هل من مكان اليوم لتحديات الزّجل وحروبه الشعرية التي كانت تلهب سهرات القرى اللبنانية؟ هل لا يزال من الممكن أن نشهد حروباً كلامية يرشق فيها زجّالٌ زجّالاً آخر بالصور الشعرية، مثيراً موجة من الحماس الجميل؟ وهل من احتمال لسطوع أسماء جديدة مثل شحرور الوادي، زغلول الدامور، طليع حمدان، وزين شعيب؟
“طالما هناك جيل جديد يهتم بالزجل، لستُ خائفاً عليه من الإندثار، إنّه فن أصيل موجود في الجينات.” هكذا يجيب أنطوان سعادة، الشاعر الذي عاصر الزجالين الكبار الذين سبقوه وما زال يواكب الجيل الجديد منهم. ولكن قبل الحديث عن حاضره، لا بدّ من العودة إلى تاريخ هذا الفن اللبناني الذي بدأ ينتشر في عام 1928.قبل ذلك، كان هناك ما يُعرف بمرحلة ما قبل المنبر، وكان لكل قرية شاعرها الذي يذهب مع وفد مؤلّف من حوالي 50 شخص إلى أصحاب الحفل في القرية نفسها أو لملاقاة وفد آخر في قرية أخرى.
تبدأ مراسم الحفل مع "شيخ القواله"، رجل كبير في السنّ يحمل بيده آلة شبيهة بالدفّ، تُدعى "الطارة". في العام 1928، تأسّس المنبر الزجليّ الأول على يد الشاعر الكبير شحرور الوادي، مع الشعراء علي الحاج القماطي، وأنيس روحانا وطانيوس عبده، وأخذت هذه الجوقة إسم "شحرور الوادي"، وضمّت إلى جانب الشعراء الأربعة "كورالاً" وعازفين على الدفّ.
على هذا الأساس لا يزال المنبر الزجليّ قائماً حتى اليوم. جرت محاولات عدّة لتعديله، من خلال زيادة أو إنقاص عدد الشعراء، أو إدخال آلات موسيقيّة جديدة، إلاّ أنّ جميعها فشلت، باستثناء محاولة إدخال آلة "الأورغ" التي نجحت فترة الثمانينيّات، ولا يزال هناك بعض المعترضين عليها حتى اليوم. في ذلك الزمن، كانت جوقة "شحرور الوادي" تنتقل بين القرى، وظهرت جوقات أخرى مثل "كروان الوادي" و"زغلول كفرشيما". كان الجمهور يحضر حفلاتها على نور مصابيح الكاز.
في فترة الأربعينيّات، تحديداً عام 1944، برزت جوقة زغلول الدامور، الشاعر الذي حقّق نقلة نوعية وغيّر مع الشاعر زين شعيب إيقاع المنبر، إذ كان بيت الشعر الزجليّ يُغنّى في سطرين، ليصبح معهما في أربعة أسطر. معاً، نظّم هذان الشاعران كيفية الغناء من الافتتاحيّة التي يستلمها رئيس الجوقة وحتى الختام.
مرّ على جوقة "زغلول الدامور" ما بين 70 و80 شاعراً معروفاً، من أمثال خليل روكز، الذي استطاع أيضاً أن يزيد منبر الزجل تنظيماً وجمالية. تمكّنت جوقته الخاصة في ما بعد، مع جوقة "زغلول الدامور"، من خلق ما يُسمّى بالمباريات الزجليّة بين مختلف المناطق اللبنانيّة.
جاءت الحرب الأهلية اللبنانيّة لتُعكّر صفو تلك الجوقات، إذ بدأ بعضها بالتوقّف عن إقامة الحفلات نتيجة التهجير، ولم تظهر مواهب جديدة في تلك الفترة التي عانى خلالها شاعر الزجل تحدّيات كثيرة، منها انهيار القرية اللبنانيّة ومنافسة الفنون الأخرى. هكذا لم تعد حفلات الزجل تشكّل مصدر رزق للشاعر، مما دفعه للبحث عن مصدر آخر.
اليوم، يمر الزجل بفترة ركود ناتجة عن زمن الحرب والمتغيّرات الأخرى التي تحدّثنا عنها. لعب الإعلام كذلك دوراً أساسياً في تراجع جمهور الزجل، حسب ما أفاد أنطوان سعادة، فبعد أن أعطى تلفزيون لبنان وغيره من القنوات اللبنانيّة الأخرى اهتماماً ودعماً كبيرين للزجل اللبناني، غاب هذا الفنّ عن سائر القنوات اللبنانيّة بشكل شبه كلّي مع بعض الاستثناءات البسيطة، كبرنامج "أوف" الذي شكّل محطة بارزة للهواة، والذي أفادهم لمرحلة قصيرة فقط لأنّهم لم يلقوا الدعم الإعلامي بعد انتهاء عرض البرنامج.
ولكن لمَ لم يتمكن شعراء الزجل من الجيل الجديد من الحفاظ على مكانته اليوم؟ يعتبر سعادة "أنّهم لم يستطيعوا أن يثبتوا أنفسهم على الساحة بعد، ولم ينجح أي شاعر شاب منهم في تأسيس جوقة، على الرغم من بعض المحاولات التي لم تعش أكثر من سنة“.
الجوقات الموجودة حالياً يرأسها شخص من الجيل القديم، وفيها أعضاء جدد، كجوقتَي طليع حمدان وجريس البستاني اللتين تضمان شعراء شباب، أمثال نديم زين شعيب ومازن غنّام. يعود سبب عدم قدرة الشباب على تأسيس جوقات خاصة إلى ”أنّ ذلك يحتاج إلى علاقات متينة لا تُبنى خلال وقت قصير، كما أنّ قناعات الناس تغيّرت، ومتطلّبات الأجيال أصبحت أكثر تعقيداً، فالجيل الجديد يحتاج إلى مواهب خارقة جداً كي تُرضيه".
في المقابل، يشير محمد بنوت، الشاعر الزجليّ الثلاثينيّ، إلى أنّ بعض مَن بقي من الرعيل الزجليّ القديم يعمل على نسف مواهب الشعراء الجدد، أو لا يعطيهم الأهمية التي يستحقونها، فهذا الشعر يمر في أوج مراحله بنظره، لكنّه ضعيف إعلامياً فقط، ومواقع التواصل الاجتماعي شاهدة على المواهب الموجودة حالياً.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ عدد مناصري الزجل ومحبّينه ارتفع حالياً عما كان عليه في فترة التسعينيّات، لكنّه لم يعد إلى المستوى الذي كان عليه خلال الستينيّات والسبعينيّات، إضافة إلى أن نوعية المستمعين اختلفت عن السابق، فمتابعو الشعر الزجلي اليوم هم الذين يسمعونه بطريقة متقنة فقط".
في الحديث عن التقنيات المعاصرة لنشر الفنون، يؤكّد أنطوان سعادة على أهميّة مواكبة شاعر الزجل لها، إذ عليه أن يستفيد مثلاً من مواقع التواصل الاجتماعي ليُخاطب الأجيال الصاعدة بوسائلها الحديثة. تقع هذه المسؤوليّة على عاتق الشعراء الجُدُد برأيه.
من جهته، يشير محمد بنوت إلى المساهمة الضخمة التي حقّقتها مواقع التواصل الاجتماعيّ في انتشار الزجل، إلاّ أنّ هذا لا يُلغي ضرورة لعب الإعلام المرئي دوره في الدعم نظراً لخصوصيته وفرادته.
على الرغم من أنّ الزجل هو العامود الفقري للتراث اللبناني، لكنّه لا يلقى دعماً رسمياً من الدولة، ولو بجزءٍ يسير، كغيره من فرق الفنون الفلكلورية، حسب ما يفيد سعادة. من جهته، يشير بنوت إلى أنّه ينال التقدير الكافي من محبّيه فقط، لا من أيّ طرفٍ آخر. مع ذلك، هو يرى استمراريّة لهذا الفن، وكل كلام غير ذلك هو ”تهويل وإحباط ”برأيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...