تمتلك مصر كمّاً هائلاً من التراث الغنائي والموسيقي، الذي يختلف ويتنوع وفقاً للبيئة التي خرج منها. نحاول في هذا التقرير أن نرصد هذا التراث ونرسم خريطة للغناء الشعبي في مصر، من أغاني البدو وصولاً لأغاني النوبة.
أغاني البدو
يطلق البدو على مجالس الغناء اسم السامر، والسامر هو حفل من نوع خاص يتمّ فيه غناء الشعر والرقص. يصاحب الغناء آلة المقرونة وهي ألة عزف مصنوعة من بوص الغاب الفارسي، بالإضافة إلى الآلات الأخرى كالطبلة والدف.
ينقسم غناء السامر ثلاثة أقسام هي “الشتيوة، والغنيوة، والمجرودة”. يبدأ السامر بالشتيوة وهي عبارة عن جملة واحدة متكونة من أربع إلى ست كلمات يتغنى الشاعر بالجزء الأول منها ومعه بعض الأفراد، ثم تردد بقية المجموعة جزءها الثاني بمصاحبة التصفيق الشديد بطريقه خاصة. ومثال على ذلك “هم يداوى/ جرح العين” أو “ياعينى الله حن العجوز/ عند الله دايماً يجوز”. وتُردد الشتيوة بين 6 و12 مرة.
أما الغنيوة، فتلي الشتيوة مباشرة وتسمى “أغنية العلم”. هي عبارة عن شطرات قصيرة قد تكون من ثلاث إلى أربع يغنيها الشاعر ثلاث مرات، تفصل بين كل واحدة منها شتيوة جديدة. عند ترديد الغنيوة تكف المجموعة عن التصفيق والحركة. ومثال للغنيوة: “لو عليك طيرا/ لو عليك طير تشربي مرار/ كي مشربته/ يا يا كي مشربته/ لو عليك طير تشربي مرار/ كي مشربته”.
بعد انتهاء الشاعر من أغنية العلم يبدأ في إلقاء المجرودة، وهي من القصائد العربية وتشبه الأنشودة الزجلية، وقد تصل أبياتها إلى المئة. مثال للمجرودة تلك التي أدّاها المغني البدوي شعبان العبيدي: “بدور جديل مرحب يأبوا. دور جديل/ ياسمح الصيفه يا خايل/ ياللي ماليك مكان مثايل/ مرحب يأبوا دور غمار/ مرحب يا خايل/ مكحول جديلك/ نشكيلك من البخت المايل/ مرحب ياكاحي الإنذار/ مرحب ياكاحي الإنذار”.
يختلف السامر في سيناء عن السامر في مناطق البدو الأخرى نظراً لقرب البدو في سيناء من الحدود واختلاطهم ببدو فلسطين والأردن. يبدأ السامر السيناوي بـ”الرزعة”، وهي بداية بطيئة يقوم فيها الرجال والنساء بدق الكف وهم جالسون، في دعوة أفراد القبيلة إلى حضور السامر. يغني الرجال: “جوموا للرزعة يا شباب يا حلوين/ فى بلاد الزينة موجع للعشاج يطيب/ جلبي في هواهن جرح منهن ما يطيب”.
ثم يبدأ القسم الثاني من السامر وهو “الدحية” التي ينطلق فيها الغناء مصحوبًا بالرقص، فيردد المغنون “دحيوه دحيوه دحيه” حوالي 30 مرة، ثم يأتي “البدع” وهو نوع من الغناء يصاحبه الرقص، ليختم السامر بـ”المربوعة” وهي شكل شعري يتكون من بيتين في مربع شعري يشبه الزجل في تكوينه، بحيث تتفق قافية الشطر الأول مع الثالث والثاني مع الرابع، مثل: “إن دج جليبك يالغالي/ جلبي بيسمع داويه/ ربعك ربيعك يالغالي/ والكل بسيف وشبريّه”.
أغاني الصعيد
يضم الصعيد في جنوب مصر تراثاً غنائياً منفرداً وأصيلاً، يتمثل في السيرة الهلالية (سيرة بني هلال)، وهي سيرة امتدت أحداثها من نجد إلى تونس مروراً بالصعيد. ورغم مرور قرون على وقائع هذه السيرة، فإن الذاكرة الشعبية لأهل الصعيد أصرّت على إحيائها والتغني بها.
تختلف طرائق أداء وعرض السيرة الهلالية، لكن الطريقة الأكثر انتشاراً هي غناؤها، في ما يعرف لدى أهل الصعيد بـ”فن الواو”، وهو عبارة عن مربعات شعرية شعبية قريبة الوزن من “بحر اﻟﻤﺠتث” في الشعر (مستفعلن فاعلن). مثال على هذه المربعات: “جفى الزناتي وقال أخ/ يا تونس تعبتي معايا/ ومالقيت لي خل ولا أخ/ في الحرب يسند معايا”.
كانت السيرة قديماً تقدّم على لسان “الراوي”، وهو شاعر يرتجل المربعات ويتغنى بها، وكان يؤديها وهو يعزف على الربابة، آلة وترية يضرب عليها بالقوس. تغيّر الرواة مع الوقت، وكثيرون راحوا يحفظون السيرة عوضاً عن ارتجالها، ويؤدونها بصحبة عازف للربابة وفرقة من ضاربي الدربكة والدف والرق.
أبرز من أدى السيرة وأكسبها مكانتها هو الشاعر الراحل جابر أبو حسين. سجل السيرة بصوته في نحو تسعين حلقة إذاعية، برفقة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي وزوجته السابقة عطيات الأبنودي.
يُعرف في الصعيد نوع آخر من الغناء، أقل انتشاراً من السيرة، هو المديح. والمقصود به مدح النبي ويسمّى مؤدّيه “المداح”. غالباً ما يغني المداح قصائد عربية موزونة ومقفاة، بعضها من التراث مثل نهج البردة للإمام البوصيري. ويعدّ أبرز مداحين الصعيد الشيخ أحمد التوني، والشيخ زين محمود، والشيخ ياسين التهامي الذي أنشد قصائد صوفية للإمام ابن الفارض والحلاج.
أغاني الدلتا
الريف المصري ثري بعاداته وتقاليده ومخزونه الثقافي الشعبي، وهو ذو باع طويل في الغناء والموسيقى. تتميز أغاني الدلتا بطابعها الهادئ بعيداً عن الإيقاعات السريعة الصاخبة، حتى أن الآلات الموسيقية المستخدمة تقتصر على الناي أو العود أو الكمان.
تقوم أغاني الدلتا على القصص الشعبية، وهي حكايا منظومة في شكل شعري شعبي تتضمن أحداثاً وشخصيات مستمدة من التاريخ، أو من التراث الديني، مثل قصص الأنبياء والكرامات والمعجزات. مثال على ذلك قصة سارة وابراهيم الخليل، التي يقال فيها “لما كملت أيامها/ ولدت ولد هو أمالها/ زعلت وغارت ضرتها/ سارة وقاد في جسمها نار/ قالت له خدها على الخلوات/ ارميها بها من غير رحمات/ زعل الخليل وازداد حسرات/ وقف أمام الاتنين محتار”. أو قد تكون مستمدة من التراث الاجتماعي وتكشف عن علاقات الناس بعضهم مع بعض، فتدور حول علاقة الغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والعلاقات الأسرية، مثل: “اسمع وشوف فعل الدنيا/ في قصة عن سامي وسامية/ قاسى عذاب وأسيه/ والدهر ما يرحمش الناس/ من صغر سامي الناس/ ظلموه حتى الأيام لم يرحموه/ وماتت أمه هي وأبوه/ والناس على الدنيا أنفاس”.
تمتاز الدلتا كذلك بفن المديح والابتهالات الدينية، ولا تكاد تخلو قرية من أتباع الطرق الصوفية الذين يحرصون على إقامة الحضرات بصفة دورية في منزل أحد المريدين. وأشهر من قدم الابتهالات الدينية في مصر خرجوا من الدلتا، ومنهم نصر الدين طوبار وسيد النقشبندي صاحب الابتهالات الشهيرة التي لحنها له بليغ حمدي.
عرفت الدلتا أيضا غناء السِيَر أو الملحمة، ومنها السيرة الهلالية ولكن بشكل مختلف عن السيرة في الصعيد، إذ إنها تغنى كموال، مربعاً كان أو مسبعاً. وهناك من يقدمها عن طريق الشعر، كل بيت يستقل بقافيته.
أغاني القنال
لمناطق القنال المتمثلة في المدن الثلاث السويس وبورسعيد والإسماعيلية أغانٍ بنكهة الهزيمة وطعم النصر، لأنها ذاقت ويلات الحرب، كما يغلب عليها دائماً شجن البحر.
تشتهر مدن القنال بآلة “السمسمية” وهي آلة وترية شعبية تشبه في تركيبها آلة “الطنبورة” التي ظهرت مع العمال النوبيين الذين عملوا على حفر قناة السويس. طوّر أهل القنال الطنبورة وابتكروا منها السمسمية، وكانت السمسمية في فترة ما قبل التهجير تتكون غالباً من خمسة أوتار، لكن ازداد عدد أوتارها ليصل إلى اثنى عشر وتراً، وتم تزويدها بكبسولة كمكبر للصوت، حتى تستطيع الآلة مواكبة الأداء الموسيقي الراهن، ومصاحبة المغنيين فيما يؤدونه من ألحان.
أما أبرز أغاني القنال فهي ”الضمة”. إنها عبارة عن طقس شعبي غنائي ارتجالي يلتقي خلاله الناس ويرددون الغناء مصحوباً بالسمسمية والرق والطبول والدف والمثلث. تُلقب مجموعة مغني الضمة وعازفيها باسم “الصحبجية”، ويؤدون رقصة فلكلورية بحرية تعرف باسم “البمبوطية”. تتنوع أشكال أغاني الضمة فمنها الطقطوقة والموشح والموال والأدوار الفكاهية، ومن أشهر أغانيها “ نوح الحمام والأمري على الغصون/ اه يا عيني يا ليل/ نوح الحمام والأمري على الغصون/ غصون يالالالي/ أورث لقلبي المضني كل الشجون”.
يعدّ “الريس زكريا” من أشهر صحبجية الضمة. وهو أسّس فرقة “الطنبورة” عام 1989 ليحافظ على تراث بورسعيد من أغاني الضمة وتجمعات الصحبجية، وشاركه “الريس إمبابي” و”محمد الدشناوي” الذي أسس بعد ذلك صحبة “ولاد البحر”. أصدرت فرقة الطنبورة العديد من الألبومات منها “نوح الحمام” و”أصحاب البمبوطية” و”سمسمية بورسعيد”، وفي عام 2000 قرر الريس زكريا أن ينشأ “مركز المصطبة للموسيقي الشعبية” والذي يقدم حفلات لفرق التراث الشعبي المصري عامة.
أغاني النوبة
تقع النوبة في أقصى جنوب مصر في محافظة أسوان، ويمتاز أهلها بالطيبة. لقّبت بـ”بلاد الذهب”، وعانى أهلها من التهجير بسبب بناء سد أسوان، وهذا ما شكّل حافزاً لهم ليحتفظوا بموروثهم الثقافي والغنائي، حتى من عاش منهم خارج دياره.
ينقسم مجتمع النوبة جماعتين “الفاديجا” و”الكنوز”، وكلتاهما تتحدث باللغة النوبية “الرطان” إلى جانب العربية. ساهمت الأغاني التراثية النوبية في استمرار اللغة النوبية بين الأجيال الجديدة، لحرص الكبار على تنظيم حفلات للأغاني ضماناً لاستمرار لغتهم الأم.
الغناء النوبي غالباً ما يكون جماعياً وتصاحبه آلة الطار، وهي عبارة عن إطار خشبي رقيق على شكل دائرة بالإضافة إلى الطنبورة وهي آلة وترية، والدف والعود والطبل.يمتاز الغناء النوبي بلحن واحد ولكن بإيقاعات مختلفة، وأبرز هذه الإيقاعات عند جماعة الفاديجا إيقاع “الكوم باك” وهو الإيقاع الرئيسي للرقص عند النوبيين، وإيقاع “نجر يشاد” وهو خاص برقصة الكف، وإيقاع “شكّا” وهو قريب من إيقاع الكوم باك، إلا أن محدود الاستخدام، وإيقاع “فندي جالينكو” وهو خاص لرقصتين هامتين هما “بلاَّجة” و”فري”. أما جماعة الكنوز فلديهم إيقاعا “الهولي هولي” و”الصفصافي” اللذان غالباً ما يصاحبان رقصة الكف، وإيقاع “السوكيو”، وهو سريع، يصاحب معظم الأغاني العاطفية، وتشترك الجماعتان في إيقاع “كومبان كاش” وهو لأغاني السمر وأغاني الموال البطيئة.
كثيراً ما يغني النوبي للنيل والأرض والحبيبة، والشكل الشعري الذي يعتمده هو الرباعية. خرج من رحم فن النوبة الأصيل مطربون وموسيقيون حقّقوا نجاحاً كبيراً، مثل “علي كوبانا” أول من أسس فرقة نوبية في مصر.
طافت هذه الفرقة العالم تحصد المراكز في المهرجانات الدولية، فشاركت الأوبرا الفرنسية الأوركسترا الخاصة بها، وقد حصد كوبانا عضوية اتحاد الموسيقيين العالميين. من مغني النوبة المعروفين أيضاً حمزة علاء الدين، الذي لا يقل شهرة عن كوبانا، ومحمد حمام، وأحمد منيب، وأخيراً محمد منير.
مصادر المعلومات: كتاب “الأغنية الشعبية بين الدراسات الشرقية والغربية” (مجدي شمس الدين) - “دراسات فى الأدب الشعبي” (إبراهيم عبدالحافظ) - أوراق في الثقافة الشعبية (عبدالحميد حواس) - أشكال الغناء الشعبي في الشرقية (حامد أنور) - السيرة الهلالية في صعيد مصر (أحمد الليثي) - مقدمة في التراث الشعبي (محمد الجوهري) - مولد البطل في السير الشعبية (شمس الدين الحجاجي) - النوبة حكايات وذكريات (محي الدين شرف) - مجلة الثقافة الشعبية البحرينية (العدد 23 والعدد 25).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...