإعجاب، وكلمات "نيالك" (بمعنى هنيئاً لك)، وكلمات أخرى بما يعني: "أنت الآن سعيد ومرتاح". في الوقت نفسه، ظهرت أصوات أخرى، مثل رأي مغني الراب السوري هاني السواح (سيد درويش)، الذي كان يعرف حسن، وقال في إحدى منشوراته، حول الأمر: "الكل هلق رح يصير بحبه"، في إشارة إلى المغالاة في تأليه الموتى، وذكر حسناتهم، وصوغ العبارات الأدبية لوصفهم. المنشورات الأندر، هي المنشورات التي حاولت تنبيه المجتمع الافتراضي من التمادي في حالة التضامن أو التبجيل لحادثة انتحار حسن، لئلا تتضخم الفكرة في عقول شباب آخرين يفكرون في الموضوع، خصوصاً أن الاكتئاب أصبح آفة تضرب في المجتمع السوري بشكل عام. تحاول واحدة من الصبايا السوريات التوجه إلى جهات معنية للبدء برفع الصوت والتعاون للحد من الاكتئاب الذي أصبح مقلقاً. وتحاول أخرى أن تضيف روحاً مختلفة بعض الشيء على الروح السائدة على Facebook، فيكون منشورها عن حب الحياة وضرورة التحلي بالشجاعة لإكمالها حتى النهاية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...